mercredi 30 novembre 2022

تفاؤل // إبراهيم جعفر // مصر

 

******تفاؤلّ******

افــتـحــــــــــوا الشـــــبابـيـــــــــــــــــــــك، لنور الـشـمـس
اعـشـــــــــــــــــــــــــــــقـوا الغُــــــنــا ، وبـــلاش الـهـمـس
ازرعــــــــــــــــوا الأمـــــــل، بالـعـــــمـــل، وبـلاه الـيـأس
الحــقد، اطـــــــــــــــــــردوه، من حـنايـــــــا الـنــفـــــــس
يصـبح الكُــــــــون جـمـيـــــل، وأنـتـم رُهــاف الـحــس
////////////////////
****** الــحُــلـم ******

يا اللي الحلم، مقصــود ك، وطـبعك، يا جـمال طبعك
مـحـبـــوب بـيـن الـناس، ومحــبـه كــده، على بـعـــضـك
ســــــيـرتـك، ديــما بالـخـيـر، وعـن بـيـــــاض قــــــلـــبـــك
الســـــــفـيــه بـ تحـتـويـــه، وعُـمـره ، ما يـثــيــر غــضـبـك
وأي خــلاف وشـــجـار، بيـكـــون الصُــــــلـح، على يــــدك


******الــســــــــمــاح ******
الســــماح، مُـروءة، ومُـرونـة، وقُـوة، وطـريــــق فـــلاح
لا هو ضــــــعــف، وذلـة، وانـهـزام، وانـكـســــار جــنــاح
الســماح، هــيـبـة، وطـيــبـة، وعــزة، وســــــفـيــر نـجــاح
لا هو خُــوف، وهُــــروب، ورد الـبـاب في وش الـريَّـاح
السـماح، ضـمـيـر صـاحي، عـلى فـراشُـة، يـنـام مرتـاح

 
****** الإحــســــــــاس ******
قالوا: في الأمـثـــال، جــنــة مـن غـيـر نـاس ما تـــنــداس
قُـلـت: نـاس، مـن غـيـر إحـســـــاس، الدُنـيـــا مـا تــنـداس
هـو في المـحـبـة، المودة، وفى الإخـلاص هو الأســاس
دفـــــــــــ ء، ورحـــمـة ،وقـــمـر، بـ يـــــنــور، قُـلوب، الـنــاس
بـ يـعـرف الصـــدق، من الزيـــــف، والجــــدع من الهـلاس.

 
من ديـواني " مـخـمـسـات الأُمـسـيـات "
مـخـطـوط لم يـطـبـع بـعـد







lundi 28 novembre 2022

تغازلني ...// ثامر الخفاجي // العراق

 

تغازلني

والكلمات طوع بنانها
وأنا تتوه
على شفتي كلماتي
العمر شابت ذوائبه
والقلب
ماعاد يقرأ المستور
من همساتي
وماعاد يطربه
عزف على وتر
ولا رنين كأس
براح الغانيات
تعالي من جديد
نرسم الحب
بلا وجع بلا عتب
بلا آهات
أكون لحرفك
قيس قصائدك
وتكونين لي
ليلى القافيات
وفي سمائك
انا النجم الوحيد
وفي سمائي أنت
أحلى الراقصات.





عرق الأسئلة // يحيى موطوال // المغرب

 

أفكّ أزرار سري
أخلع عن ذاكرتي
وزرَ أمسي ..
لا أهتمّ لعَرق الأسئلة
العالقة في ذهني ..
أستلقي
رجفةَ سقوط ذابلة
على سرير وجعي ..
أتذكر
أني لست
الأول
ولا الأخير
ممّن ترك وراءه
الكثير منه
ونام/مات.
أستيقظ لأطفئ
همسي في عتمة الجنون ..
أسترخي
كابحًا بآهي
شهقة الغسق المرير ،
زفرة لغة تتلظى
في تفاصيل الكتابة .
أحاولُ عبثا
أن أوقظ هوسي ،
أكتب شيئا آخر
غير الذي
ألِفَت أناملي غزلَه ،
لا أتقن فن الإشارة
" موضة الحب الإلكتروني " ،
أدسّ فقط
في حلق الفراغ
همسًا محترقا .
أقطن وطني القديم
محاربًا منهكًا
يصرخُ
في وجه التاريخ الممزق .
أحلم بأني شاعر
نسيت أنامله
عزف البهاء !!.
لا أتذكّر
صوتَه / شكلَه
وهو واقف
على عتبة النص
يحرق
نبوءتي المؤجلة ،
يوزّعُ
شهوة الكتابة
دهشة المجاز
وأنا أغرق
في شتات البياض .
لم يتبقَّ منه
إلّاي
نصنعُ من ملح السراب
جثمان قصيدة منسية ،
وحماً
لولادة الحياة .






mercredi 23 novembre 2022

نبوءة // جواد البصري // العراق

 

فوق..
عروش البسمة
هواجس
تقطب حاجبيها..
كلما لاح لها شظفٌ عابر
كأن نبوءة..
اختطت مسارها،
في الشعاع الأول للفجر الكاذب
تواً
حيث كبوات الشهيق
تترنح،
في جبانة الغياب..
وصلوات الصهيل عادت بها..
إلى النهر الذي شهد التيمم..
ذات انحسار.






رواية آلام الخلاص : ج 12 : فريدي نكاش // أحمد البحيري// مصر


لا يمكن أن تكون هذه حشرات طبيعية. الصيدلانية العجوز بندكت كادت تجن. اقتربت من التسعين وتفهم ال ( فارماكولوجى) قبل أن يكون علما، وما رأت مثل ذلك قط. الصيدلية الأشهر ب ( بورت مونتراى)، يظهر بها حشرات عجيبة. ومهما قاموا برش المبيدات وأدوات التطهير لا تنقطع الحشرات. إيفا أكبر موظفة بالصيدلية تعبت من كثرة الرش والتنظيف. لديها أربعة عمال وما تركت ركنا بالصيدلية الكبيرة التى تأخذ ناصيتين ويفضى إليها سلم المترو المتحرك دون مسحه وتنظيفه، ومع ذلك تظهر الحشرات. نحو أسبوع وصار طاقم الصيدلية كله يعلم ذلك، ولازالت الزبائن تجهله. الصيدلية مأذون لها بالعمل أربع وعشرين ساعة،
والعجوز بندكت مجهدة ويداعبها النوم. تنظر فى ساعتها لتجدها تتجاوز الحادية عشرة بقليل. وقبل أن تضع جانب وجهها المتغضن على سطح مكتبها الزجاج البارد، تلمح ويسلى يقف أمامها، يتأملها وهو يضحك. قالت: أهلا بالمهندس الصغير. جئت بوقتك. اجلس لأتسلى معك. مسح ويسلى يده على وجهه المستدير كمن يمسح عنه العرق رغم برودة الطقس. ثم انشغل بتنظيف عدسات نظارته الطبية بفوطتها وراح ينتظرها. قالت: بعد عملك مع فريدى مهندسا بشركة جو كيف حاله معك؟ قال وهو يقترب من أذنها: فريدى أحيل للتقاعد من الشركة قبل أن أعمل بها، صار متفرغا لشركته. قالت: هذا جيد لك. وراحت تنظر فى الأفق جهة أحد الأركان وتقول: هذه هى الحشرات. قال: أى حشرات؟ قالت: أما حدثتك عنها؟! نوعان من النمل، صغير وكبير، هذا الكبير يطير. وقف ويسلى متعجبا لا يكاد يصدق ما يرى. كانت أمه لازالت بالصيدلية مشغولة بالعمال حتى ترحل مع بندكت بمنتصف الليل. وكان الصيادلة الشبان يتوافدون الواحد تلو الآخر للمناوبة. ويسلى عاين أمارات الفزع فى وجه العجوز فارتعد. كيف له أن يطمئنها بعدما جاء فى موعده؟ خرج من الصيدلية واتصل بالشاعر فان سان، ثم البهجة، ثم العداء أرتور. وفى ظرف خمسة عشرة دقيقة تأكد أرتور أن موسى نصار لازال بمنطقة ( بورت مونتراى)، بالمقهى المواجه. وأنه فى الطريق لويسلى بالصيدلية. دخل ويسلى متهلل الوجه يبشرها، حين رأى موسى يدخل من الباب. قبله وهو يحييه وطلب منه الاستماع للعجوز. جلس موسى قبالتها وأعطى لها أذنه وراح يحرك رأسه. حتى إذا قالت انظر هذه هي هل تراها؟ حدق موسى وهو يضحك ويقول: لا، لا أرى أى شىء. ثم استدرك قائلا: نظرى ضعيف، ربما لو نظرت بالنظارة رأيت. ونظر لويسلى وهو يطلب كوبا يمتلئ بالماء. وطلب من العجوز أن تهدأ حتى ينتهى. أخذ موسى نحو عشر دقائق وهو يقترب بالكوب من فيه ويتمتم على الماء. ولما انتهى راح ينثر الماء في الأركان وفى الهواء حيث تشير العجوز. كان لا يكف عن التلاوة وهو يفعل. وبعد ربع ساعة أخرى سألها: أمازالت الحشرات موجودة؟ قالت وهى تنظر لويسلي: يا إلهى!! هذا مستحيل. إيفا؟ أين أنت؟ لقد اختفت بالفعل. في هذه اللحظة وضع موسى نظارته الطبية على عينيه وأخذ ينظر حيث ينظرون، فما وجد أى حشرات زاحفة أو محلقة. اجتهد ليرى جثة واحدة من أى من النوعين التى أخبرت عنهما دون أن يفلح. لكن حالة السرور التى سادت وثناء بندكت وايفا على ويسلى وعليه، جعله يتسرب من بينهم سريعا، ويركب سيارته إلى ضاحية ( سيرجى بونطواز). فر موسي وخرجت إيفا من الصيدلية سعيدة، وبقى ويسلى مع العجوز. لقد جلب لها الطمأنينة والسكينة بالفعل، وجلس يتصفح وجهها وينتظر ما سوف تقول. لولا أرتور ما انتهت المشكلة بتلك السرعة. سأل أمه التى أخبرته بمكان موسى على الفور. إنه السبت ولابد أنه مع هؤلاء الذين يعملون معه بالمقهى بليلة العطلة. لقد أفاقت بندكت وبدى ذهنها ينشط ويتأمل ما صار. شيء يشبه الحلم. ولما سألت عنه، قال ويسلى وهو يضحك: هذا مصري يعمل مع والدى من سنوات. قالت وعيناها تتسعان: أها، يعمل مع والدك!!. حين وقع عليه نظري تأكدت أنى رأيته من قبل. قال ويسلى: نعم، إنه يبقي كل صباح وأغلب مساءات العطلة بالميدان. إما بالقهوة المجاورة هناك، أو لدينا بالبيت. قالت بندكت: لكن هذا الرجل ليس طبيعيا. سألها ويسلى: كيف؟ قالت: نظرته وتبتله، وخفة حركته، توحى باتصاله بالناسوت وليس اللاهوت. ضحك ويسلي ووضع ذراعاه مشبوكتان بين فخذيه، ومال برأسه حتى اقترب منها وهو يقول: هذه أمور لا أفهمها دكتورة. لكنها ربما تفسر عدم حب أمي له. سألت مبتهجة: وهل لا تحبه إيفا؟ قال: نعم ولو سألتيها لم ما عرفت كيف ترد؟ اتسعت عينا بندكت من جديد وهى تقول: يا إلهى، هذا مستحيل، لقد فهمت. إنه حقا كما قلت. يشبه الحاخام والراهب لكنه مسلم. سألها ويسلى: هل أردت أن تقولي أنه يتميز عن غيره من المسلمين. نظرت العجوز حولها ثم مالت على أذنه وهى تقول: نعم يا صغيرى، يتميز عن غيره من المسلمين والناس أجمعين. لقد قرأت في ذلك لفترة طويلة. السحر الاسود الذى يصنعه اليهود لا يوقفه إلا هؤلاء. والآن صار لدى يقين؟ قال ويسلى: بماذا؟ قالت بالحشرات. أقسم أنها ما كانت طبيعية. أما تؤمن بالمنطق الرياضى؟ قال نعم. نهضت ووضعت فيش ال ( بينوكلر) فى الحائط، ثم لبست كفوف جلدية خفيفة وامسكت الجثتين التى أبقت عليهما بالملقاط. وضعت الأولى فوق الشريحة وراحت تدير العدسة لآخر اتساع لها ثم جعلته ينظر. قال بعدما رأى: ما هذا؟ قالت هذه نملة صغيرة. ثم شالت الجثة من على شريحة الجهاز ووضعت الأخرى، وظلت معها بالعدسة حتى اتسعت وراقت وجعلته ينظر. قال ويسلى: وهذه نملة ذات أجنحة. شكرت عقليته وأردفت: لو رجعت لأنواع النمل ما وجدت لأى منها أجنحة إلا إذا كانت طفرة غريبة لبعض الوقت. قال ويسلى: أجنحة بيضاء خفيفة تكاد لا تظهر. وضعت نظارتها على عينيها الغائرتين وهى تقول: نعم، لكنها موجودة. سألها ويسلى بعدما عادت وجلست على الكرسي: هل أنت مؤمنة بندكت؟ فركت وجهها حتى أحمر وهى تقول: من أمضى عمره مع البكتيريا والأكسينات والكائنات الدقيقة لا يسعه إلا أن يكون مؤمنا. قال الشاب وهو يقف خلفها ويدلك كتفيها: ولابد أنك معى أن الشيخ موسى على حق. أتعرفين أنه داوى راشيل من السحر ورفض أى أجر. لابد أن إيفا حجبت هذه عنك. سألت: أحقا فعل؟ قال نعم. قالت وكيف وصفته إيفا؟ قال ويسلى: وصفته مرة بالساحر، وآخري بالكيماوى. قالت وهى تضحك وترفع كفها حتى تنهض: إنه ليس هذا ولا ذاك. هذا روحانى يتصل بالماوراء كما اخبرتك . قلما تجد هذا الصنف من الناس بهذا الزمن. هؤلاء مثل الأجنحة البيضاء الخفيفة التى رأيتها على النملة. قال ويسلى وهو يضع كتفه متكئا لها حتى تصل السيارة: نعم دكتورة، لكنها موجودة، موجودة ولما استقرت في الكرسى ووضعت حقيبتها الجلدية أمامها، والعكاز المعدنى إلى يسارها، واغلق سائقها الزجاج، كان آخر ما قالت لويسلى: دبر لنا موعدا مع هذا الإنسان.
***
انصرفت العجوز وصعد ويسلى؛ فوجد إيفا تدخن صامتة. كانت تجلس بمكانها المخصص على كرسي ذات مساند، ورأسها غائبا. كانت تفكر في الرجل الغريب الذى أحدث شرخا فى العائلة. منذ داوى راشيل وسيرته لديهم فاشية. حتى جو الذى لا يطيق ذكر كلمة مسلم، بات يبجله. لقد تحدثت معه بخصوصه من قبل، وما قال بما يوقف لديها مد الكراهية. إن له وجهان وشخصيتان تحفظهما من طول العشرة. الأولى تتسم بالسخرية والهزل وتظهر عليه أغلب الوقت. والأخرى جادة حكيمة تظهر عند المحنة، حين يشعر باقتراب الهلاك. وبينما هى كذلك يدخل فريدى ويلقى عليها التحية. أرادت أن تتحدث معه بخصوص صديقه، وأحجمت فى آخر لحظة. إنها تمرن نفسها كثيرا على ذلك. حين ترغب فى التعتيم على شيء تحاول أن تنساه. لسانها لايذكره البتة. ولو تحدثوا أمامها بخصوصه وطلبوا رأيها، امتنعت عن ذكر ما تكره وجعلت الفعل مبنيا للمجهول. بذلت أقصى ما بوسعها وجاء ويسلى لأبيه وأخبره. قال فريدى: لقد كان معى وغاب خلسة بعدما رن هاتفه. أشار لى بيده مفرودة أمامه ولم أنتبه. قال له ويسلى: اتصل به واشكره. قال فريدى: ليس الآن. لو اتصلت به لن يرد. إنى أعرفه جيدا. كيف أخبارك أنت مع جو؟ قال ويسلى: على ما يرام. إنه لازال لا يعرفنى. دع الأيام تمر حتى أعرض عليه. لا أريد أن أكون محسوبا عليك. وأحاط رأسه بكفيه وهو يقول: هذه تمتلئ بأفكار عدة، أريد أن أنهض بإحداها. فقط قطعة أرض فضاء تبلغ ألفى هكتار أو ثلاثة آلاف، وانا كفيل بالباقى. لو تصفحت الضواحى لوجدت كل ضاحية ذات تصميم مختلف. أريد أن أخطط لضاحية تصير أهم من وادى السليكون. ابتسم فريدى ابتسامه عريضة لولده وهو يشد على ساعده، ولما رأى إيفا تنهض عن الكرسي وتغلق النافذة، سبقها لغرفة النوم. مع ساعات الصبح الاولى والمطر يتساقط. لازال الطقس خريفا لكنها نوبة شتوية. فالأمطار تتساقط على المدينة تقريبا طيلة العام. باستثناء يوليو واغسطس يحمل السكان الشماسي اتقاء للمطر. إنه صباح الأحد ولا حس ولا حركة بميدان ( بورت مونتراى). ارتفاع البرودة جعل الماء ينزل على الأرض فى خيوط ثلجية. ولولا دفقات الهواء التى تهب قوية، لتراكمت الخيوط وكست الأسفلت. ورغم هذه النوبة الشتوية، يتلاشى الهدوء بأسرع وقت. ثمة سوق للآلات والعدد القديمة يعمر بالرواد على مقربة من هنا. فنيون بالادوات الكهربائية وأعمال البناء وأجهزة الكمبيوتر يشترون ما ينقصهم بأزهد الأسعار. ها قد أخذوا يخرجون من فتحات المترو كالجراد. فريدى بقهوته فى البلكونة يتسمع أصوات العصافير ويكشف كل الميدان. كل الصباحات التى تبدأ معه هكذا تصير مبهجة. إنه علامة من علامات الميدان. مثل شيخ الحارة يعرفه الجميع. ينظر لوقع أقدام البشر على الثلج ويغوص في الذاكرة. ويقول فى سره بين وقت وآخر: لولا خالى لتعلمت العبرية وترددت على المعبد. هذه العصافير الجميلة، والشمس الغائبة، والثلج وأقدام الإنسان، أما كانت تكفى منذ البداية؟ كيف كنت فظا بغيضا كل هذا الزمن؟ ومع ذلك لم يعاقبنى ربى أو يبتلينى. يضع فريدى رأسه على مسند الكرسي الخلفى ويزفر في أطرافه الباردة. ثم يقع نظره على العم موريس فى بلكونة الطابق العلوى ببيته فوق المقهى. لقد رآه يتلفت فى أفق كل جهة، كمن يبحث عن الشمس. حياه بذراعه، وصفر بوضع أصابعه بين لسانه وأسنانه حتى رآه. يتعجب فريدى من فترات اختفاء هذا الرجل. يتساءل وهو يرمقه بعينين متوثبتين: أين يغيب، وماذا يعمل أثناء اختفائه؟ ولأول مرة يستدعى خاطره موسى نصار ويقارنه بهذا الضخم السمين. لقد كان أقرب الناس إليه حين ماتت أمه. ولما أقلع عن الشراب و مطاردة النساء، كان يسد الشارع أمامه بكلبه الضخم. يتذكر فريدى ليلة ضياعه بحى المدينة القديم. حين راح يحوم حول فنانة روسية تقضى أغلب الوقت حول كنيسة القلب المقدس. متخصصة برسم البورتريه ولها دلال وأنوثة لا تقاوم. كان يريدها وتتمنع، وكلما خطط لخطفها وجد العم موريس بلحيته الكثة الكبيرة وكلبه الضخم يحول بينه وبينها. حدث ذلك بحى المدينة الثامن عشر، أما بالنسبة للميدان؛ فلا يظهر به إلا للنهوض بعمل. يقول فريدى فى نفسه: بضع سنوات لم أره بالنهار، ترى ما الذى حمله على الظهور الآن؟ يتذكر أقواله ونصائحه، وكلامه الذي لا يفهمه عن الإله. إنه يرتاح إلى حديثه ولا يبالى بنمط حياته الفوضوى. فهو صاحب العمارة المقابلة، ويقضى أغلب الليل بالشوارع وربما نام بكلبه على الرصيف. وكثيرا ما أخذته الشرطة مع الشاردين إلى مبنى البلدية، ونزعوا ملابسه بالقوة ليستحم ويرتدى غيرها نظيفة. لقد ازداد فضول فريدى وانشغل عن هوايته بمتابعة الميدان. وجد بداخله طاقة جذب مفاجئة؛ فعاد لصفيره، وما هدأ حتى رحب به البعيد.صعد إليه وسلم عليه بأعصاب مشدودة وهو يطالع لحيته الطويلة ويدقق فى بياضها. ولما أشار له بالجلوس، جلس كالمشدوه يترقب قوله. العم موريس عارفا بالتراث اليهودى عبر تاريخه الطويل، من جزر الخزر إلى مزاعم دولة إسرائيل. وكثيرا ما حاول نقل بعض خبرته لفريدى لكنه لم يأخذ الأمر مرة على محمل الجد. وفى هذا الصباح الخريفى المطير بات كلا الرجلين يبثان على موجة واحدة لها اهتزاز واحد. يقول العم موريس: أهم مراحل هذا التراث: (قبالاه الزوهار، والقبالاه المشيحانية). الأولى يمكن وصفها بالنبوية لأنها توحيديه. أما الثانية فهى الأكثر انتشارا وضررا وهى حلولية. الأمر كله منوط بطريقة التفكير في الإله. القبالاه المشيحانية تفكر في ماهية الإله لا فى صفاته وأفعاله. كان العم موريس يتحدث باسترخاء كأنه نائم. عيناه غافيتان كأنما تنظران داخله، ولا يتفاعل أى من أعضاء جسده مع قوله. ثم نظر فجأة في عينى فريدى وهو يقول::فرق شاسع أن أسألك ما ربك، ومن ربك؟ هز فريدى رأسه موافقا. أردف العم موريس: الصنف الثانى هذا يغلف الإله بطبقة حلولية تراكمت من العهد القديم والشريعة الشفوية. وانعكست من خلال شيوع أفكار مثل: شعب الله المختار وأمة الروح والأرض المقدسة. التفسيرات الصوفية وضعت تلك الطبقة الحلولية محل التوراة والتلمود. وهى موجودة لدى الجماعات اليهودية في العالم عبر التاريخ. لاحظ أن هذا التراث شفاهى فى أغلبه لا يسمح بإعمال العقل كثيرا. وفى العصر الحديث فكر سبينوزا فى الإله بمنطق حلولى أيضا، وصار الفكر الديني اليهودي ينحو فى جوهره منحى حلولى. والصهيونية هى النقطة التي تظهر عندها الحلولية بدون إله. هل تفهمنى أيها الحيران؟ وضع فريدى (ماج) القهوة الذى أتى به إلى جواره على أرضية البلكونة، وفرك وجهه وبدأ يقترب من الرجل الغريب ويقول: قليلا، أفهمك قليلا. كان يجب أن أجلس إليك واسمع منك من زمن. أنت أكثر فائدة لى من خالى. كأنك كنت تنادينى وافر منك. نعم أفهم أن هذه الطائفة التى تسميها المشيحانية ما صاروا يهودا. عقيدتهم حلولية غنوصية وليست توحيدية، وهذه هى الخديعة الكبرى. ربت العم موريس على كتفه بامتنان وراح يقول. القبالاة النبوية تدور فى إطار توحيدى، مبعثه الإيمان بإله واحد يتجاوز الإنسان والطبيعة والتاريخ. أما الحلولية، وتعنى حلول الإله فى الإنسان والطبيعة والتاريخ، ويصفونه بوحدة الوجود، فهذا ما أسس للصهيونية العالمية. إن التصوف الحلولى لا يتجه نحو تطويع الذات الإنسانية لخدمة الإله، وإنما يحاول الوصول إلى فهم طبيعة الإله من خلال التأمل والاستشراف والعرفان بهدف السيطرة على الواقع. من هنا كانت علاقتهم دوما طيبة مع السحر. هل فهمت؟ قال فريدى وهو يسوى شعره الطويل ويقصعه للخلف: نعم فهمت. ولا أريد ازعاجك أكثر من ذلك بعدما ذكرت السحر. ووقف ينظر للميدان وبيده ال ( ماج) وهو يقول: صباحك شريف جدا سيدى.
***
مرت العطلة، ومع صباح الإثنين ذهب موسى إلى جو كما طلب منه فريدى. كانت النوبة الشتوية قد انخفضت قليلا وظهر ضوء النهار رغم عدم ظهور الشمس. وكان جو ثقيلا وحزينا وإن حاول أن يبدو غير ذلك. شيء ما كان يشغله وهو يتحدث مع موسى. شيء يتعلق بالنشوة والامتلاء، كأن جانبا كبيرا من روحه صار مظلما. السيدة التى بدلت أرضية مكتبها قبل أربع سنوات، تبغى تبديلها من جديد، وتطلب موسى بالإسم. سأل موسى: أي سيدة؟ رد جو: مدام فيوليت ، كيف نسيت الحسناء التى تسكن الحى السادس عشر؟. قال موسى: نعم تذكرت، تلك التي مشيت إليها وقتما ماتت أم فريدى. قال جو: لقد أعددت لك كل شيء. وعليك الاحتراس حيث تبيت السيدة بمفردها بالمكتب. خذ وقتك واتقن عملك حتى نكسب هذه السيدة. ولا تطلب منها التوقيع على أية فواتير؛ فحسابها خالص. أوشك موسى أن يسأله عن حاله، وتذكر أن النهار بأوله، وأنه لا يتحدث بغير العمل بهذا الوقت. ولما وجد عنوان السيدة وأرقام هواتفها مدونة فى مذكرة هاتفه، حياه وانصرف. فى الثامنة تماما كان موسى أمام المكتب يفرغ سيارته من حمولتها. راح يطالع بالكونة الطابق الرابع والهاتف على أذنه. ولما نفد صبره، مشى إلى ال ( هد فون) وضغط مطولا على الزر. بضع دقائق وجاء صوت السيدة متقطعا ومضطربا يقاوم الوسن: الو، من؟ رد موسى: شركة سان نيكوتيرم مدام. قالت: أوه، لحظة واحدة أفتح لك باب العمارة وباب الشقة. وبعدما نقل أدواته وألقى عليها التحية، دخلت غرفتها واوصدت بابها. وقف موسى ينظر لطرف الموكيت القديم. لقد أتى ببضاعة مستحدثة ما كانت موجودة وقتئذ. عدة كراتين بطول وعرض نصف متر. بمجرد لصق أربع وحدات يبلغ المتر المربع. لكن عليه نزع الموكيت القديم أولا. وفى حال خرج مع الكلة بعض الأسمنت، سدده أولا وسنفره. أما إذا بقى شيئا من طبقة الموكيت القديمة على الأرض، خربشه وأزاله بالموسى. وقف ينظر يمينا ويسارا في جنبات الصالون، ثم نزل بالكتر المعكوف على النقاط التى أرادها. هكذا يستطيع نزع كل قطعة على حدة. فى هذه الأثناء عادت فيوليت للظهور. كانت ترتدى ملابس رياضية ضيقة، وقد وضعت طاولة صغيرة بين كرسيين بالكلوار الضيق. ووضعت عليها زجاجة (ويسكى ديورز) وكأسين، وراحت تشير لموسى وهى تجلس. ملأت كأسها وشربته بحركة سريعة جرعت واحدة، وراحت تتبرم وتتأفف لعدم شرابه. سألها: هل أنت (ألكوليك). قالت نعم وشفتاها البارزتان ترتعشان. قال: رغم أنك صغيرة وجميلة، وهيئتك من عائلة محترمة. قالت وهى تهرش جنبها: نعم عائلتى محترمة، زوجى هو الذى أتعبنى. سلوكه الجنسى وساديته جعلتنى أكره الجنس. ما رأيك لو أساعدك ونتكلم. شال الطاولة والكرسيين والزجاجة من الكلوار الضيق، ودخل أمامها الصالون. وكلما حاول نزع الشرائح التى حددها راحت تحتك به وتنزع معه. ولما رأته يحمل ما نزع إلى المطبخ، صارت تسبقه وتتراقص أمامه ضاحكة: تحذره أن يسقط عليها. ولما رأته يغير شفرة الموسى، ليكحت ما علق من طبقة الموكيت القديمة، صارت تقلد صنيعه. أمسكت موسى يخصها، وصارت تتتبع ذاك البلاستيك العالق فى الكلة اليابسة. كانت توازيه خطوة بخطوة وتحدثه عن جسده وصحته ودقته فى عمله. ثم صارت تسبقه وتجثو على ركبتيها وتصنع بجسدها بعض حركات إغراء. لقد كانت تتأمل جسده بسهام من نار. تقيس سرعة نبضه وتنفسه على وقع حكايتها مع زوجها السادى وكلما شعر موسى بالتعب نهض عن الأرض، وغير مكانه. لم تدعه يصنع إلا عادت تحبو أمامه من جديد. حتى راح يجمع الكناسة التى كحتها وبعض القصاصات المتبقية؛ ففهمت وجهته وسبقته إلى المطبخ. وقفت خلف الغسالة منثنية الظهر وقد ضيقت عليه، ولما رأته يدخل المطبخ ليعد القهوة، خرجت من الشقة ولم تعد إليها حتى خرج منها.
ثلاثة أيام وانتهى موسى من تغيير أرضية مكتب مدام فيوليت دون جور على مبادئه أو خسارة الشركة لها. ولما اتصل بجو وأخبره لم يذكر شيئا مما صار. كان قد عزم على إبلاغه حتى يتأكد من سلامة نيته، لكنه أحجم فى نهاية الأمر. سأل وما الذى يدفعه للتآمر ضده بعد إقراره بإفادته؟ صحيح أنه صهيونى لكنه لا ينكر وجود أناس أصفياء ولم ينو أبدا محاربتهم.ليس ذلك فقط بل يتزلف إليهم ويدافع عن من يعرفه منهم بغيابه. لم يكن موسى وحده الذى لاحظ ظلمانية جو، بل أغلب هؤلاء الذين يعملون معه ويعرفونه جيدا. غابت شخصيته المرحة وايحاءاته الجنسية المصحوبة بالهزل. وبدا شاخصا كمن ينظر شيئا أمامه، وبين الناس صار يغيب. فحين رآه فريدى يوم الخميس وتحدث معه، نصحه باستدعاء الطبيب. وبالليل حث أولاده الذين لا يعيشون معه على زيارته. أخبرهم أن نفسيته مريضة ولا يفضفض أو يبوح لأحد. كما صار يتحدث عنه مع إيفا وويسلى بقلق وتطير. فريدى يعتبره والده بعد والده. ذكرياته عن والده الأصلى مزجاة، أما جو فقد دخل فى تكوينه قبلما يتم العشرين. تلتقط بولا رزاز الكلام وتهجم على والدها. صارت مراهقة شرسة تغضب إذا صار أمامها ما لا يروق لها. وكثيرا ما قال لها والدها أنها لن تجد شابا يحبها ويخرج معها. قصيرة القامة بارزة البطن ترتدى سترة واسعة لها كبوت. ولمعة عيناها التى تشبه عينى أمها لو رآها والدها، غضب وتعكر. قالت بعدما رمقته بنظرتها المتغطرسه: لا تقلق. ما لك تتحدث عنه كأنه سيموت قبل شروق الشمس؟ إنه أقوى منك بكثير. وغدا يتعافى ويزورنا، ويجلب الشوكولا التى أحبها. ضحك ويسلى واشاح بيده على بطنها. والتقطت أمها الخيط وراحت تنظر لأبيها بأماكن ذات مغزى بجسده وتقول: لقد صار يتفكر فى الموت لا فى الحياة. صار يتأمله مليا ليتعايش معه. غير أنه لازال به رمق. أحيانا يصحو من النوم يتكلم. أسمعه بين صراخ وجلبة يركض كمن يبتغى الهروب. قالت باولا وهى تقهقه: ربما يفر من تاريخه وذكرياته التى يرفضها. أو أن واحدة من العاشقات القدامى لازالت تطارده. أبى كان ( دون جوان) حتى ماتت جدتى، وأنا أحبه الان أكثر. ظل فريدى شاخصا لا ينبس ببنت شفة. على وجهه ابتسامة حسرة وقد زهد في مجرد الكلام. ترك الأسرة فى ساعة النميمة اليومية وتكون عادة قبل النوم بقليل. حين يجتمعون بالصالون بثياب نومهم قبل الولوج إلى غرفهم. تركهم ينامون وذهب يحاكم نفسه في البلكونة وهو ينظر للميدان ولا ببصره. إنه لم يكن يوما متشائما، فما باله يتألم؟ أم أنه التقدم في العمر والعجز وقلة الاحتمال؟ وهو صغير كان يتعجل الأيام ليصير رجلا. موت أبيه المبكر غرسه فى الواقع غرسا. كان قد تمنى أن يعيش طويلا رغم الفقر الذى نشأ فيه. ولما كبر واغتنى ورأى أعز ما لديه يمرضون ويتألمون، أعرض ذهنه عن فكرة طيلة العمر. فريدي صار يمضى ثمانية ساعات على فترتين أسبوعيا من وقته لصالح جمعية تعتنى بمرضى الزهايمر. ومن كثرة تردده عليهم بات إذا ساء مزاجه يرى نهايته بينهم. يجلس فريدى مرهقا وثملا من الحزن. تستدعى ذاكرته كل لحظات الحزن التى تجرعه فى حياته. بل إن حزنه يبدأ قبل حياته بكثير. منذ فرار جده وجدته وأمه من المحرقة. يفرد ذراعاه على مسندى الكرسي ويركن رأسه للحائط. وبينما يستجمع أعصابه ويشعر بلحظة سكينة يرى العم موريس بلحيته الكثة الكبيرة وكلبه الضخم يخرج من باب عمارته. الفضول الذى استبد بفريدى جعله يبدل ملابسه سريعا ويتبعه. راح يمشى بخطى متئدة حذرة لا يريد له أن يراه. ويخمن في المهمة التي خرج لها بهذا الطقس الخريفى الماطر. لليوم الرابع على التوالي لا شمس فى سماء المدينة. فى الثلاثة أيام الأولى كان الأفق مكفهرا مسودا، واليوم ظهر الضوء رغم غيبة الشمس. وال (نياج) لازال يتراكم بالقرب من الأرصفة. والهواء البارد الذى يهب بقوة من تفريعات النهر المختلفة، جعل الشوارع فى حالة من الخمول. لا شيء سوى العم موريس السمين ذو اللحية الضخمة غير المشذبة، وكلبه الأسود الذى يزن أكثر من مائة وعشرين كيلو جرام، وفريدى خلفهم يتلصص عليهم. ظل الرجل يدخل من شارع إلى آخر حتى خرج من الحى. كان يسير كمن يعرف بوصلة كل شوارعها خلفية. يقصد مكانا ما، ويرجو بلوغه من حيث لا يتوقع أحد. ثم تعجب فريدى من وقوف العم موريس بكلبه ليسد شارعا جانبيا بجوار كنيس يهودى. صار يضحك فى سره وأخذته نشوة وهو يقول: هكذا يصنع المؤمنون!! لقد صارت الثالثة صباحا ولا دخول أو خروج يذكر بالشارع. الشخص الوحيد الذي دخل ووجد الرجل بكلبه فى فوهة الشارع دس فى كفه عملة معدنية، فوضعها فى جيب معطفه دون ضيق أو تذمر. ثم جاءت سيارة فاخرة ووقفت مقابل الشارع. نزل منها رجلان وامراتان فى حالة نشوة بالغة. وبعدما عبروا وهم يترنحون ويضحكون، اعترض طريقهم الكلب دون نباح، ومنعهم من الدخول. إنه يمشى مثل فهد، ورأسه الأسود الكبير يرعب من نظر بعينيه. وجلده الغليظ الناعم يهتز على وقع خطواته، وتظهر به لمعة سوداء خانقة. رآها الأربعة وكأنما أصابتهم لعنة. لقد بات واضحا لديهم عدم قدرتهم على الدخول. صحيح أن الشارع ملك للبلدية، لكن العجوز السمين فى هذه الأثناء سيطر عليه واعتبره من أملاكه. يفكر فريدى: لكن ما الذى يجعله يصنع ذلك، ولماذا لا يتصل هؤلاء بالشرطة؟ الكنيس كبير وعلى ناصية شارع تجارى ضخم، فلم هذا المكان بالذات؟ فريدى يدور دورة كاملة ليدخل الشارع الجانبى من جهته الأخرى. هكذا صار فى ظهر العم موريس الذى أغلق الشارع بوجهه. حسنا لقد بدأ الأمر يتكشف لفريدى. هنا المبنى الإدارى للكنيس وبه موسيقى وأصوات ثملة بالشراب. وقف فريدى لصق الحائط جامدا يتسمع ويقول: يا إلهى، ما هذا؟ يبدو أن ما كانت تقوله مونيكا طيلة عمرها عن رجال الدين كان صحيحا. فجأة خرج من باب الكنيس الجانبى الصغير شابتان كأنما تتعجلان هؤلاء الموقوفين. غير أن من كان بالشارع ظل به، ومن جاء من خارجه استحال عليه دخوله. ومع رجوع المراتين أدراجهما، وخوف فريدى من رؤية العم موريس له، دخل خلفهما من الباب. ليرى رهطا من ذاك الشباب المنحط الذى يبول على القيم، يتمرنون على أعمال السحر والرق الحديث.
لديهم من جمع لهم مادة علمية من جنبات الأرض ويعلمونهم. عمادهم الموسيقى الوترية بترددات عالية، والخمر والرجس والفسق والظلم العظيم. تأفف فريدى مما رأت عيناه، وخرج من الباب كما دخل على أطراف أصابعه. وظل لصق الحائط حتى غادر الشارع الجانبى دون أن يراه العم موريس. وبذات البوصلة المتكسرة وشوارعها الجانبية التى أتى بها عاد إلى الميدان.
وفى اليوم الخامس ظهرت الشمس ساعتين قبل الغروب، كبيرة لا دفء فيها. ومع منتصف الليل تكرر ظهور العم موريس وكلبه. غالبا ما تأبى الأسرار أن تأتى فرادى، وانما فى حزم على قدر الطاقة. كلما رأى فريدى هذا المخلوق الغريب عاد من الحديث معه أو مرافقته بسر يجهله. لقد مرت عليه المرة الماضية ولم يعلم بوجوده عند الكنيس. والليلة مشى برفقته وكلبه من أول الدرب. ها قد انكشف الأفق وبدى فيه القمر والنجوم، غير أنه على وجه تلك المخلوقات العلوية غلالة ماء، مما يعني أن البرودة لازالت قائمة. وخيوط الثلج التى كانت تتراكم بالقرب من الأرصفة ما عاد لها وجود. فى هذه اللحظة ينعتق فريدى من الحزن الذى لزمه سنوات. فهم من هذا العجوز العجيب أن لا حاجة لديه فى تعلم لغة الصلاة ولا الذهاب إلى الكنيس. أدرك أن الدين هو الصبر على البشر فى واقعهم. أن تجود بنفسك من أجلهم حتى تتسامى، وتمد لهم يد العون مادمت تقدر دون طلب. وتغض الطرف عن مساوئهم ونقائصهم، وتدلهم على طريق الكمال. وأن لا تحمل لمخلوق شحناء أو كراهية. حين عقل ذلك، أخذت فريدى كريزة ضحك كادت تزهق روحه. وقف يترنح أمام العجوز ويقول: ما كنت إلا هكذا طوال عمرى. ليس هكذا بالضبط، لكنى كنت أحاول. أنت رددتنى إلى نفسي سيدى. كنت أغرقت فى الضياع والاغتراب. أنت حقا إنسان فاضل. لكن ما الذى أتى بنا إلى هنا؟ قال العم موريس: في الطابق الارضي من هذا المبنى غلام لديه إعاقة ذهنية. يتكلم جيدا ويتسلط على كل من يتحدث معه حتى يسحبه لرواقه. لو أحصيت الأبواب التى يغلقونها في طريقه لوجدتها خمسة. ولو خرج من باب البناية وحده، هرب ولا يدرون أين يذهب. ضحك فريدى ونفخ فى كفيه متحمسا وهو يقول: وماذا نصنع معه؟ قال العم موريس: يحرسه كل منا ساعتين حتى ينام. سأل فريدى: وكيف تعرف أنه سينام؟ رد العجوز: إنه يتعاطى أدوية وعقاقير، أغلبها مسكنات ومخدرات. وأحيانا يظهر لها تشنجات يتحول معها إلى وعل. قفز فريدى فوق الارض عدة قفزات سريعة وهو يقول: هذا هو الشغل. أنا ملاكم قديم فلا تخف. أخبره أن يكون كما يريد مادمت هنا. وقف العم موريس أمام أحد الأبواب وراح يضرب الكود، ولما فتح مشى إلى باب الطابق الأرضي بجوار المصعد ورن الجرس. وما هى سوى لحظات وخرجت ممرضة فى ثوبها الأبيض، حيتهم وسبقتهم للداخل، بينما بقى الكلب جاثيا على خلفيتيه إلى جانب باب الشقة ينتظر طعامه. بضع دقائق وجاء الغلام من إحدى الغرف وسلم علي فريدى. لقد انحاز إليه لبشرته الخمرية قليلا التى تشبه بشرته. ولما رأى فريدى بعض حبيبات العرق على جبهته وارنبة أنفه وضع إصبعه على واحدة وهو يسأل: هل هذا عرق؟ قال الغلام نعم، الجو حار. وافقه فريدى وهو يتفرس في ملامحه ويراقب دقات قلبه القوية وتنفسه المضطرب. ولما رآه ينشغل بالحديث مع الممرضة، وضع يده على كتفه وراح ينظر لرأسه ويسأل: من الذى يصفف لك شعرك؟ شال فريدى يده ووضعها إلى جنبه، وطلب منه أن يبتعد عنه قليلا. قال لو لمستنى مرة أخرى لن أرد عليك. تكلم وأنت بعيد. دقيقتان أو ثلاث وعاد الغلام يلتصق به وتعبث أصابعه بشعره المصفف بعناية للخلف. زجره فريدى هذه المرة ودفعه لآخر الكنبة دفعا. ثم نهض بقامته القصيرة ووقف أمامه وراح يهدده ويقول: أنا لا أريد أن أستخدم معك العنف. أنت لا تعرفنى. لا تظن أنك فى نوبتى تستطيع مبارحة هذه الكنبة، ناهيك عن الأبواب المغلقة والهرب. وبين وقت وآخر يمد قبضته أو أصابع كفه ملتصقة إلى عينيه؛ فينكمش ويقول: خلاص خلاص. تحل لحظات صمت قصيرة لا تخلو من تربص العيون. يتعلق فريدى بعينيه لاستباق أى تحول مفاجئ. ويتركه يتدبر أمره وينظر ما سوف يقول. تتحول نبرة الغلام وتنزل إلى الاستجداء: أما تحبنى؟ قال فريدى: أكيد. سأل الغلام: كم تحبنى؟ رد فريدى: أكثر من السماء والأرض والبحر. سأل الغلام: وأكثر من ربنا؟ ضحك فريدى فى سره وسأل الغلام: وهل تعرف ربنا؟. راح الغلام يهز جذعه للخلف والأمام ويشير على أطباق الفاكهة الموجودة على الطاولة. وقال وهو يأكل ويهتز: ربنا فى السماء، وحين نموت نذهب إليه. سأله فريدى: هل أنت مؤمن؟ أشار برأسه إيجابا وراح يقف ويشير بسبابة يمناه إلى أعلى. ولما جلس عاد يلتصق به ويقول: لكن من الذى يصفف لك شعرك؟ كشر فريدى عن أنيابه فى وجهه؛ فانكمش وابتعد وهو يقول: خلاص خلاص. قال فريدى: دعك من شعرى أيها الأحمق. أنا معك ساعتين مر منهما واحدة. أريد سماعك وانت تحكى فقط عن ربنا. هل تفهمنى؟ أطلق الغلام عدة عنات وراح يقول: ربنا صاحب كل شيء، الشمس والقمر و السماء والأرض و البحر والزرع. ونهض يحجل بصوت صاخب بفرحة من ربح ال(لوتو)، ويكر على طاولة الفاكهة. وفريدى يحرسه حتى لا يأكل أكثر من حاجته. أخبرته الممرضة أن إفراطه في الأكل يتسبب له فى نوبة عصبية تقترب به من الصرع. ولما انتهت نوبته هادئة، عاد فريدى وحيدا إلى الميدان.





mardi 22 novembre 2022

حرائق التجلي // كامل عبد الحسين الكعبي // العراق

 

مستعرةٌ في أعماقنا القصائدُ ضرامُها قدحةُ الزنادِ في الهشيمِ نارٌ تعتملُ في ثنايا الوجدِ تتفجّرُ براكينُها تنصهرُ فيها الروحُ تكادُ تتلاشى من فرطِ الذَوَبانِ ولا يقرّ لها قرارٌ حتىٰ يأتيها المددُ من كوةِ الغيبِ معجونة بالدمعِ مبللّة بالوجعِ لها في تلافيفِ العقلِ وفي وتينِ القلبِ ألفُ ألفُ حريقٍ تصفعها ريحُ الشجنِ من نافذةِ الرؤى حتىٰ تطير بجناحينِ من شعرٍ وشعورٍ تراودُ المحابرَ بقبلةٍ استباقيةٍ تنتزعُها من خدِّ الورقِ بكلِّ حميميةٍ وتفانٍ مع إسلاس القيادِ لصوتٍ ثائرٍ يشخبُ دماً من جرحٍ غائرٍ تطعمُ بهِ نارَ الحنينِ تؤجّج به لهيبَ الوجدانِ فلأنْ تكتبَ شعراً عليكَ أن تمتطي صهوةَ الروحِ والروحُ أجنحةٌ بصفيفِها ودفيفِها لا تكفّ عن المسيرِ تتجافى مع وسادة الغيومِ ، أن تلفظَ أنفاسَك إشراقاً وروحكَ احتضاراً تتبخر عالياً كالسرابِ تجثُو كالصريعِ ثمَّ تخلع أكفانَكَ وتتجلّى ناصعاً في مبهماتِ السطور .






ترجمة نص " كن لنفسك يا ابن الريح .." للمبدع نور الدين برحمة // محمد علوي امحمدي // المغرب


كن لنفسك يا ابن الريح
فالغياب همس الليل
للصبح القريب
خطواتك
تشدك الى الطريق
و
كل
الارض
مساحة اعدت لسجن
النفوس
يا نفس انت سجني القريب...
تحرري من عشق المكان
والانسان
والجمال
وكن المسافر الذي اختار
الرحيل
فلا فائدة من شمس
خيوطها سلسلة
تشدك للوجود ...
والوجود كذبة العدم
على الظلال
يا لحرفي المبعثر
بين دروب اللغة الماكرة ...
ها انا اعلن
ان لا معنى للعشق
في غياب الصدق...
ولا معنى للمعنى حين تكون انت المعنى ...
....
نورالدين وكفى ...21/11/2022
يا عاشق
Ô fils du vent
Sois pour toi-même
L'absence est le murmure de la nuit
À l'oreille de l'aube prochaine
Tes pas te gardent sur la route
Et toute la terre
Est un espace préparé
Pour emprisonner les âmes
Ô mon âme ;
Tu es ma prison proche
Libére-toi de l'amour du lieu
Et de l'être humain
Et de la beauté
Et sois ce voyageur
Qui a choisi le départ loin
Il ne sert à rien
Un soleil dont les fils sont une chaîne
Qui te relie à l'existence
Et l'existence est un mensonge du néant
Pour les spectres et les ombres
Oh
Mes lettres et mes mots se sont éparpillés
Entre les chemins d'un langage rusé
Me voici, je déclare
Qu'en absence de sincérité
L'amour n'a pas de sens
Et le sens n'a pas de signification
Quand tu es toi le sens
....
Nourredine ça suffit... 21/11/2022
Ô amoureux passionné.






dimanche 20 novembre 2022

انثيالات صباحية // محمد محجوبي // الجزائر


وجهك .. الماثل بين فصوص الذاكرة
وبين أوعية التنهيد
خبايا محترقة بطلاسمها تسكن دم القبيلة
فتنتشي شفاه الورد
ولوجهك فقط .. يذوب سكر الشعر والشعور
فتثمر شجيرات الكلام
بوحها الشافي ..عيون خريف ناعس
وفي هزيج القرب
تلاقحت أغصان الذاكرة
لتعصر رحيق التحديق .. لحن شعاع يتخلل لهفات الانصهار
لمن تكون ترنيمة المبتغى الموعود
على وصلة شاي والدفء أنهار
أم تكون الشعلة عنوان الطير
ذاك الذي تغزفه الريح
وتردده زغاريد البحار .






أطلسية ...// عبد الإله أوناغي // المغرب

 

أطلسية....
ولأنك أطلسية القلب،
والعيون ..
أندلسية العشق والهوى...
هواك،
سيل جارف..
مفارق الرمال
والخطو ميل ،
وليس لي
في المدى
مفرق ،
أيسير الورد
الى أريجه ...؟؟!
وتعلو سحب الشوق
فوق ليلي
جمر الثلج ،
تقاسيمك...
تغني القلب
وتنعش الروح
يا كلك
دون
تجزيء...





jeudi 17 novembre 2022

آه كم بيننا ...// حسين المغربي // المغرب

 


آه كم بيننا..
بيننا كتب،
و دفاتر،
وأقلام،
و الساعة..
الكتب ملاذ الروح..
و الدفاتر مدونة دمي المسفوح..
و الاقلام حروف و كلمات و بوح..
و الساعة هرولة زمني المذبوح
يرقب القيامة..
أرفع هامتي و أمشي..
أصافح الريح و الشمس..
و أحضن آمالي اللاهية
من عواصف قادمات..
آه كم بيننا..
بيننا مسافات و أشجان..
و شهقة البداية و النهاية..
بيننا أحلام و منى..
و شوارع ملأى..
و دموع و ابتسامة..
بيننا بحار و أمواج عاتيات..
و رؤوس منكسة و الحطام..
بيننا صبح يطرق صبحه..
و أمال معلقة بخيوط واهيات..
آه كم بيننا..
بيننا المخاض العسير..
يتجلى حلما مكللا تينع ورقته شيئا فشيئا في القلوب..
رغم عاديات الزمن..
آه كم بيننا..
أرفع هماتي و أمشي..
أصافح الريح و الشمس..
و أحضن آمالي اللاهيات..
من عواصف قادمات..





سلمتني أوراقها ومضت...// نور الدين الزغموتي // المغرب

 

سَلَّمَتْنِي أَوْرَاقَهَا وَمَضَتْ
حَرَّكَتْ بِقِطْعَةِ خَشَبٍ الجَمْرَ،
بَيْنَ أثَافِي الصَّبَاحْ.
وصَاحَ الإِبْرِيقُ بِعِبْقِ القَهْوَةِ،
يُشَارِكُ طَائِرًا حَطَّ عَلَى سِيَاجِ
الحَقْلِ، تَغْرِيدَهُ.
وسَتَرْوِي بَعْدَ قَلِيلٍ،
زَهْرَةً يَتِيمَةً فِي أُصٍ،
وَسَطَ نَافِذَةِ المَطْبََخِ،
لِكَيْ لاَ تَمُوتْ.
هَكَذَا هِيَ الِبدَايَةُ،
تَاْسُرُنِي بِصَبَاحَاتِهَا الأُنْثَوِيَة
.............
يَدُهَا الآنَ تُحَرِكُ المَوَاعِينَ تَحْتَ المَاءِ ،
تَغْسِلُ سَاعَاتَ الَليلِ ،
وَ شَهْوَةً بَاقِيَةً تَلُفُّ جُلَّ أَصَابِعِها،
وَ أَنَا أَسْتَقْبِلُ رِيحًا خَفِيفَةً،
تَحْمِلُ عِطْرَ سَرِيرِهَا
وَتَفْضَحُ انْهِيارَاتِ الأَمْسِ
..............
العَسَلُ المُرَاقُ يَكَادُ يَعُقُّ شَكْلَ الشَّهْدِ،
قُلْ هَلْ سَيُعَذِبُنِي العِشْقُ ثَانِِيةً؟
سَيّدَتِي.. أَتَوَسُلُكِ عِدْقًا خُرَافِيًا تَدَلَّى مِنَ الصَّدْرِِ
اِشْتَاقَتْ شَفَتَايَ لِلَذَّةِ التَّارِيخِ،
وفُتُوحَاتِ الُلغَةِ وَأَوْطَانَهَا الشَّبَقِيَّةِ.
وَيَدُ الطِّينِ تُشَكِّلُنِي سُلْطَانِيّةً،
تَحْتَ أَنَامِلُكِ وَ الغَسْلِ.
.................
لِلصمْتِ قُوَّةُ المَسَارِبِ يَرْسُمُ
مَسَارَاتِ السَّوَائلِ أَصِلُ إلى حَوْضِكِ
أُغْنِيَّيَةً وَلَحْنًا نَقِيًا مَغْسُولاً ونَشِيدًا
صُوفِيًا عِنْدَ الشَّطْحِ.
.................
حِينَ تَأَجَّجَ اللِقَاءُ بِكَأسِ بُنٍ،
وَ حَدِيثُ أُلْفَةٍ يَرْسُمُ بِالثَّغْرِ لَذَّةَ سُكْرٍ،
حَلَّتْ شَعْرَهَا، وَحَرَّرَتْ الَليْلَ مِنْ عُقَالِهِ،
وَهَبَّ هَوَاءٌ، وَبَارَكَتْ خصْلَةٌ
مَلْأَى بِالقُرُنْفُلِ والقُبَلِ خَدِّي،
وَ أَخَذْتُ كُلَّ كَلِمَاتِي مِنْ جَوَارِيرِي
وَقَدْ خَبَّأْتُهَا بَيْنَ الأَقْلاَمِ وَالمَبَارِي..
لَعَلي أَفِي حَمْدًا بِشَهْدِ فِعْلِهَا الوَقِحِ.
.................
رَفَعَتْ ثَوْبَهَا قَلِيلاً، وَمَدَّتْ أَغْصَانَهَا البِدَائِيّةِ
كَصَفْصَافَةٍ تَلْتَمُسُ الرَّغْبَةَ فِي العُصُورْ...
هَاكَ أَوْرَاقِي أَمَانَةً ، فَالعِشقُ يَخْشَى الخَرِيفْ،
وَ غَسَلَتْنِي بُنَظْرَةٍ.. وَسَافَرَتْ حُبْلَى بِكُلِّ الفُصُولْ.