dimanche 31 juillet 2022

قالت : - لا تتأخر // سلام العبيدي // العراق


كم كنت أتعذب يا جوري ..
كأني تركت أغنية الأرجوان
على يمين رقصة موتي المبكر ...
قالت : -
أحلفك بحبات الندى
لا تتأخر ...
لكني تأخرت على سقياها
قبل الفجر ....
ألم القصيدة قد يدوم
غيباً كاملاً ....
وربما ساعة
عشق واحدة.....
حملتها معي
في كل الأسفار
ملاكاً ..... وأيقونة ...
كي لا تتكسر أحلامي
هي القصيدة ...
وكنت أعرف
أنني لن أخرج
من الشعر
على قيد الحياة ...






زمن الأعراس الغابرة // محمد محجوبي // الجزائر


من وليمة دافئة دافقة مقمرة إلى وليمة سابحة منتشية على أشرعة الحب زغاريد الانتماء تعكسها مرايا من عنفوان النعناع ومن خبايا يانعة القرنفل تناعس أمواجنا المسبوكة الأماسي على إيقاعات سحرية من طقطوقات ثملت بها النسائم .
فقد كان العرس طقس حمام تلهو به خمائل المتوهجين بزمانهم ليشيع الحكي على هطول الغناء الشعبي يلامس أوعية الشجر الراقص ، فضاءات متخمة الخضرة تضخ زلال الماء المنتفض من سكرات ظلال تجاذب مشيميات القلب بين شيخ متقد الحياة وطفل متحد الدلال
كنا على أعراس ترفل بنا قمصانا وفساتين في بذخ هواء يولول أعراسه بفصيح الوجد وعميق السهاد على فتوة موسم متغلغل في نبضات الطين . والديار كانت ديارا تهتف في أغوارنا رونق الأشعار .
مخضرة تلك الأعراس التي قعدت أبجدياتنا الانسانية يبهر محتواها مملكة عصافير عتقت خلجاتنا البكر فلم يكن لزمننا الشاهق وسيطا سوى أنس الخيول على ترف النخيل يشغلنا بطيب الأعراس نكهة في بحر الذهول .





أثقال الرقة // حسين جبار محمد // العراق

 

في طرقاتِ الليلِ سارت دمعتها من غيرِ رفيق، اعتنقتها الوجنةُ بوسنها الطويل وأرادت أن تمسكَ بها وتزيد، تمرّدت الدمعةُ وفتحت خطَّ سيرٍ على خدّينِ يفيضانِ ورداً وهما يستقيانِ بدمعٍ لؤلؤي.
امتدت أناملٌ من حريرٍ وهي تلتقطُ ما ظلَّ من لؤلؤٍ.
تنفّست عِطرَ خدودها وزمّتْ عُنّابَ الثغرِ على حبّاتِ البَرَدِ وأطلقت آهةً تَتَقَطّعُ لها نياطُ القلبِ وبحثت عن بسمةٍ غابت خلف تلال ِ الحسرةِ ورتقت حروفاً تباعدت لتصنعَ بعض كلماتٍ على ثيابِ الهمسِ المنبسطةِ بأثقالِ الرقة…






ترجمة لنص "وأنت ترحل " للشاعرة أمينة العربي// محمد علوي امحمدي / المغرب


وأنت ترحل
استمد من الطريق
رجع حكايتنا
والدروب التي احتوتنا
خذها رغاريد بين جوانحك
ادخل بها
صف الغرباء
حيث يموت الكلام
يبتعد نشيد الغرام
ورقص ذاكرة
.يرقد مع مغيب الشمس


شعر : أمينة العربي
ترجمة : محمد علوي امحمدي

Puisque tu t'en vas De la route prends avec toi L'écho de notre histoire Et les chemins qui nous ont unis Prends-les en zagharits sous tes ailes Et entre ! dans la file des étrangers Là où la parole meurt Le chant de l'amour s'éloigne Et la danse de mémoire
Dort avec le coucher du soleil.




أظفار الغياب // زيد الطهراوي // الأردن

 

وجهك الغائب بستان سكينة
و احتمالات من الشوق تمادت في الوفاء
قبل أن ترحل كان النور يمتد عنيفاً كمدينة
و جذوع القلب تعطينا حنينا
فيفيض الهمس من سحر العطاء
و الذي ما زال يستقطب أسراب الإياب
و يعيد الدفء للتربة تسمو للنماء
فيشم الشاطئ الملهوف أخشاب السفينة
ربما لم ترحل ؛ الأشواق تحكي عنك و الضوء مهاد
فعلى رسلك يا من جرَّح القلب بأظفار الغياب.





samedi 30 juillet 2022

هل تدري يا أبي ما حل بي ؟؟ // علي الزاهر // المغرب

 

هل تدري يا أبي ما حل بي ؟؟
كل اختياراتي ، كانت خاطئة
و أنا أعبر هذه الصحراء الواسعة
تلك المليئة بالمشاعر المزيفة
هل تدري يا أبي ما حل بي
شربتني الخيبات الكثيرة
حتى ارتوت شراييني ظمأ
و تهت بين غياهب السؤال
و انتظاراتي العقيمة
هل تدري يا أبي ما حل بي
على شاطئ الحلم ،
انكسرت أحلامي
فمدا ، ترثيني الكلمات ،
و جزرا ، تشعلني المفردات
أما القصيدة ، فوهجا ،
تحملني ما لا أطيق
هل تدري يا أبي ما حل بي
كبرت ، و اعتلى الشيب هامتي
و سافرت في الغياب ، جسدا
حتى ابتلت ضفائر أحرفي شوقا
أتدري يا أبي ما حل بي
مهاجرا في أرض الله ، أمضي
و الصحب ، يسألونني
عن هذا الحزن اليانع في كلماتي
و عن أشجان أقاسمها ليل سهادي.






مخيلة أرصفة // باسم عبد الكريم العراقي // العراق

 

الحقيقةُ مُرَّة الهطول
على جبين المتسكعين بين زنازين ذاكرتهم ، يتسوّلون خِرقةََ قُبلةٍ واقعت بصاقَ حرثِهم الغدَ المزمنَ العقم
لتواري شبقََ معابدِ انينِهم الغارقةِ
بالغفران المؤجل الفواتير .
فرجُ الانتظار.. لا يكفُّ
عن تعدادِ شعارات العابرين شوارعَ قيمتهم الافتراضية
في قوائم الهاربين من عدالة السماء
... رثُّ النظرات
عتيقُ الزّهوِ
بِرُقَعِ شَمَمِه
أدمنَ زعيقَ اشارات ( قف / لاتقف ) ، في عيون محطاته المتلألئةِ العناقيد
على غصون التوقعات القابعة
في اقبيةِ اللهاث وراء ابتساماتِ النهود الغافية
على أفواه المفتونين بعذب أنخابِ الأمجاد
أليحصدُها المضاربون
في بورصة نياشين الانتصار على جبابرة الطنين ، في ميادين الفحولة ، ....
ليروحَ يراقصُ مرآتَهُ العجوز، في خرم إبرةٍ عذراءِ السطور.






jeudi 28 juillet 2022

سفاح // جواد البصري // العراق

 

في قلب العتمة
خبَّأَ صورتهُ...
سفّاح الليل،
تركَ الباب مشرعةً..
لمجازاتٍ
على دكة مغتسلٍ ،مسجاة،
في الجبانة..
قال فلان عن فلان،
الرواة في سجال حاد،
لا يصغي لأحاديثهم..
حفار القبور ،
في وجوه ضحايا السفّاك
أنهكه التأويل
......
أيها المكشر..
عن أنيابه في وضح النهار
لم ولن يطول...
بك المقام،
غدا..(وان غدا لناظره قريب). .
ستنتهي اللعبة!!
ويفتضح نهارك الأبكم..
على أيدي صُناع الحياة
لن يبقى من فردوسك..
إلا سلالاً من ذنوب ورماد
وهيهات..ثم هيهات،
أن يُبعث الفينيق
من الرماد
....
توسل بكبيرك..
الذي أغراكَ،
أن يمْنحك من بركاته..
بسرب كبير من الغربان..
وَ عود ثقاب..
كي تواري سوأة الأبرياء
قتلاك...
وتطلب من الربِّ أن (يغفر)..
جبال خطاياك.






البطل لا يموت // محمد فتاح // المغرب

 

البطل لا يموت
على الأقل في ثنايا سيناريوهات الأفلام
ولو أن المغامرةِ تتخذ شكل برنامج سردي للموت
والحبيبة يحملها البطل على فرسه الذي لا يتعب
يخبئها في فندق خشبي
كي تنتظر عودته بعد معركة من رصاص
وأما أنا فبطل يحتمل الموت
قد أموت في آخر نص لسيناريو بدون كامبارس
فلست سوى ظل في نص
أنتظر الأشرار يقرعون بابي
ليفتشوا رأسي برصاصهم الطائش
يلفني الخوف
أنتظرهم في ساحة الإعدام
يسرقون قهقهات مقرفة
أفكر بمصيري المجهول
أنصت لأصواتهم الصاخبة المنذرة بالقتل
وقد تركوا المسار السردي مفتوحا
في انتظار الطلقة المؤجلة.



 

mardi 26 juillet 2022

هكذا كنت // عزيز السوداني // العراق


في زمنٍ لا يولدُ فيه الإنسان، عارٍ من أزهارِ العطرِ ومدينةٍ تلفظُني خارج أسوارها، الفراشاتُ تدورُ حول نارِ الوجعِ عندما تشظّى العطرُ وأصبحَ الروضُ في خبرِ الضمورِ، مسلّةُ القمحِ أكلها الليلُ الطويل، العصافيرُ في صحراءِ الإبتعادِ، الصحراء كالبحرِ ليس له أمان، وبيني وبين النهرِ خصومةٌ قديمةٌ عندما جفّ تأوهتُ وألقيتُ في مجراه ذكراه الموجعة، أمقتُ ذلك الجسرَ الذي تركني أمشي حافياً حتى أفسدتْ الطريقُ قدمي، جلستُ خلف نصفِ جدارٍ متهالكٍ، ظلَّ رأسي في مرمى الريحِ معلّقاً على عمودِ الرحيلِ حتى حُملَ الى منفىً في أقصى الشرقِ ومنفىً آخرَ شمال الحزنِ وتعددتْ المنافي، ثم عدتُ الى جنوبِ ذاكرتي يركلُ خاصرتي أقزامُ الليلِ وأمي تغزلُ أعوامي لتنسجَ من رملِ المأساةِ موطئاً لإختبائي، شقّتْ في وجهي جلبابَ كهولتها وأخرجتْ قلبها لتدفنَ أسراري بين أقواسِ أضلعها، شاخَ النهارُ وأحاطَ الضبابُ برأسي وتلاشى الموجُ، وماتَ الغولُ وظلّت أمي تقطفَ من صدري قبلاتٍ تدفعني لأعبرَ الجسرَ من جديد، رحلتْ أمي وأتى الغولُ الآخرُ تتبعهُ أقدامُ النارِ ، وظلَّ الجسرُ حزيناً يحلم بالنهرِ وأغنيةٍ كانتْ تردّدها أزهارُ الشطآنِ ........





.............................

شبح عنيد // محمد محجوبي // الجزائر

 

يقيس الغبار بعنف الحصى يتلصص على قيظ المتاريس على جبهة التوحد فيجيش بغلظة الصمت ودونه أعمدة الصيف كما خلفه هالة الأجراس التي مزقت أحشاء الحقول ، في الدنا المتلاحمة بشوك يجاهر ناره تستفزه دمعات الغربان هكذا دفعة واحدة يستعير شبحه الجسور لبلوغ لهف الفيافي المتحركة على حاسة الليل السليط .
ولا يزال على شرعة عناده الفولاذي يحاول أن يبزغ من ثقوب النار شعاعا مجنحا قد ينجو من مخالب الرماد المفترس فيستنشق أغنية المدى البعيد .






lundi 25 juillet 2022

في الظلام أرتقب الفجر // لطيفة الأعكَل // المغرب


يَعلو المَوْجُ ، ويَعلو الضّجيج
ألمحُ الليلَ يَرتدي زَيَّ الهَمْسِ
يُثرثرُ مِنْ حولي ..
يَنشُرُ ضياعَ السّنين
”سيزيفُ “ مِنّي وفي دَمي ..
وصخرة العُمرِ تَتدحْرجُ صامدةً
في مَجرىَ الدّمعِ
تَأبى الاِنْدحارَ
عند أسفل المَرارةْ …
يَعلو الموجُ ، وتَعلو الموسيقى
يَتسارعُ إيـقاعُ الرّياح ..
تُصغي الأشجارُ للغِناء
تَترنّحُ على ضِفافِ الانتظارْ ..
يَعلو الموجُ ، و يَعلو الأنينُ
و الليلُ في احتضار ..
والجراحُ تئنُّ على وسائدِ الأرق ..
واحةُ العمر طالها اليَباس ..!؟
ما عدتُ ألمحُ أزهار الربيع تُلوّحُ لي ..!
وَدِدْتُ لو تَساقط المطر .. المطر.







إلى من يوجه السؤال ؟ // عبد الرحيم المعيتيق // المغرب

 

هو العمر لحظات.
تمر علينا...
مرور الفصول.
ونحن في غفلة الزمن.
في متاهات الفتن.
لم نعد ندري لحظة الانتقال.
اختلطت لحظاتنا.
تفككت بلا ترتيب.
تناثرت عبر السنين.
لحظة الليل...
تنسينا النهار.
قد نتذكر منها لمحة...
صدفة حاكاها الصغار.
نفي ماضينا...
سجن إلى الأبد.
وحاضرنا رهن الاعتقال.
لحظاتنا الجميلة...
لحظاتنا البسيطة...
مبحوث عنها.
ووجودها مجرد احتمال.
قلما نتحدث عما فات منها
وإن اختنقنا.
لم تعد ظاهرة أو مضمرة...
عبر يقظتنا...
عبر أحلامنا...
فالمستقبل البائس...
المقلق والمتعب...
عزم على الاحتلال.
أزماننا باتت رموزا غامضة.
وحيواتنا اغتصبت...
من شدة الإهمال.
فالحال أصبحت في أسوإ حال.
وإن عشنا أزمانا...
وأزمانا طوال.
فمن المسؤول عن لحظاتنا...؟
عن أزماننا...؟
وإلى من يوجه السؤال؟






بين ضفتين // حسين جبار محمد / العراق


خطُّ النخيلِ يحيطُ النرجسَ من ضفتيه… يحرسُ ويُلْقي ظلالَ نشوةِ سحرٍ لاحدودَ لامتدادهِ والسعفُ يُغَنّي والأعذاقُ تنتقي أعذبَ الكلام.
النخيلُ في ضيافةِ النرجسِ ينثرُ رُطَباً جَنيا، من فتنةٍ ومن دهشةٍ ومن غرقٍ في عوالمٍ عذبةٍ من انتشاءٍ لذيذٍ يفيضُ ماء ُ الوردِ من موجِ يعانقُ تفاحَ المواسمِ ويزيده نضرةً وحمرةً شفقية. الصورةُ قمريةُ الظواهرِ قمحيةُ الدواخلِ عسليةُ المذاقِ شمسيةُ الصباحِ غبشيةُ النسائمِ في بابها بلابلٌ وعنادل…








dimanche 24 juillet 2022

ترجمة نص "هل هي القصيدة " للمبدع نور الدين برحمة // محمد علوي امحمدي // المغر

 

هل هي القصيدة
التي كانت في خاطري
نقطة
العودة للسطر
السؤال حارق
يا
ابن رحيق الزهر
انت ولد الحقول البرية
عصفور
يغرد
والحويصلة فارغة
متى تعلن الهجرة
إلى الوحدة الأخيرة ؟
ناسك انت
والزاوية يديرها
شيخ الليالي البيضاء
كم كان عشقك مالح
وكم كانت يدك
توزع الغبار
على النوافذ الموصدة
في وجه السماء...
يا سماء
انا
مزهرية من طين
هدية من الأرض
لك ياعاشقة الصمت
فانت في الاول والاخير
صلصال
صلصال
تعلمي كيف تجعلين من الطين
مزهرية تشبه ظلي
فتكون انت وانا والاخر
لمسة
همسة
او ربما تكون .....
القصيدة التي في خاطري ...
نقطة والعودة للسؤال المالح ....
؟؟؟.؟...؟؟
نور الدين برحمة

Est-il le poème
Qui était dans mon esprit, un point
Du retour à la ligne
C'est une question brûlante
Ô enfant du nectar de fleur
Tu es né dans les champs sauvages.
Un moineau qui chante
Et la vésicule est vide.
Quand annoncera- tu
L'immigration vers la dernière solitude ?
Tu es un ermite
Et les zaouias sont gérées
Par le cheikh des nuits blanches
Oh combien était ta passion
Salée et amère
Et combien ta main distribuait des poussières
Sur des fenêtres closes
À la face du ciel.
Ô, ciel sans frontières
Je suis un vase de boue
Don de la Terre
Pour toi, amante silencieuse
Et d'abord
Et pour finir
Tu es argile
Une poignée d'argile
Alors apprends, comment faire de la boue
Un vase qui ressemble à mon ombre
Et nous serions toi, moi et l'autre
Un toucher
Un murmure
Et peut-être
Le poème qui est dans mon esprit
Sera un point et le retour
À la question salée et amère.











samedi 23 juillet 2022

أم أرتور (7) // أحمد البحيري // مصر


حفيدة عمدة (تولوز )الذي أعدم في عهد الإرهاب وقت الثورة الفرنسية . كانت نهايته على يد جماعة ( سان كيلوت) المتطرفة بقيادة السفاح (روبيسبير). أثناء الثورات والحروب على هذه الأرض تظهر فجأة جماعات متطرفة. كانت هذه الجماعة تستهدف حكام المحافظات والموالين للملك. وكانوا يحاكمون الناس محاكمات ثورية مزاجية للتخلص منهم باعتبارهم أعداء الثورة. كانوا ملكيين أكثر من الملك، والإعدام لديهم كان بالمقصلة. السفاح روبيسبير جلب الكونت (موسيه) من تولوز واعدمه في باريس. كان موجودا بالسلطة وقتها وطالب مع زمرته برأس الملك لويس السادس عشر نفسه. وقد أعدم ستة آلاف شخص لبلوغ هذا الهدف، قبل أن يعدمه الشعب مع بطانته وبالمقصلة أيضا. هذا الحدث أصل نزعتها الإشتراكية. نشأت ضد التميز والإضطهاد والحرب والعنصرية. صارت معنية بالناس من قريب والعمل لأجلهم. منذ كانت طالبة بكلية الهندسة وهى مشروع قيادية. كانت باتحاد الطلبة مسؤولة النشاط الثقافي، ومكتبة جدها مكنتها بمنطقها الرياضى تجاوز الفلسفة. تصف وتناقش كدارسة للعلوم الإنسانية لا التطبيقية. هذه النشأة جعلتها تدرس التاريخ والفن من بعد وتنتهى مطلقة تدعم النسوية. لقد كبرت على بغض والدها جراء أخطائه الجنسية وجنايته بحق أمها. كما أنها تزوجت عن حب من مفكر سياسي كان رفيقها بالحزب تسعة عشرة عاما. ثم سلك مسلك أبيها؛ فانفصلت عنه بثلاثة أولاد، أكبرهم أرتور الذي اكتشف الإسلام مؤخرا. أم أرتور أنثى سوية نموذج. يبلغ طولها نحو متر و85 سنتمتر، ومثل عود الخيزران. من شدة لدانته تستطيع ثنيه وفرده. تقترب من الرابعة والخمسين ولازالت شابة. تعمل مهندسة بحى ( سان دوني) الفقير ذو الأغلبية العربية، بينما تسكن بالحى الاول ب 53 شارع( le viwe). ورغم العمر والأسى تبدو أصغر من عمرها بعقدين. وهى عرابة موسى وملاكه الحارس بالمدينة. كانت ولازالت تدعمه، وكلما أنجز شيئا ذا قيمة حيته بجملتها الشهيرة: يجب أن تستمر هكذا. ليس موسى وحده بالطبع، فقد جبلت على مساعدة الضعفاء. روحها المرحة وشفافيتها جعلت علاقاتها مع طبقات الحكم الأربعة حميدة. ولوثة الفن لديها تعطيها جمالا إضافيا لمقاومة القبح أينما كان. ورغم ذلك كسرها ولدها باكتشافه الإسلام. إن الأمر لا يؤلمها على المستوى الشخصي من قريب أو بعيد. الألم سوف ياتى من الحزب وشوارع ومبنى البلدية. شهرتها في البلدية تفوق النواب والرئيس الاشتراكي نفسه؛ فكيف تستجمع ثقتها بنفسها من بعد وهى تتحدث مع هؤلاء؟ وكيف لأبيه صاحب الأفكار أن يعجز عن رده؟ لقد أمضت عمرها بعيدة عن الدين وما وجدت أى حاجة إليه. حادث قتل جدها وأخلاقها وانحيازها للضعفاء ما هو سوى المبادئ الأخلاقية التى ينشدها الدين. ما كان ينقصها أن يحضر الله على لسانها وهى تتحدث. وإذا كانت تستعين بتاريخ الجد وتاريخ الشرفاء، تستبدلتها بما ورد في الكتب المقدسة. أم أرتور تعرف خصوصيتها وما يجمعها بالناس. بالضد تعرف حسنها الأشياء. فيها شفافية القديسين وليست قديسة. مسألة الخوف من الإله لم تشغلها البتة، وكذلك عالم الملكوت. إنسانيتها لا علاقة لها بالمثل، وانما متجذرة في الواقع. لكنها فى رعايتها لولدها المراهق، لاحظت حاجته للدين. ليس ولدها وحسب، بل كل مراهقى المدينة أصدقاء شباب الجيل الثالث من أولاد المسلمين. فان سان ابن سوغولين الأصغر، وويسلى ابن فريدى طالب الهندسة ، وأرتور. هؤلاء الشباب ضاقوا بالشذوذ وتاقوا للفضيلة. وتعاطفهم مع الإسلام ازداد بزيادة ال ( فوبيا) التى ( فبركتها) آلة الصهيونية في الإعلام. الإسلام لا يفرق بين اليهودى والمسيحى؛ فهو يهدف إلى تدمير الحضارة الغربية. ورغم ذلك ترى هؤلاء المراهقين فى المدرسة لا يروحون ولا يجيئون إلا مع زملائهم من المسلمين. تسأل أم أرتور بعد زفرة قوية: أي تضامن هذا؟
***
وهل تنتظر وقوع المصيبة؟ لقد أومأ لها ولدها اكتشافه الإسلام في أكثر من مناسبة. وكان دفاعه عنه أمام مسيو أماس أشد من معتنقيه. كما أنه منذ عرف مكان المسجد الكبير وهى تنتظر ذهابه إليه بأي وقت. تنتفض أم أرتور وهى تتذكر ملامح وجهه حين يتحدث فى ذلك. يملؤها الضيق بعدما تدرك أنه يعيرها ويلومها، كأنه لن يفعل ذلك إلا نكاية بها. إن علاقة أرتور بوالده على غير ما يرام. فلم يشعر به في تربيته باي وقت وقد بلغ الباكالوريا. ثم إنه إذا رآه على التلفزيون فى البرامج الإخبارية أدار القناة دون مشاهدته. أم أرتور فى شقتها التى تبلغ مساحتها 300 متر مربع تنتظر سوغولين وموسى. كانوا قد اتفقوا على الثامنة من مساء الجمعة في بحر الأسبوع، وقبل الموعد بنحو ساعتين اختفى المراهق. الجو بارد رغم اقتراب فبراير على الانتهاء. وام أرتور تتفقد أجهزة التدفئة فى الشقة الكبيرة. ترتدى شورت أسود ضيق يظهر منه ساقاها الطويلان، وقميص نصف كم أبيض واسع بياقة عريضة ، ينام عليها طرف شعرها الأسود الناعم، الذي يصل كتفيها بالكاد. وكلما وقفت أمام جهاز للتدفئة تمايلت وهى تنظر بمؤشره وتسك الشباك. هذه عادتها طالما كانت وحدها، تتصرف كأنما على إيقاع راقص. انسل أرتور خلسة، بينما ذهب كل من مارتين وجان كلود إلى الخالة بضاحية ( بواسي) لقضاء العطلة. وبعد الثامنة بخمس دقائق دق جرس الباب. نهضت وكانت قريبة لتفتح وترى سوغولين بقامتها المديدة. احتضنتها وقبلت صدغيها وقبلما تغلق الباب بلحظة يظهر موسى. سلمت عليه وهى تضحك وتطمئن على يوسف ونداج. ثم اصطحبته إلى الكنبة التى لا يجلس على غيرها في بداية الصالون الوثير الواسع. فقد تم تقسيمه إلى ثلاث حجرات كبيرة متداخلة ذات أرضية من ال ( باركيه) تعلو كل واحدة منها عن الأخرى عشرين سنتمترا. وفى الجزء الأوسط منه بار على هيئة هلال، على حافته الخشبية بضع كاسات متفاوتة الحجم ومقلوبة، وداخله تظهر زجاجات الخمر العتيق. أعدت أم أرتور القهوة وكاسين نبيذ أحمر على عجل دون أن تكف عن عبارات الترحيب. ولما جلست مع سوغولين بالجزء الأوسط مشى إليهما موسى. سألت أم أرتور دون أن توجه الكلام لأحد: ما هذا الكابوس الذي يخيم بسماء المدينة؟ ولما انشغلت سوغولين بالكأس وأحجمت عن الرد ولم ينبس موسى ببنت شفة، ران صمت. سوغولين كانت ترغب في سماعه والمصيبة في بيتها. إن رأسها يموج بالافكار والأحكام المسبقة. كما أنها تعلم يقينا بعدم صلاحيتها للنقاش في الدين. دقيقتان وقالت أم أرتور متوترة: هل أكلم نفسي؟, ما الذي يدفع هؤلاء المراهقين بالتعاطف مع الإسلام؟ أطفأ موسى سيجارته وهو يقول: في الاخبار اليومية صورة قاتمة عن الإسلام. صورة ( مفبركة) ساهمت في رسمها جهات عدة ، وهؤلاء المراهقين يريدون أن يكونوا منفتحين ومنصفين. من أسامة بن لادن ومحمد عطا إلى الظواهري والبغدادى، ينتشر خطاب الكراهية ووصم الإسلام بالإرهاب. هذه التنظيمات المفبركة منبوذة أساسا في البلدان ذات الأغلبية المسلمة. لقد ربطوا الإسلام بالإرهاب بهذه التنظيمات الشاذة. لم يذكروا حركات السلام الاسلامية الموجودة بالمدينة وكل مدن الغرب. انظري مثلا لجمعيات أصدقاء ( رينو جينو)، و ( جاك بيرك)، و خان عبد الغفار خان، وابو الحسن الشاذلي، وغيرها بالمدينة. هؤلاء الناس يتعايشون ويندمجون في المجتمع ويلتزمون قوانينه. ثم نظر لسوغولين التى أخذت تتابعه بشغف وهو يقول: الإشكال حضرتك متشعب. من يقفون خلف الصورة الممقوتة المفبركة عدة جهات تربو على الحصر. كان الإسلام حلوى مكشوفة يرتع حولها الذباب. قالت: سوغولين: إذا كنت عصريا ومنفتحا هكذا، فلماذا يضيق عليك الأمن ويضطهدك؟. ردت أم أرتور: فقط لأنه هكذا. لا يمكن الاعتماد عليه فى أجندة أي فريق. ثم إن أى خلاف معه يبدأ فكريا وأخلاقيا قبل أي شيء. لكنى لازلت لا أفهم لم اقتصر الأمر على الاسلام دون غيره من الأديان؟ رد موسى: فى الحقيقة يتم تقييم الإسلام بشكل أكثر سلبية عن بقية الأديان. أما لماذا فلأنه الدين الوحيد القادر على الصمود في وجه الإلحاد وكافة دعاوى الوثنية المستحدثة. حين دخلت المسيحية الهند بنيت على ما كان موجودا من ملل ومذاهب، فى حين هدم الإسلام ما كان قبله وبنى من جديد. الإسلام دين علمى بامتياز. وما كان للشائعات التى ترافق ذيوعه وانتشاره أن تصمد خصوصا بعد أحداث نيويورك وتفجير يرجى مانهاتن. سألت سوغولين وهى تصب كأسها الثانى من الزجاجة التى باتت على الطاولة وتعقص شعرها: وكيف ذلك؟ رد موسى: بعد الكارثة ذهبت الجموع تقرا عن الاسلام حتى اعتنقه 200 ألف شخص دفعة واحدة. تري لو كان هذا دين إرهاب، هل كان يكتب له الانتشار بهذا اليسر فى الامة الأمريكية؟ قالت أم أرتور: نعم أعرف ذلك. ولم يسلط على رقاب هؤلاء أي سيف. قال موسى وهو ينظر لسوغولين: ولا على رقاب أرتور وويسلى وفان سان؛ فلكل واحد من هؤلاء حالته التى يجب الوقوف عليها بمفردها.
***
مشت سوغولين إلى البار وعادت بكومة مكعبات ثلج فى إطارها البلاستيك ، وضعتها في الدلو المعدنى حول الزجاجة وراحت تقول: لاحظت كانك تهاجم العلمانية مع العلم أنها اصطلاح سياسي لا دينى. فهل ثمة تعارض بينها وبين الاسلام؟ ولو كان الأمر كذلك، فمن أين جاء هذا التعارض؟. قال موسى: العلمانية ظهرت بحقل السياسة ووصلت للدين مع رجال الكنيسة أنفسهم. أمر العلمانية قديم عندكم جديد على البلاد ذات الأغلبية المسلمة. فى اليهودية والمسيحية يمكن أن تجدى رجال دين علمانيين، أما الاسلام فلا. العهد القديم والعهد الجديد كتب تدين وتخلق، بينما القرآن كتاب تدين ونظام حياة. قالت أم أرتور: فهمتك، لكن إذا كان معنى العلمانية فصل الدين عن الدولة، فما الخطر في ذلك على الدولة ذات الأغلبية المسلمة؟ وما هو شكل المدينة التى يريدها الإسلام؟ رفعت سوغولين يدها وهى تقول: عفوا، تذكرت شيئا مهما. منذ اهتم فان سان بالإسلام وانا معه دون أن يشعر. قرأت كثيرا الفترة الماضية عن دولة الإسلام في الأندلس وفهمت أشياء كثيرة . ما جذب ولدى للإسلام المدرسة أولا، ثم حركات السلام الاسلامية التى ذكرها موسى سالفا وتملأ المدينة. تفاعل هؤلاء مع منجز حضارتنا هو الذى شجعهم على التعايش والاندماج. يعيشون بمجتمع علمانى وهم متدينون، يمارسون شعائرهم بأريحية كاملة. ويستفيدون من تقدم المدينة العلمى والتقني لنصرة دينهم. صحيح أنهم جاؤا من مجتمعات متدنية ثقافيا، إلا أن ماضيهم فى الأندلس وغيرها معروف. كما لا يمكن لعاقل إنكار دورهم المتنامي اليوم. نهض موسى واقفا يصفق لها ويقهقه. اقترب منها كمن أراد تقبيلها وهو يقول: أنت مدهشة؛ فجفلت وارتدت بجذعها في الكرسى للخلف. ولما أمسكت المرأتان عن الضحك، أشعل سيجارة وجلس يمسح عينيه ويقول: هذا بخصوص فان سان،


ثم نظر لأم أرتور وهو يقول: فماذا عن ولدك؟. القلق كان واضحا فى وجهها، وقد لفت ساقها اليمنى على اليسرى مرتين. عيناها حزينتان وتلتقط الكلام من الأفواه كمن يستمع لمرافعة فى محاكمة. أفاقت أم أرتور من شرودها تقول: لقد قاطعتك سوغولين، ردي على سؤالى أولا. قال موسى: خطر عزل الدين عن الدولة ما نراه اليوم بالمدينة. تمزق وتفسخ أخلاقى ،وأمراض نفسية وعصبية، ومثليون وشذوذ. التدين الفعلى يقضى على كل هذه الآفات. أما شكل المدينة التى يريدها الإسلام؛ فهى مدينة عصرية مفتوحة على كل روافد العلم والمعرفة وتسع الناس جميعا. الإسلام دين عالمى وجماعى. لا يمكنك أن تعيشه مكتملا بمفردك. ومدينته، ليست ثابتة الشكل والبنى وانما تعتمد أحدث ما وصل إليه عقل البشر.هذا هو الاسلام، أما المسلمون؛ فهنا يكمن الخطر. تفرقهم وتشتتهم واختلافهم فى تأويل النصوص والأحكام جعلهم اليوم في آخر الركب. سألته سوغولين: هل قصدت أن تقول أن لكل فرد اعتقاده الخاص؟ رد موسى بسرعة: بل لكل فرد تأويله وفهمه لمراد الإله؟ سألت بغيظ: وكيف ذلك؟. قال موسى: للعقول فى تأويل النص الديني_ قرآن وسنة_ أربعة مستويات، ولكل مستوي فهمه. تأففت سوغولين وهى تقول: يا لها من متاهة؟ تركهما ومشى إلى البار وأعد لنفسه القهوة، ولما عاد وجد أم أرتور تضحك بعصبية وتقول: أى اسلام هذا الذي لم يكن في الحسبان؟ أرتور حساس أكثر من اللازم. شعوره أنه قوى يجعله ينحاز دوما للضعيف. الوقفة الاحتجاجية التي وقفها المسلمون، كان معهم فيها. يجد أن مطالبهم عادلة. كيف لا تخصص الحكومة أرضا لهم ليدفنوا فيها موتاهم؟. ولماذا لا ينظمون لهم مجلسهم الفيدرالى الذى يدير لهم شؤونهم الدينية؟ وهو ضد لائحة الأسماء التي منعوا من تسميتها، بخلاف ما يقع لهم من تنمر وتمييز. يراهم ضعفاء مضطهدون، وفى الإعلام كواسر وضواري. هذا ما أسمته سوغولين دور المدرسة. أما البيت، وأخذت أم أرتور تبكى. نهض موسى مسرعا وأدار موسيقى ( فيفالدي) الخفيفة التى تحبها. ثم جذب البالون الجلدى الكبير من فوق خزانة الكتب بجزأ الصالون الثالث ورماه أمامها. بينما راحت سوغولين تربت على كتفها وتهون عليها. وضعت راحة يمناها تحت ذقنها ورفعت وجهها حتى بات مقابل وجهها تماما، وصارت تمسح دموعها بأسف وتقول: لا داعى للكلام الآن. لكن أم أرتور لم تكف عن الكلام. تماسكت بسرعة، بعدما شعرت من شخصين بعاطفة ومآزرة ألف شخص. فهذه نقطة ضعفها وسبب بغضها للرجل. والدها وزوجها لم يكونا مثلا حسنا للرجل، والسبب طاحونة الجنس والمزاج المنحرف. أرتور كان يراقب والده ويسجل له بالصوت والصورة. تكوينه التقنى سمح له باختراق كل تطبيقات هاتف والده. وكلما أخبرنى بذلك أتظاهر بالمعرفة وأنهاه عن التجسس. هذه الطاحونة جعلت أرتور يفر إلى النقيض ويبحث عن الأخلاق. قال موسى: لو فتشت في هؤلاء المراهقين كل على حدة لوجدت الخطأ في النشأة قاسم مشترك. نظرت إليه بعجب وهى ترد خصلة الشعر التى نزلت على جانب وجهها وقالت لم أفهم؟ قال موسى: إما رأى الولد أباه مع خليلته، أو أمه مع خليلها، أو أخته تبيع المتعة لدرء الفقر، أو سيرة عائلته رخيصة. هذا الخلل موجود لديهم جميعا بصور شتى. سألت سوغولين: وما الذى يجمعهم بالمسلمين؟ قال موسى وهو يضحك: المصير المشترك. هؤلاء شركاؤهم في التهميش و الإقصاء وحتى ال ( فوبيا). كل سيئات المدينة العلمانية تنزل على رؤوسهم. لا داعى للعجلة؛ فالجامعة تدرس الأمر وغدا نرى التشريعات. على أية حال هولاند أفضل من ساركوزي. لازلنا رغم كل شيء نثق فى اليسار. وحين عاين الطمأنينة والراحة فى سيماء المرأتين، نهض وارتدى الجاكيت على عجل وهو يقول: استأذن حتى لا يفوتنى القطار وأنام بالشارع. صحبته ام أرتور كعادتها إلى المصعد، ولما جاء وفتح بابه، قال وهو يودعها: يلزمك ( فكانس) للمغرب. فكري. سلام.
***
فى الأسبوع التالى علمت أم أرتور بزيارة شيخ مغربي للمدينة. إن اهتماماتها الكثيرة صارت مضاعفة مع إشكال ولدها. وقد أسفر المد والجزر لها مع موسى بالولوج إلى دائرة الدين حتى منتهاها. ما عاد يعنيها كلام الأنبياء ولا الكتب المقدسة، ولا الأخلاق ولا الفضيلة، بل الظواهر الروحية المصاحبة لبعض البشر. أم أرتور تحب المغرب ومن كثرة أصدقائها هناك تزوره مرة أومرتين كل عام. وتسعى الآن لتعلم الدارجة المغربية حتى إذا بلغت سن التقاعد اشترت بيتا بمدينة فاس وعاشت به ما تبقى لها. كما أنها كلما علمت بواحدة من أمسيات المباحث الروحية اهتمت بحضورها. لا يهمها أن تكون الجماعة الداعية مؤمنة أو كافرة، تسير على خطى الانبياء والأولياء أو على خطى الشيطان. وتتصل بموسى كثيرا لتحكى له عن تلك التجارب، تتكلم بنشوة ولا تلتفت لنصائحه مهما يقول. فالمدينة العلمانية ينتشر بها الإهتمام بتلك الظواهر، ولا تفرق بين العارف والساحر. بل إن هناك من أهل الحكم من يؤثر بها على بعض البشر، خصوصا الصنفين الثالث والرابع ممن يحكم المدينة. مسيو أماس كان لديه وفقا سحرياً فى خاتم فى إصبعه، لو حاز أحدهم وعرضه لمجاله شعر كان هناك من يقطع أحشاءه بسكين. وكم جلبت أم أرتور تمائم مشابهة كلما زارت أفريقيا وعادت ( برونزيه). حتى أنها حين زارت "جامع الفناء" بالمغرب ورأت بعض ألاعيب السحرة، كتبت سبعة عشرة صفحة حين عادت وأرسلتها لموسي بالبريد حتى تهرب من نصائحه. كانت الزيارة بحى ( أوبرفيليه) الفقير موطن نفوذ الحزب الشيوعي. وكان الشيخ المغربي من طنجة ويتبع الطريقة الصديقية الشاذلية. وكلما أبدت استعدادا للحضور، شعرت في داخلها بالامتعاض والنفور. كانت قد حضرت أسوأ أمسية لها فى هذا المجال قبل أقل من شهر. جماعة كانت تروج للاتصال بالارواح الميتة عبر إعادة التجسيد. والصالة التى يتم فيها ذلك كانت بالطابق الثالث تحت الأرض. وشرط الحضور أن يكون الرجل مع خليلته أو حليلته، مما اضطرها لاصطحاب زميل لها بمنى البلدية. شعورها والوسيط الذي بات ساحة لجلب الأرواح الميتة يتحول فى صوته وملامحه لازال يغضبها. ماذا صنع ليصل إلى هذا الدرك من الانحطاط؟, لا تفهم. وكيف بات الرفاق والأزواج
حين خفتت الموسيقى بالصالة ثم انقطعت؟, لا تفهم أيضا. غير أن ما ظل عالقا فى جوفها من الإستياء، لحظة نبهت زميلها للانصراف قبل بدء إيحاءات الجنس الجماعي. وإذا جاء الموعد غلب عليها الاهتمام ووصلت مع بداية الحضرة. إدارة الحى كانت كلها بالسرادق؛ فسلمت وجلست مأخوذة بما ترى لا تريد أن يقترب منها أحد. وكان أكثر من أربعمائة شخص في جزء السرادق المخصص للرجال، وأقل من نصفهم فى جزء النساء. ومقاعد طولية كتلك الموجودة بالكنيسة أمام السرادق، يجلس بها المهتمون أيا كان نوعهم. وكان الشيخ الذى عبر البحر لأحبابه ومريديه يجلس وحده وسط صفوف الرجال الأربعة جلسته للتشهد ويدور برقبته حتى تقترب لحيته من كتفه الأيسر وهو يقول: ( لا إله). ثم يرد بها حتى تقترب لحيته من كتفه الأيمن وهو يقول: ( إلا الله). فقط صنع الشيخ وصار الرجال والنساء والاطفال يصنعون. نحو سبع دقائق وغير رتم التمايل. صارت لحية الشيخ البيضاء الكثة تقترب من الأرض وهو يقول: ( لا إله), وترتفع حتى يستوي في جلسته وهو يقول: ( إلا الله). خمس دقائق أخرى ونهض الشيخ يقول: قيوم قيوم قيوم الله الله الله. نهض القوم وتلاشت الصفوف الأربعة فى دائرة مركزها الشيخ.
***
أم أرتور غاصت في الكرسي وراحت تراقب بحذق وتسأل من يهتم بها أن يترجم لها كل شاردة وواردة. كانت تشعر باسترخاء فى باطنها يتزايد. ورأسها الذى لا يكف عن التفكير صار يبرد حتى اعتدل. بينما الشيخ يضرب أطراف كفه اليسرى في بطن اليمنى ليحكم إيقاع التمايل. لدية أربع طبقات بين الجهر والمخافتة، اثنتان واثنتان. بدأت الأولى باسم الله الجهر، مع الحرفين الأولين ينحنى الشيخ قليلا للأمام، ومع الحرفين الآخرين يعود جسمه إلى استقامته. والقوم فى الحلقة يرددون الإسم ويميلون ويعتدلون كرجل واحد. ثم بدأت تظهر جوقة الإنشاد الجماعية هادئة كأنما تأتى من بعيد. ( اطع أمرنا نرفع لأجلك حجبنا/ فأنا منحنا بالرضا من أحبنا. ولذ بحمانا واحتم بجنابنا/ لنحميك مما فيه أشرار خلقنا. وسلم إلينا الأمر فى كل ما يكن/ فما القرب والإبعاد إلا بأمرنا). بدأ الإنشاد خفيفا وراح يعلو شيئا فشيئا مع صوت كف الشيخ. والأجساد المتحلفة تتمايل معا وترتفع معا رغم عيونهم المسبلة دون خطأ. ثم بدأت طبقة الله السر، حيث لا يتجاوز الصوت الشفاه، وظهر معها صوت الانشاد الفردي. ( ستندم إن رحلت بغير زاد/ وتشقى إذ يناديك المنادي. فمالك ليس يعمل فيه وعظ/ ولا زجر كأنك من جماد. أترضى أن تكون رفيق قوم/ لهم زاد وانت بغير زاد). أم أرتور بكت حين ترجم لها من يهتم بأمرها. كان معها ( بانفليت) شأن هؤلاء الذين يجلسون أمام السرادق ولا يعرفون لغة القوم، ومع ذلك اهتمت أن تسمع من هذا الذى يهتم بأمرها. وقد أتعبته ولازالت، حتى تفهم ما يعتريها. إنها لم تجرب هكذا حالة من قبل، أن يأخذها الخارج بهذه القوة المدوية. كل الجلسات التى حضرتها كانت تسيطر فيها على نفسها. تزداد تلك السيطرة كلما عاينت سهام الريبة. أما ما تراه وتسمعه فتشعر معه بالجذب والنعاس. فكرت أن تطلب كأسا حتى تفيق قليلا وعلمت أن ذلك فى حكم الممنوع، فرضت بالقهوة على غير عادتها. ثم صرخ الشيخ بطبقة حى الجهر، وعادت جوقة الإنشاد الجماعية للظهور. ( يا سيد الخلق ما لى من ألوذ به/ سواك عند حلول الحادث العمم. ولن يضيق رسول الله جاهك بى/ إذا الكريم تحلى باسم منتقم. ثم الرضا عن أبى بكر وعن عمر/ وعن على وعن عثمان ذي الكرم. والأل والصحب ثم التابعين فهم/ أهل التقى والنقا والجود والكرم). سألت أم أرتور: لمن الشعر؟ رد الشاب: هذه أبيات البوصيري، لكن يجب أن تعلمى أن لدى الطريقة مختارات شعرية لأغلب شعراء الحب الآلهى. وان لكل طبقة ذكر عدة قصائد تناسبها ولا تناسب غيرها في الانشاد. احتست أم أرتور من فنجانها وهزت رأسها موافقة. وهنا وصل الشيخ لطبقة حى السر، وعاد صوت الانشاد الفردى. ( لما إن دار الكاس، ما بين الجلاس، هبتهم الأنفاس، عنهم زال البأس، يا ساقى الحضرة، هب لنا نظرة، واسقنا الخمرة، في حان الفقراء. هيا يا أحباب، يا ذوى الألباب، قد زال الحجاب، والصفا قد طاب، والرضا قد لاح، فى حمى الفتاح، فانشروا الأقداح، وانعشوا الأرواح، يا ساقى الندمان، املا واسقنى، من صافى الجنان، خمره يحينى، ساقيها الفتاح، منعش الأرواح، عطرها قد فاح، لطفه يشفينى).
لولا براعة المترجم الشاب فى توصيل الحالة التى وجدها داخله، ما شهقت أم أرتور شهقات متتالية طلبت بعدها الماء. وفجأة شعرت بنافورة من العرفان تعلو وترتفع فى باطنها، وما عاد يشغلها سوى الشيخ. قال بعدما انتهوا من الذكر: بارك الله في من جلس؛ فجلس وجلسوا. قرأ أحدهم أقل من عشر آيات من القرآن بصوت شجى جميل ولما انتهى، نطقوا الشهادتين جميعا بصوت مدو. ثم يأتى أهم وقت فى الحضرة، وهو درس العلم. أغلب المهتمين بالمباحث الروحية يقفون هنا. فى مثل هذه الأوقات تخرج الأسرار. أطرق الشيخ مليا وتحدث نحو ساعة شعرت معها أم أرتور أنها تعرف حقا. لقد رأت هذا الشيخ من قبل ولا تدري أين. كان فى سرادق يشبه هذا بالضبط، وربما بين هؤلاء أنفسهم، وكان يقول ما يقوله الآن. أم أرتور لفت ساقها اليمنى على اليسرى مرتين وشدت خصلة من شعرها لتشعر بنفسها، ووضعت يدها على فمها وهى تنظر للشيخ و تتسمع على المترجم. تقول فى نفسها هو من كنت أحلم به كلما بت غاضبة على مصير جدي. فقط كان شابا ولحيته سوداء. تنظر فى بياض لحيته الذى يشبه الفضة، وتقول، أين كان كل هذا الزمن ، وما معنى ذلك؟ لقد صار كل شيء جليا لها، حتى أنها كانت تسمع المترجم الشاب وتكمل له بعض الجمل. كان واضحا حقا أنها سمعت هذا الكلام من قبل، بل وسمعته مرارا. ولما انتهى الشيخ من درسه، صرخت أم أرتور رغما عنها، وسقطت مغشيا عليها
***
أرادت أم أرتور إنقاذ ولدها؛ فوقعت في الشرك. لم يتسن لها الجلوس مع الشيخ، لكنها عرفت عنه كل شيء. وكذلك لم تستطع إخبار أحد بأنها كانت تراه في نومها وهى صغيرة وهو صغير، وما تذكرت ذلك إلا فى مجلس العلم. هى التى تخبر أصدقاءها بكل شيء، باتت تخفى فى نفسها أكثر مما تعلن. لقد تغير لديها وجه العالم. تدرك أن ما تجهله أكثر بكثير مما تعلمه، وما اكتشفت أنها بعيدة كاليوم. هى التى تتأخر دوما بعقلها عن نفسها حتى تدرك ما بهذه الحياة. كانت تظن أنها تقارب الحقيقة فى كل ما تقول وتعتقد، لكن ما تعرضت له في حضور الشيخ هز كيانها بقوة. فلأول مرة في عمرها الطويل تشعر أنها لا شىء. كيف لها أن تعيد ترميم العالم الذى كونته رحلة وعيها؟ لقد هجمت عليه تحولات لا حصر لها بات معها غريبا عنها وغير مألوف. هى التى كانت تمشي بفكرها خلف كل حركة. وكلما عرفت مكانا أو فكرة جديدة وصلت إليها كل مرة من جهة مستعينة بطرح كل الأسئلة النظرية.. وفى كل تغير للحركة ووصول للمكان من طريق مختلف، يتغير وجه العالم. عاشت أم أرتور كل هذا العمر على درب الحكماء، فما الذى ينقصها؟ تسأل السؤال فى نفسها ولا يخرج منها. وتزداد اهتماما بالمباحث الروحية. ذهبت مع نتالى إلى المعبد البوذي، أعجبتها الروائح واستهجنت الصلوات. لم تستسغ أن يسجد إنسان لإنسان أو لصورة مهما كان صاحبها عظيما. ولما اقتنت تمثالا ل ( بوذا)، كان مجرد خزانة للأموال لا رمزا للتعبد. وذهبت لمعبد هندوسي مع صديق معها فى البلدية، وكذلك أعجبتها الروائح والنيران في ال (شيمنيه)، وسخرت من هيئة ال ( الباببچى). هو أكبرهم فى الرتبة ويقيم بهم الصلوات. وبعد الصلاة يتمدد على كنبة ويدورون حوله يلتمسون منه البركة. أخبرها صديقها الهندوسي أنه مستجاب الدعوة؛ فأنكرتها ولم تبدها له. ولما زارت السيخ فى معبدهم، كرهت اليوم الذى ولدت فيه. الروائح الموجودة لديهم، والزيت الذي يدهنون به شعرهم، أثار حفيظتها فاستفرغت في الحال. واحتاجت لأسبوع حتى تغيب رائحة العفن من أنفها الدقيق الطويل. كما واظبت قليلا على سماع العظات وحضور الصلوات بالكنيسة والمعبد. ستة أشهر كاملة قضتها أم أرتور فى هذه الدورة ولم تخفت في ذهنها ملامح الشيخ. كأنما كانت تهرب حتى تنسى، لكنها ازدادت تعلقا. وحديثها مع أرتور ازداد رفقا ولينا. غابت منه تلك الاصطلاحات الفوقية مثل يجب أن و هو كذلك، وحل فيه، إذا أردت وإذا أحببت. وكلما أعياها الفكر والخيال عادت للسؤال: ما الذي ينقصها؟ كانت تريد أن تعرف دون أن تسأل أحد. فمهما كانت مصيبتها لم يهتز عقلها وما يحويه بهذا العمر الطويل. فى هذا الوقت كان موسى أكثر من يلح على ذهنها ومع ذلك لم تلجأ إليه. وذات مساء ذهبت وحدها إلى المكتبة الملحقة بمسجد المدينة الكبير. كانت تعرف أن ثمة ثلاثة مساجد بالحى الفقير الذى تعمل ببلديته، غير أنها لم تفكر فى زيارتها. دخلت المكتبة وسلمت على أمينها ثم جلست أمامه تلتقط أنفاسها وتمسح عرقها. وبعدما مهدت بحديثها عن حيرتها حددت له ما ترغب في قراءته وطلبت منه أن يساعدها. قالت أنت تعرف المؤلفين المبرزين فى العربية؛ فاختر لى الأهم منهم أيا كانت جنسيته. ثم نقلت له رغبتها في القراءة عن المرأة في الإسلام، وعلاقة الإسلام مع غيره من الأديان، ولماذا هذا الموقف السلبى من المثليين، وكيف ينظر هذا الدين للروح والنفس فى الحياة الآخرة. وبعدما أمضت نحو ساعة مع الأمين، عادت بأربعة كتب، علها تجيب من خلالها على السؤال الذي يقض مضجعها.