*****
{ هذيان الرياح، هذا النهار ، هدَّ هدوء الاشجار، فهمهمت أوراقها متهاوية ، عن أغصانها المتهالكة ،على جدران حديقة دار، تنطق قسمات ردهاته، بوجوم وجوه المسنين ، كانت كعادتها في مثل هذا اليوم ، مع أزوف جديد موعد نسيانها ، تقودها قدماها المرتعشتان ، لتتكوَّم لاهثةً ، في ظل صنوبرة عجوز،على مصطبة خشبية ، رحل عنها طلاؤها ، فصارت تذكِّرها ببعيد زمن لاتذكره ، هجرتها فيه جميع الفصول ، سوى حضن مهجعها ، ظلت اليأس يرتديها ، ويخلعها الحنين لاتملُّ عزلتها ، وقتها نفت عنها كل اللغات ، ولم تعد تتحدث إلا بعينين ذابلتين ، تذرفان حروفا حبلى بأسرار انطفائها ، لكم تاقت ان يتمخضنَ مَرَّة ، فيلدنَ مفردات من جمر، يصرخنَ لهيباً، بما في دواخلها ، كان اليأس يرتديها ، ويخلعها الحنين ، وعيناها مشدودتان بلهفة مُرَّة ، صوب مدخل الزوار، لطالما تمنّت أن يأتيها أحد ما؛ أيا كان، لكن ...،.غير أنها ، لمحت طيفا ، سرعان ما منعتها دمعة حائرة، ترقرقت في مآقيها، من أن تتبينه، ما كادت تستحضر من بين خرائب ذاكرتها صورته ، تنطق اسمه حتى سبقها الصمت، ببناء الحجر الأخير، من جداره على فمها
----------
الدراسة
****
يمكن عدُّ هذا الخطاب الادبي ، مما يندرج في خانة النصوص المتداخلة الاجناس
( اي التي تتداخل في بنية لغتها التعبيرية ،عناصر فنية للغة جنس ادبي اخر او اكثر )
،فنسيج لغته السردية ، موسوم بجماليات وتقنيات اشتعالية شعرية حداثوية ( كالتكثيف ، الترميز،الصورة الشعرية ، الانزياح ، الايحاء ، الإيقاع ..إلخ ،) ، كما ستبينه الدراسة لاحقاً ،كمركبات لبُناه الأسلوبية ، في سياق لغوي ـ عاطفي ، و يتمظهر هذا التعالق في المستوى الدلالي ،الصوتي ، والازاحي ، مما مكّن الكاتبة من خلق فضاء تعبيري رحب الثراء ، خصب التوليد للدلالات ، وهذا ما فتح النص على تعددية قرائية ومن ثم تأويلية وفق هذه المقاربة
نص منتج للدلالات = طبقات المعنى + طبقات القراءة
وهذا ماستشتغل عليه دراستى ، وابدأها بتفكيك بُنى العتبة العنوانية ( قلوبٌ باردةٌ ) ،التي يبدو الانطباع الاولي عن معناها الظاهر انه مباشر مستهلك المعاني مما يباعد بينه وبين اللغة الشعرية ، وقصدية التفكيك الحصول على آلية ( مفتاح ) تأويلية لدلالات اشارات لغة متن النص ، ومقاربة مقاصدها، فالعنوان يمثل النواة الدلالية المولدة للدلالات الفرعية الأخرى المبثوثة في المتن ، ويرتبط معه بعلاقة تكاملية ،ترابطية وحتى جدلية فهو يسأل / يعلن ، و المتن يجيب / يشرح او يفسّر ، والأهم العثور على خصائص لغة شعرية في معناها التحتانيى
:* بنيتها الدلالية
العبارة بتمامها ذات سياق احالي مقامي / خارجي ، لتحديد معناها العميق / التحتاني فدلالتها السياقية اللغوية ، لاتتعدى مجالها المعياري كما يلي
المدلول المعجمي لكلا الاشارتين الدالتين ( قلوب ، باردة )
ـ قلوب : جمع قلب ، من اعضاء جهاز الدوران
ـ باردة : فاقدة الحرارة ، مقابل ساخنة او حارة
.وهي دلالة غير متسقة في سياق اللغة الادبية
:اما احالتها المقامية / سياق الموروث والثقافي الشعبي تعني
المشاعر المتبلدة ، عديمة التعاطف مع الاخرين ، فالقلب في الموروث الثقافي الشعبي
ارتبط في اللاوعي الجمعي بالمشاعر حتى صارمتعالقاً معها ، باعتباره وعاءها ومصدرها ، واتصافها بالبرودة ( قلوب باردة ) ، دلالة على عجزها عن التفاعل الحسي العاطفي ،فبرودة الاجسام تعني فقدانها الحرا رة ، التي ارتبطت
:حياتياً بالحركة كعلًةٍ لها، وكما في المقاربات المعنوية التالية
ـ الاشارة قلوب = مصدر الشعور
الشعور = اثر حسي حي يتولَّد عن اشتغالات ( نشاط حركي ) الجهاز العصبي ، فهي اذن متصفة بالحرارة
:بتجميع هذه الدلالات
قلوب = مصدر المشاعر الحارة الحية
باردة = فاقدة الحرارة
فاقدة الحرارة = غير متحركة / خامدة ، ميتة
:وبتكثيف دلالة باردة
باردة = خامدة ، ميتة
:ثم بتجميع دلالات الاشارتين
قلوب باردة = قلوب ميتة الشعور ، قاسية ومن مرادفاتها ( عديمة الرحمة ، فاقدة لإنسانية التعاطف
والدلالة هنا مزاحة عن معناها اللغوي / دلالة تحويلية
بذا يكون المعنى التحتاني للعتبة مولداً لدلالتها الفوقانية / الظاهرة على السطح
: البنية الصرفية *
،ـ قلوب / ج. قلب : اسم آلة جامد
ـ باردة : اسم فاعل من الفعل الثلاثي / برد ، وهو فعل لازم ( يلزم فاعله لايتعداه
المقاربة المعنوية لدلالة ( اللزوم ) ، بإحالتها مقامياً / سلوك اجتماعي ، هي :
الانانية ، المنع ، الإثْرة ، عدم التواصل مع الغير
وهذه المقاربة تكافئ دلالة الفعل اللازم في سياقه النحوي فهو اناني يؤْثر
الإكتفاء بفاعله حسب ، و لايؤثِّر فيما بعده اعرابياً ( بما يكافئ دلالةً / عدم التواصل معه ) ، وبمقاربة دلالتها المقامية
قلوب ميتة الشعور = انانية لاتتواصل عاطفيا مع الاخرين
بذا عمّقت بنية الاشارة ( باردة ) الصرفية ، معنى بنيتها الدلالية اعلاه
: البنية النحوية *
:تفكيك الجملة العنوانية يخلص الى ان المُسند محذوف ، كما يلي
ـ قلوبٌ : مبتدأ مخصص بالصفة ( باردةٌ ) ، التي جعلته احدى النكرات التي يجوز
الابتداء بها ، وفق قاعدة (المسوغات ) النحوية ، و الخبر محذوف جوازاً ، يُقدّر
سياقياً ( السياق النحوي ) بضمير الغياب ، اما تقديره في سياق الدلالة العميقة
. التحتانية للعتبة ، فمؤجل حتى اتمام تفكيك كامل النص/
:البنية التركيبية*
جملة العتبة ، جملة اسمية تفيد الثبات والاستقرار، وهذا يكافئ دلالياً ديمومة قسوة
تلك القلوب ، و انزياحها التركيبي ، بحذف خبرها / المسند ، يؤدي وظيفتين دلاليتين
:داخلية وخارجية
الداخلية ( نصية ) : تبئير المسند اليه ( المبتدأ ) ،اي الايحاء بأنَّ دلالته التحتانية-
، السابق ذكرها اعلاه ، ستكون بؤرة المعاني التي تدور حولها فكرة القصة الرئيسة
الخارجية ( خطابية ) : شدّ انتباه وفضول القارئ ( مفهوم الاستدراج )، فالحذف-
يعني ان هناك مسكوتاً عنه يثير سؤالاً مقاربته هنا : قلوب من ؟ ،وهو يحيل الى
النص ، فالبحث عن اجابة عنه ، يدفع ذاك القارئ للدخول الى عالم القصة ( فهم النص
ولنعرض بإيجاز سمات ما افضى اليها اشتغالنا التفكيكي من دلالات ومقاربات
:معنوية لبنية العتبة اللغوية وكما يلي
،( تعدد دلالاتها الاشاراتية / سطحية وعميقة، مما يجعلها ( شيفرة دلالية مكثفة -
: الإنزياح التركيبي فيها / الحذف له هذه الدلالات -
أ - افرز المحذوف توتراً انفعالياً ، بقصد اشراك القارئ في انتاج معنى العام للقصة
من خلال دفعه الى تقدير دلالته والبحث في عالم النص الداخلي عما يقارب تقديره معنىً
(ب - اثارة سؤال يحيل الى النص ، يعني وجود ترابط دلالي جدلي بينها ( اي العتبة
.وبين متن القصة الذي يقوم بالإجابة / التوضيح والتفسير
ج ـ بؤروية المسند اليه ، رسم ملامج اولية لفضاء النص الدلالي
( تعدد سياقاتها النصية ( لغوية ، مقامية -
وهذه السمات هي ذاتها سمات العتبة العنوانية للنص الشعري ، وهذا هو التقارب .التعبيري الاول بين سيميائية اللغتين الشعرية والسردية
وبالإتكاء على هذه المخرجات التفكيكية ، ساقوم بدراسة تحليلية لبنى اسلوب المتن للوقوف على مدى شاعريتها هي ايضاً وستأتي استشهاداتي النصية مقتضبة ، دفعا للاطالة وكذلك لصحة تعميم مايتحقق من نتائج على بقية.شواهد كل بنية
بدايةً : اللغة الشعرية الحداثوية لغة انفعالية ،اشاراتية ، وسبق لي ذكر عناصرها الفنية و تقنيتها التعبيرية في مقدمة هذه الدراسة ، شتى انواع الانزياحات ؛التركيبة و الدلالية ، كذلك الصور الإيحائية و المجازية .التكثيف ، التخيّل ،وايقاعات تنغيمية حرفية ( فونيمات ) ، نبرية او ( سجعية ) وغيرها ، تشدها الى بعض روابط نسقية في سياق فني متين الحبكة ، وتشتغل صيرورة كل هذه العناصر حدثياً ، في فضاء ( نفسي / مكزماني ) مشحون بالاحباط ومشاعر التصدع الذاتي لبطلة القصة ، وتنعالق تقنيات اللغة الشعزية التي وظفتها الكاتبة ، مع تعبيرية السرد القصي للمتن ، على اكثر من مستوى
:ــ المستوى الصوتي
نجد ان اصوات الاحرف ذات الايحاءات الحسية السلبية الاكثر تكراراً قد هيمنت على الفضاء النفسي للمتن وكما يلي
الهاء : تكررت 52 مرة / دلالته الحسية : اليأس ،الحزن ، الألم والوهن
التاء 64 مرة / الحزن ، الاعياء
الميم 44 مرة / الم وحزن وهن
النون 61مرة / كدلالة الميم
الحاء 14 مرة / الحنين ، الاشتياق
الفاء 18 / الضعف والوهن
مجموعها = 253 مرة في نص بلغت عدد مفرداته / 148 مفردة
المقاربة المعنوية للفضاء النفسي الذي رسمت ملامحه الاحاسيس التي تثيرها اصوات الاحرف اعلاه يمكن تركيبها بإستحضار بعض مرادفاتها المحددة المعنى كما يلي
( اليأس ) ؛ الاستسلام ، الاخلاص + ( الحزن ، الالم ، الوهن ) ؛ لاسلام داخلي + (الحنين ،الاشتياق) ؛ الحرمان ، الفقد = الغربة المكانفسية ، النفي الوجودي/ حضور غياب الزمن
كما ان صوتَي الهاء الاولى في اولى مفردات المتن ( هذيان ) ، والاخيرة في اخر مفرداته ( فمها ) / صوت حرف الالف بعدها يطلق صوت الهاء متلاشيًا فيه كونه حرف مد ، مثّلا مطلع وخاتمة توليفة نغمية حزينة شكلها سمعيا تناوب تلك الاصوات ، حيث بدأ هامساً ( الهاء من الحروف المهموسة ) وانتهى متصاعدا كأنه يطلق وجعا استوطن دواخل بطلتنا تلك ، باتّساقية مع تصاعدية الحدث النصي
واتبعت الكاتبة ( آلية النغيم ) لخلق بنية ايقاعية تتناغم مع الفضاء التعبيري وتعمق ايحاءاته النفسية ، واعتمدت هنا ايقاعين
:الاول : الايقاع النبري-
( هدّ هدوء ) ، (فهمهمت ) ، ( اوراقها متهاوية )، ( اغصانها المتهالكة ) ، ( قسمات ردهاته) ، ( وجوم وجوه)
الثاني :الايفاع السجعي -
،( النهار / الاشجار ) ، ( متهاوية / متهالكة ) ، ( كعادتها / نسيانها )
ويتضح لاتكلفية الكاتبة هنا ، في جعل العبارات هي من تختار ايقاعها ، فلا لزوم لما لايلزم
:ـ المستوى الازاحي وانواعها
:الازاحة الدلالية كما في *
هذيان الرياح ) ، (فهمهمت اوراقها) ، ( رحل عنها طلاؤها ) ، ( اليأس يرتديها )، (ويخلعها الحنين ) / هنا تكثيف دلالي
: الازاحة التركيبية *
ـ1 التقديم والتأخير : (تنطق بوجوم وجوه المسنين قسماتُ ردهاتُه ) ، ( لاتملُّ عزلتَها مواسمُه )، (عيناها بلهفة مُرَّة مشدودتان )
2ـ 2 الحذف : ( لكن ... ) ، ( لمحت طيفا ...) ، ( ولكن ...) / توتز ايحائي
* الازاحة الاحلالية : ( هدَّ هدوء الاشجار) ، ( تنطق قسمات ردهاته، بوجوم وجوه المسنين )
ـ مستوى الصور الفنية : صور متعددة الدلالات ، غرائبية ، لاواقعية ، تثير الدهشة واشتغالات الخيال لدى القارئ
(حديقة دار، تنطق بوجوم وجوه المسنين قسماتُ ردهاته ) ، ( هجرتها فيه جميع الفصول ، سوى حضن مهجعها ) ،( تذرفان حروفا حبلى بأسرار انطفائها ) ،(ببناء الحجر الأخير، من جداره على فمها.)
ـ مستوى السبك والانسجام / الحبك
*التكرار ( الإحالة الداخلية إلي ما هو سابق ) كما في ( حديقة دار، تنطق بوجوم وجوه المسنين قسماتُ ردهاته ) حيث يعود الضمير الهاء على متقدم عليها ( دار ) / كذلك في (على مصطبة خشبية ، رحل عنها طلاؤها )
*التضاد ، التقابل : ( تنطق / وجوم ) / ( تذكِّر / لاتتذكر ) / ( يرتديها / يخلعها )
* العطف : بحروف عطف ظاهرة ( الفاء / فهمهمت ، الواو/ ولم تعد ، ولكن ) الخ *علاقات الربط: (بالوصل والفصل، والأضافة، ).وهي واضحة في النص
بذا تتحققت شاعرية لغة المتن السردية كما تحققت قبلاً في العتبة العنوانية واستطاعت الكاتبة تذويب الحدود الاجناسية التي تفصل بين الاتواع الادبية بنجاح