قبل أشهر قليلة، دق منبه العمر معلنا عن بلوغي عتبة الأربعين، وأنا منذ زمن بعيد، أخشى الأربعين وأرهبها.. أربعون سنة مرت كلمح البصر، تسربت منها أحلام كثيرة كما يتسرب الماء من بين أنامل طفل.. أحلام وآمال سطرت بعضها وسطر لي الآخرون بعضها.. أربعة عقود كاملة، صادفت خلالها أصدقاء ممن ينطبق عليهم هذا الوصف، وأضعت سنوات أخرى أبحث عن الأعذار لآخرين. ظننت واهما أن الصادقين منهم باقون معي للأبد، فاكتشفت أنها مجرد لحظات تمر، يعود بعدها كل واحد منا إلى نفسه كما كنا نعود إلى البيت قبيل انسدال الليل، نفترق و تنضاف أسماء أخرى إلى الذاكرة..
أخطاء شتى يفيض بها هذا العمر، كنت أعتقد أني منزه عنها وأن نفسي لن تنجرف إلى أعماقها السحيقة، لكني أدركت بعدها أني لم أقرأ من نفسي إلا عناوينها، وأني إنسان من تراب،أحمل معي جينات الخطأ والخطيئة منذ الأزل، وأداري وقعها علي وعلى ضحاياي بمبرر النية الحسنة.. كم يكفينا من النيات الحسنة كي نثبت أن أرواحنا تستطيع دوما التحليق فوق وهاد الجسد وأوحال التراب..
أنا الآن واقف فوق هذه القمة المسماة " أربعون سنة"، أنظر بعينين متعبتين إلى كل الفيافي التي قطعتها، والسنين التي أمضيتها دون أن أضيف شيئا لهذا العالم، دون أن أزرع وردا في طريق ما، أو أغرس شجرة مثمرة في حقل، أو فكرة مضيئة في نفق مظلم لتعين تائها ما للوصول إلى وجهته. سنون طويلة مرت، اكتشفت بعدها أن معظم الأفكار التي كونتها عن نفسي، عن الآخرين، عن العالم بأسره، خاطئة ولا يسندها عقل ولا منطق، سنون أثبتت لي أن كيس الجوز الذي أضنى ظهري فارغ.. ظننت، مثلا، أن الأغنياء فقط من يستطيعون العطاء، وأن قصة البذل والتضحية لا تعنيني في شيء، فاكتشفت أن أغلب هؤلاء خُلق للأخذ والسلب والنهب تحت مبررات كثيرة ، وأن جلهم محروم من لذة العطاء أصلا ، ومجبول على الركض في البراري ، يطارد الفرائس، يتلذذ بدمها، ويعطي ألف مبرر للجريمة.. اكتشفت، ربما بعد فوات الأوان، أن هناك أشياء كثيرة أمكنني أن أقدمها، لكني لم افعل، واكتشفت أنني بذلك لا أختلف في شيء عن كل القساة الذين انتقدتهم، وأنني مجرد رقم تافه وعدد ينضاف إلى قوائم السكان، مجرد أحرف متراصة تكون اسما مخطوطا على رمل ، فيما تجري مياه كثيرة تحت الجسر، ويصنع عظماء تاريخهم، يواجهون موج الحياة مهما كانت مراكبهم هشة ومهما جرت الرياح في الاتجاه المعاكس.
اكتشفت، على هذه القمة، أن خيارات عديدة كانت بين يدي، لكني لم أكن في مستوى المسؤولية، ولم أجسد صورة الإنسان المخلوق لهدف ما، وطالما انتظرت من الآخرين أن يفعلوا ما كان مقيضا لي أن أفعل.. كان لنا أيام الطفولة بستان وساقية، وكان بالإمكان أن أغرس فسيلة نخل وشتلة رمان هناك، لكني اكتفيت بتسلق واجتثاث الأشجار القديمة التي غرسها مَن قبلي.. كان هناك حمام وعصافير تحط على سطح بيتنا، لكني لم أكلف نفسي عناء نثر بعض الحب على الجدران والسطوح، ولذلك رحلت كل العصافير إلى وجهة أخرى ولم تعد.. كانت هناك قطط تنظر إلي بأعين شبه دامعة ولم أع أو أنتبه إلى محنتها مع كسرة الخبز وبرد الشتاء، وكل ما قمت به إيصاد الباب والانتشاء بلحظة الدفء الذي توفره الجدران السميكة والنظر إليها ببلاهة من وراء زجاج .. وكان هناك أصدقاء ألاعبهم، ألجأ إليهم لحظة الضجر، أملأ بضحكاتهم صمت الأيام الرتيبة، ورغم ذلك، ظللت أنظر إلى ملابسهم الممزقة وأحذيتهم البلاستيكية نظر المرتاب اللامبالي، ولو قاسمتهم بعض ما أملك آنذاك، لرسمت على شفاههم تلك البسمة الحقيقية التي يفتقدها كل طفل محروم ينتظر هدية من حيث لا يحتسب، لو فعلت ذلك، لتذكرت الآن شيئا أفتخر به أمام نفسي وأستحق به إنسانيتي..
كبرت ولازالت أمامي فرص متعددة، كي يكون لي تاريخ ما، تعلمت أشياء في المدارس الحكومية وفي مدرسة الحياة، وكان حولي أناس كثيرون، أستطيع أن أجود عليهم بفكرة، مجرد فكرة، أن أعينهم على حل معادلة بسيطة، أن أشير عليهم في أقصر الطرق للخروج من ورطة أو ظلام يحفهم من كل مكان، كان هناك من ستتغير حياته بكلمة طيبة تخرج من قلبي وتقع في قلبه، فكم من حياة تغيرت إلى الأفضل بكلمة طيبة.. أتصور لو فعلت ذلك، لصادفت الآن أناسا كثيرين تغيرت حياتهم إلى الأفضل، بفضل ومضة أو دفعة بسيطة احتاجوها في لحظة حاسمة..
أتذكر أيضا من فوق قمة الأربعين عدد المرات التي مررت فيها قرب مستشفيات عمومية تكاد تسمع من خلف جدرانها أنّات الألم وزفرات الانتظار، ولو دخلت أحدها، فربما ألفيت هناك مريضا بلا أهل، أو طفلة تنتظر دواء، قد يكون في جيبي ثمن الدواء، قد أؤجل شراء حاجياتي التافهة، وأتبرع بثمن الدواء، وقد أجد من يقاسمني وهج الفكرة وتكاليف العلاج.. كم سيكون جميلا، لو وُفقت في ذلك، ورأيت بعدها الطفلة تجري، أو العجوز يقف مرة أخرى على قدميه ويحضن أهله.. لكني، والكثير من أمثالي، نكتفي بلعن الظلام والمرض والفقر وسب وزارة الصحة والتصويب على كل ما ومن يتحرك، دون أن نطرح السؤال الملح : ماذا فعلنا نحن من أجل كل التعساء المحيطين بنا عندما تخلى عنهم الجميع..؟
لو أنصتّ لتلميذي الجاثم في المقاعد الخلفية، لوجدت خلف صمته، ألما يمنعه من التعلم وألف سبب يبرر نتائجه السيئة و" قلة فهمه وتتبعه"، لو كنت أستاذا مميزا يملك بعض الذكاء ، لعلمت أن في قاعة درسي أطفالا يتضورون جوعا، والجوعى لا يفكرون إلا في كسرة الخبز. لو كنت نبيها بما يكفي لعلمت أن قطعة الملابس الوحيدة والحذاء الممزق لا يمنع البرد، فكيف سينصت للشرح من يفترسه البرد؟ لو كنت أستحق" شرف التدريس" بحق، لحللت الكثير من مشاكل هؤلاء الصغار الذين يحيطون بي كل صباح، مالئين يومي نشاطا وحياة وعنفوانا، لكني اخترت الطريق الأسهل، طريق الهروب، الطريق الذي يسلكه أغلب الناس، الوجهة التي يستدير إليها التافهون الذين لا يذكرهم أحد، ولا يغيرون أو يتغيرون، الطريق الذي يضمن،فقط، خبزا ومركوبا وهدايا للزوجة والأبناء، ولي في ذلك، ولهؤلاء " العاديين جدا" من عامة الناس، ألف مبرر وألف نظرية وحجة، ولعل أكثر الناس محاججة وجرأة على المناظرة والمقارعة، هؤلاء المارون على هامش الحياة، أولئك الذين يصنعون أمجادا وهمية، ويستقيلون تماما من وظيفة الوجود ومن تكاليف الحياة..
ملكت قلما يكتب، لكني سخرته للكتابة عن الحب في زمن الجفاء والكراهية، أليس في هذا العالم ما يكفي من قصائد الحب التي يكتبها شعراء كذابون يجترئون على الخيانة بالقدر الذي يتجاسرون على الشعر؟!، لو سخرت كتاباتي ووجهتها منذ زمن يعيد نحو هدف حقيقي، لو صوبت البندقية نحو الرؤوس اليانعة لربما تغير شيء ما، لكني كنت أتراجع في كل مرة وأقول : هذه بلاد لا تقرأ، وهذا وطن لا تغيره القصائد..
إنها أيام تمر، أمجاد حقيقية تُصنع هنا وهناك، أمجاد لا تحتاج أموالا ضخمة ولا عقولا عبقرية، بقدر ما تبنى بحضور حس إنساني صادق وبالرغبة الملحة في التغيير إلى الأفضل، وفي الخلود، أمجاد تصنع بالتضحيات وبضرائب تقتطع من جيبك ومن صحتك ومن تفكيرك، وفي المقابل منجزات خادعة، مفرقعات نارية تعلو في السماء ثم تخبو، حياة من التنافس الشرس ومن التناحر والتفاخر ومن الجمع والطرح والسهر لأناس يعيشون طويلا دون أن يحيوا لحظة..
أيها العمر الراكض إلى نهايته الحتمية مهلا، فأنا لم أكن أعلم أن الأربعين تأتي على عجل، فتلفيني في مكاني لا أبرحه، أقف كالتمثال أرنو إلى الصاعدين إلى القمم، فيما قدماي غائصتان في الوحل..
إلهي، أيها الممسك بخيط هذا العمر، والمطلع على مكنون هذا القلب، امنحني فرصة أخرى فإني أرى نورا خافتا في نهاية النفق الطويل.. في دواخلي نفس تلوم، وعلى كراساتي القديمة يشتغل قلم أحمر..
يوسف الناصري
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire
Remarque : Seul un membre de ce blog est autorisé à enregistrer un commentaire.