vendredi 30 avril 2021

ترقب وصول ( رواية ) : الفصل الثاني //أحمد البحيري // مصر


في المدينة عدة قبائل أكبرها العبابدة التي تنتسب لعبد الله بن الزبير. ذلك الفارس الذي شرب دم حجامة النبي وهو صغير. لما كان عند خالته عائشة والنبي يحتجم. وحين انتهى ناداه وأعطاه ما خرج منه في جفنة وطلب منه أن يهرقه في ماء جار. لكن الطفل الذي رأى الصحابة يتهافتون علي ثأر رسول الله شرب الدماء ولم يهرقها. وحين أخبر النبي بصنيعه قال له: ويلك من الناس وويل الناس منك. وحين كبر كان فارسا مغوارا لا يشق له غبار. دافع عن عثمان بن عفان في حصاره، ورفض مبايعة يزيد بن معاوية. ولما توعده لاذ بالبيت الحرام. ورغم ذلك أرسل له يزيد جيشا وحاصره وما رفع الحصار إلا بموت يزيد. بعدها أعلن نفسه الخليفة وبايعته عدة ولايات عدا بلاد الشام. وبعد كر وفر قاتل الأمويين ومات شر موتة. هؤلاء العبابدة يسكنون الجبال والوديان، وأجسادهم السمراء النحيلة تساعدهم على ندرة الماء. يسكنون المدينة خلف منطقة الأسواق، وأمامهم مبني الاستخبارات العسكرية حيث العقيد محمد الذي يعرفونه أكثر من مأمور القسم. بيوتهم بسيطة الأثاث، وعاداتهم تهلك من لا يعرفها. أغلبهم يعشقون البرية ويعيشون بها، حتى إذا كان لهم بيت بالمدينة. تراهم في الصباح الباكر عند محطتي الماء العذب في السيارات. يملأون براميلهم سعة الثلاثين و الخمسين والمائة لترا، ثم يأكلون الطرق المعبدة أكلا مخلفين خلفهم سحابات الغبار. ثيابهم البيضاء دوما مغبرة، ورؤوسهم في الأغلب معصوبة ب"شيلان" كالحة. نظافتها لا تدوم رغم أنهم يغسلون الأبيض منها بالزهرة الزرقاء. وشبابهم الذي لم يعتد الجلباب، ذو شعر أكرت خشن يذهنه بالزيوت والمثبت. ترى هؤلاء علي المقاهي ليلا وعل الشاطئ وفي القرى السياحية. ومن كان له صاحبة من الأجانب، ينتظر خروج الأب في الصباح الباكر ويذهب بها للبيت. سمرتهم من النوع المحبب للنفس حيث أنهم مسالمون، ولا تنفر منهم إلا وهم يغضبون. إلا أنهم في شرهم يداهنون كالأبالسة. إذا جلسوا في حق ولم ينجزوه قامت القيامة. تدور المؤامرات كالرحي ولا يهم الوقت. فالأيام خوال والجبل واسع. والحق الذي يعود بعد سنة لم يتأخر. المهم أن لا يرى أحدهم الخصم وهم يقنصوه. وأيا كان الأمر فالمدينة صغيرة عليهم. يعيش بها القليل منهم والباقي في السهوب البعيدة وثنايا الجبال. ربما لا تعنيهم المدينة كمكان للعيش وإنما لصفتها الإدارية. السكن والصحة والتعليم والتموين، ومياه البحر المحلاة أربع ساعات كل ثلاثة أيام. إنهم لا يشربون ولا يطبخون بتلك المياه. لأن كثيرا منهم أصيب بالكلية. فقط يستحمون ويغسلون بها الملابس . أما الشراب فمن المحطات الخاصة. السعر للجالونات الصغيرة جنيها واحدا للتر، يقل مع الجالونات الكبيرة والبراميل. هذه المياه تأتي من النيل. سيارات تشبه سيارات المحافظة تنقلها لصالح أصحاب المحطات. ولهؤلاء العبابدة أملاك لييست فعلية. يزعمون ملكيتهم للصحراء التي يعيشون عليها. ولديهم بعض الأعمال المخالفة للقانون كالاتجار بالمخدرات، والتنقيب عن الذهب، وتهريب السلع والبشر. إنهم بدائيون وبسطاء. يفكرون بأيديهم أكثر من رؤوسهم. ولديهم أغان موروثة تسليهم في أوقات العمل الشاق. لقد ارتحلوا من الحجاز منذ عصور سحيقة. ربما قبل الانزلاق الأرضي للبحر الأحمر. لما كان الطقس مناسبا يجود بالمروج في الوديان. قبل يسوع وموسى، وقبل وصول الإسلام. حيث كانت الغدران والبحيرات تملأ المكان. والحيوانات البرية تتكاثر وتنمو لا يمنعها قيظ ولا جفاف ولا قلة أمان. فالضباع والضواري على كثرتها لم تمنعهم التوسع والانتشار. ومع تغير الطقس في القرون الأخيرة باتوا كمن يحيا على خط النار. فالمحافظة رغم جهودها لن تستطيع توفير مياه الشرب. والقيظ والرطوبة العالية قتلت الزرع وبعض سلالات الحيوان. وعمليات التعدين التي تديرها المحافظة أغلبها خاصة. شركات من ناس القطر وخارجه يعملون في المناجم وخصوصا الذهب. في حوزتهم أحدث آليات أنتجها العلم بهذا العالم. وعمالتهم المدربة تخلو عادة من هؤلاء البدائين. أما أعمال الخدمة اليدوية الشاقة فتراهم فيها أشبه بالتنين. يخلون الحجر المتناثر من سكك ال( لودر) والحفار. ويرشون مياه الأنبوب المالح فوق الردم لكي لا يبقي أي غبار. وإذا انصرف المسؤولون بعد دوام العمل ظلوا بالمنجم لحراسته. هم ملح الأرض ولا تكفيهم تلك الفرص السانحة لديهم. مما جعل كثيرا من تلك الأشبال يقومون بأعمال الحفر بما لديهم. لا أجهزة تقيس التبرونسبته بالصخر. والشاب الخارج للمجهول يريد المهر. يتوجب أن يتزوج حتى يتجنب العهر. يعمل في بقع غامضة كي يحتال. لا تشغله محافظة أو نفر من قوات الجيش المنتشر بكل مكان. يزعم أن الأرض بكل دفائنها ملك له. وفي الوديان يدق علامات عند حدود الملك. اقتسموا الأرض بما فيها وعليها مع وجود الجيش. ولضيق العيش وأهوال الجدب،يظل الواحد منهم مدفوعا خلف الغي إلى السجن أو الموت. لكن السلطة لا تتعامل معهم إلا باللين. تجتمع مع مشايخهم من حين إلي حين. تحصي مازاد من الأطفال وتصرف لهم التموين. تعرف منهم من غاب عن القيد ولم يذهب للتجنيد. وإذا طلبوا منهم شخصا حملوه إليهم دون نفير. وهناك عداء بين السلطة وبعض الأعراب. خانوا مرة، وخسروا ما كانوا يحوزوه من الإحسان. خسروا المنصب والتوظيف وغلق الأبواب المفتوحة لسماء الجاه. أولئك الأعراب يغيبون إذا كانت حرب عن الصف الأول. والزرع النابت منهم لا يسلم من بطش السلطة مهما يتطور. يبقي في الأوراق الرسمية تاريخ العربان. معروف من صان تراب الأرض، ومعروف من خان.
ومع ذلك تجد بين عبابدة الوديان سلاطين وسادة. يعرف كل منهم صاحبه بحظوته وزيادة. بشر إن أسعدك الحظ وصلت إليهم. خبروا حياة التيه وأسرار الملكوت انتظمت بين يديهم. لو أدرك أحدثهم ما عند الأقدم منهم، قد ينكر ما كان عليه. هم أهل الدرك وخدام الأرواح السائحة بكل التيه. من جاء من الأرض العليا أو الدلتا أو خط البحر المتوسط. يتصلون مع بعضهم البعض دون لقاء. فالإسم إذا قيل بتلك الحضرات الجامعة انطلق ضياء. مثل شعاع الشمس تراه قلوب الفقراء. شذرات الصحو أو النوم مع كشف الإسم تلم الصورة. تجمع وجها من أركان الأفق ببعض جزيئات منثورة. والصمت إذا خيم في الرأس انتصبت رايته المنصورة. هي دائرة مثل الأخرى المخصوصة للشر. إن وصلت تلك الأرواح المتعبة إلى شخص تقشعه جميع الأرواح. وإذا الروحاني أذاها أو أحرقها يعرف هيئته كل الأجناس. فبعد مرور الأيام المائة الأولى صارت ( سيمون) التشيكية لا تذكر أبدا ما كانت تعرفه عن الدين. أو بالأحرى صارت تتملص مما كانت تعرفه عن الله. وجدت أن بهذا العاطل ما يمنحه الجاه. أعطاها الهاتف منذ تعامله معها في اليوم الأول. ومع كثرة عزلته وتأمله لازالت لم تفهم كيف يعيش، ولا كيف يجيئ إليه الناس؟. في معملها يتحدث معها في التشريح بميزان حساس. ويمد الجفت إلى ندب في جلد الكلب المخصي، يمكن أن تزرعها لفك الخصي. مثل القتل المتعمد للجاميطات الأنثى في ضرع البقرة حتي لا تلد الأنثى. أو ذهن الضرع بأصباغ الكمياء لقتل الجامطات الذكر. في أول أمره معها حكمت بتوحشه. شخص وجداني إيلافه أصعب من حيوان الغاب. كانت تجري معه حجاجا ذهنيا وهو بعيدا عنها. وتغافله بمجيئ في أوقات الذروة. حين تظن امرأة معه تنشط في الشقة. تتصنع أحجية ساعتها، لا تقنعه البتة. ثم افترضت أن سقاما مهلكة أردته إلى الوحشة. لا يحمل بشرا مما عانى من ظلم الإنسان. عمدت أن يصحبها إلى الشاطئ أكثر من مرة والناس زحام. كان يضيع مع طاقات الماء، ويغطس للأعماق ويرجع بالمرجان. يحكي عن خلق ما كانت يوما تتصوره، ويمرنها على إشراق الروح بنهج البرهان. علمها أن تصل إلى أفق السموات السبع الموجودة في رأس الإنسان. ويقارنها بما في الكون، ويشرح فكرته عن إشراق الأرواح بمقياس الإيمان. كلمها عن أجهزة يمكن أن تنفعه ولا تدري إن كانت موجودة، أو أن العلم مع سطوته لم يأخذها في الحسبان؟ وبعد الأيام المائة الأولى ظهر المدعو فارس. حين رآه تذكر صورتة الباهتة على قبر الحاكم. سحنته السمراء وجسده الأشبه بملاكم. حمل رسالة من الوتد الساكن في خور الجوزاء. عمل لا يتأجل في عمق الصحراء. والسائق خلف المقود في السيارة معه دليل جاهز. في تلك الأثناء المشحونة باستكمال الهالات تراءت سيمون. تركت سيارتها خلف السيارة المنتظرة حد الباب. واعتذرت إن كانت جاءت في وقت متأخر دون ميعاد. هي دوما تأتي أنا شاءت دون ميعاد. لكن لهيئة هذا الصامت في تلك اللحظة أنوار وبهاء. فارس كان هناك بعيدا ينتظر من الحاج علي الأمر. فهو المرهون لخدمته بتلك الوديان مع السحن السمر. ويرتب أوقاته حتي يحمل عنه أعباء الصحراء. ومع الإلحاح ونظرات الإصرار انطلقت معهم في عمل لا يعلمه القائم به. يفهم مغزاه بدرب من إجمال لا يقنع به.
الوادي المطلوب السفر إليه هو وادي العلاقي، أكبر أودية الصحراء الشرقية بعد وادي الحمامات. مساحته على وجه التقريب 350 كيلو مترا، ومنابعه تبدأ من أرض السودان. أما نهايته فتصل إلى النيل قريبا من جسم السد العالي. السائق سلك طريق البحر ومعه الحاج علي وفارس ودليل الوادي. والمرأة المسكونة باستكناه المجهول تمشي خلفه في سيارتها وحيدة. تسأل وتجيب على أسئلة يطرحها الذهن وكانت موؤودة. وجدت أن تخبره قليلا لتعاونه فيما يرجوه ولا تفهمه بأي سبيل. حين رأته أمام الباب شعرت أن الرجل حزين. لمحت سمت الأب الروحي الظاهر دوما للمسكين.. هاجت في سموات العقل لديها أشرعة كانت مضمومة. جاءت ريح من هذا الشرقي وعصفت بالأفكار المذمومة. تخلع نهجا كانت تسلكه لنصف القرن وترميه من الشباك إلي البحر. تنظر كشافات الأعمدة بلمعتها على سطح الماء الأسود. وتفتش عما دفع غريب الأطوار إلى السفر بهذا الوقت إلى وادي العلاقي. وبعد حوالي الساعة تركوا طريق الساحل واتجهوا يمينا. دخلوا عبر طريق قطعي لرواق الوادي وغاب الأسفلت. القمر العالق فوق الأفق المترامي يثير الشك. يبدو ويغيب من الريح الهائج والسحب المتفاوتة العتمة. هذا أوان التغير لتلك الأوراق المتساقطة من الأشجار. ثمة رقع مزروعة وفي آخرها مبان. بشر لم يقشعها الركب يعيشون بتلك الأكواخ بشرقي الوادي. يسقون الزرع من الماء الجوفي ولا يحتاجون إلى النيل. حفظت تلك الأرض الماء المنهمر من السيل. ينزل فيها من قمم جبال وهضاب عدة، ليصير حياة في قلب العدم وعونا للإنسان. هذا أوان خريف الوادي ومع الإيغال بقلب الصحراء لاح إلى السمع عشير ضباع. سيمون تعلم بعض الأصوات لتلك الحيوانات المتوحشة وتميزها. لا تخشاها وقد ردت تلك الأصوات المتعالية لسببين. إما طقس تزاوج أو خوفا من كشافات السيارات. تبغي تلك المخلوقات سؤال المار عليها عن وجهته شأن عبابدة تخوم الصحراء. تحيا دون عقال حقا، لكن الإلهام يسيرها في تلك الأدغال. وغريزتها تضبط حركتها في نسق واحد لا يمكن أن ينهار. تحيا في تلك الصحراء قبيل جفاف الأرض وقبل وصول الإنسان. من عصر بائد كان مطيرا، جرفت فيه مياهه تلك الوديان.ثم انحسر الوادي وزادت ثنيات صخوره. ظهرت قمم تتعالى كأشباح عماليق. وهناك نبيب التيس البري يحض على الضيق. تسمعه من تعمل على منع تكاثر كلاب الشارع بيلوجيا ؛ فتصعد فيها نوبات التنهيد. هذا الصوت يكاد يغيب عن الصحراء الشرقية. فالحيوان المختال يعيش علي قمم الجبل ولا ينزل للوادي إلا للشرب. مرة وحيدة باليوم قبل غياب الشمس. ترجو لو وقف الركب وركبت تلك الأشباح إليه. صار زمان لم تسمع هذا الصوت أنا سارت. ولما انفرج الوادي وغابت تلك السحب الداكنة شعر الحاج علي كأن رزاز المطر تطاير فوقه. ظهر لبرهة في خديه ثم انتظم على كفه. نظر لكفه مدهوشا وتفحصه وما كان أي رزاز. . ودليل الوادي خلف السائق لم يصمت أبدا. عيناه اللائجتان تدوران بكل الأنحاء. ويشير على أعشاب شبت في الدرب دون لحاء. ويوجه رفقته في هذا الليل هنا وهناك. أما فارس فقد انتبه من غفوته بعد سؤاله عن رائحة الإنسان. قال كمثل العشب المبلول بليل الجبل الحار. كان الحاج قد اشتم وظن بقرب بيوت في تلك الجهة أو ذاك. واستحضر رؤيته حتى يتدبرها وينظر ما سوف يراه. وكأن التأويل لتلك الأحداث المرهقة دليل جنون. شاف عجوزا نام وقوفا في الجو. قدماه الواهنتان لا تبتعد عن الأرض لأكثر من مترين. عن هذا الرجل العالق جاء المكتوب من الوتد الساكن بالخور. ينكمش دليل الوادي ويهمي إلى السائق حتي يدور. قال هناك إلى أقصي الشرق مباني النجع.شيخ عشيرته ينتظر هناك من قبل العصر. وظهور النجمات السبع بغرب الأفق الآن يدل على همسات الفجر. وقف الركب وسار الأفراد الخمسة خلف دليل الوادي. ولما اقتربوا من الباب المفتوح وجمع الناس رأوا الأحزان تنادي. في هذا الوقت أحس الحاج رزاز المطر علي ذات الكف. همس إلي سيمون ؛ فنظرت في الأفق وما وجدت أي دليل. ونواح امرأة صم الآذان وجلب الوهن بقلب الليل. فارس سلم على شيخ النجع وأعطاه القنديل. كان الوتد قد أنبأه أن يصحب معه الضوء لأن الأمر هناك عسير. فالظلمة في تلك البقع القاصية من الجبل ثقيلة. والناس مع قلتها لا تركن في تلك الأصقاع لأي وسيلة. وقف يقاوم عجبه من هذا القادم وبجعبته امرأة بيضاء طويلة. تمشي ولا تكترث بعدم وجود غطاء الرأس. والنسوة لما جاء دليل الركب وفارس خرجت من صحن الدار. تركوا مريضا يشتد عليه الألم كألسنة الفيضان. خمسة أيام يتناوبه الأولاد مع الأحفاد وما جاء الموت. يجلس مفتوح الفم ويتأوه في عرض دائم. خمسة أيام ينتظرون خروج الروح من الجسد الغائم. وإذا حط الحاج بيده اليمني علي رأس الرجل العالق وتبتل بضع دقائق. همس لفارس اشغله ولا تتركه يغيب. ردد بالقرب من الأذنين يا حق يا مجيب. وما كاد يتم قهوته حتي أخبره فارس أن ألرجل احتضر ومات. في هذا الوقت انتفض النجع ووصل صراخ النسوة أقبية السموات. دخلت في نواح لم يمتد طويلا، وسباب لعجائز سبقتهم للحاج علي، لولا الواقف بجوار الباب كبيدق من فولاذ. دفع المرأة الأولى كمن يصرع رجلا، ورجال النجع ابتعدوا عن الميت لهزيمة هذا المتراس. خرجت أصوات منهم مثل عشير ضباع، والتفت الحاج لخطوات الوسواس. ثمة لعنة تضرب هذا النجع وللميت دخل فيها. ويفكر فيما جناه بدنياه ليردي فيها. لم يسمع قبل اليوم بميت ظل يموت لخمسة أيام. وعجائز هذا النجع المقتحمات الحجرة دون كلام. ناول سيمون شالا من شيخ النجع وأشار علي رأسه فاحتجبت دون سؤال. خرج وطلب من شيخ النجع وفارس ودليل الدرب بدفع الناس جميعا للساحة. ثمة نازلة من سجن الغضب انطلقت بعد خروج الروح . والهمز أصاب عجائز هذا القوم ونفخ عروق الأعراب. ركض الحاج إلى عريشة بوص ونزع إحدى قوائمها. كان يصيح بآخر عزمه، وصدي صيحته جعل العريشة دون قوائم. باتت تلك جذوع الأشجار الأربعة بأيدي رجال. الحاج يصيح بصوت كالرعد ويضرب من ظهر عليه الشيطان. وانتفض شيخ النجع وألسنة النعلة تصل لنسوته وبناته. كان حكيما وأصاب الهدف سريعا في ضرباته. يضرب في الركب وفي السيقان بحرفة كي ينبجس الدم. واهتم دليل الدرب لحاله بجميع رجال النجع. أقعى من سب وشتم ومن نطق بكلمات الكفر. بعض طلاسم وعزائم تحتاج أحط الأنفس كي تفتح بابا للشيطان. والحاج يزمجر ويريد لكلمات الله سماعا في كل مكان.
ساقته الأقدار لحالة لم يعرفها البتة. حالة مس شيطاني جماعي. لقد كوم ثلة العجائز وجرح منهن واحدة. وخزها في ساعدها برأس عصاه، ولم يتركها حتى شافت دمها. وإذا انكسر شر النازلة مع ضوء الشمس، تنفس الرجل الصعداء. بعد الظهر توارى الحاج علي مع شيخ النجع بهدف النوم. أوقف سيل الأسئلة لسيمون المتقدة من أسرار القوم. كم يرجو لو أغمض جفنيه حتى يفهم ما ينقصه الآن هي أحوال تأتي وتزول. صور يبصرها ويفهم منها ما كان وما سوف يكون. ومع ذلك فقليلا ما يبصر ما فكر فيه بشكل مخصوص. هذا الوقت يجود عليه بأكثر من غيره حين يلوذ. يشبه قبل الفجر في دقته ونضارته ترد الخضرة في العود. والفصل الفائت من عمر الصحراء تعلم منه صدق الوجد وشرب من أنهار خلود. وإذا أغرق في النوم يرى شخصا يعرفه واسمه طارق يحي. جاء على هيئة شرطي وبيده القيد. نظر بعينيه وذهب يقول: اتبعني دون كلام، تدري أو لا تدري، الأقدار الأقدار. وإذا دار بخلدك أن تسألني فأنت الجاهل. أنت وصلت لباب الملكوت فماذا تريد؟. تبغي أن يبقى الغيب شهادة؟. لو كان الأمر كما ترضاه فما معنى التأويل؟. أتريد لعقلك أن يتوقف؟. امش ولا تلتفت ولا أسمع صوتك حتى تعود. امتثل الرجل بما أمر وخرج من النجع مع الطارق. عيناه الساكنتان الغائرتان تبصان أمامه. ويحاول أن تنزل خطوته بحذو دليله. لا يعرف أمدا سقفا لحكايته، يستنفر قوته ويشد وتينه. ينتظر الرمي إذا لاح السر وللمكنون شجونه. يبهت لما ينكت طارقه في الصخر ويظهر بعض عظام. رائحة الإنسان يميزها ومن الشذرات استغرق في الأسرار. وإذا استيقظ فهم بأن الميت قاتل. أزهق نفسا من نجعه ولم يعرف أحد أين أخفاه. وزعه في أنطقة خمسة وتغطرس حتى ينساه. استيقظ مشدوها ينطق يا ألطاف الله. ظل يكررها حتى دخل عليه فتاه. أوشك أن يسأله عن الخطب؛ فقرص لسانه. نزل بفكيه عليه؛ فصار كمن ركب حصانه. يخشي أن ينهره ويأمره أن يهتم بباله. والمرأة الضاجرة انتظرت حتى يروق الحال. كانت تعرف أن الرجل المفرود على مرتبة من قش الأعشاب بحال هيام . لمست أن النفس ببعض الأحيان تخش على النفس الكلية. مثل القطرة ترجع للنهر وتسبح بروية. حست أن الروح بحق يفيض. يمكن في ظرف مخصوص أن ينتقل إلى شخص واهن ويقويه. و تضبط حركتها بحنكتها حتى لا تبدو واهنة مما كان. ظنت أن ليس بقدرتها أن تنزع عنها ما احتجبت به، أو هذا الشال. يتوجب أن تنتظر غريب الأطوار ليفعلها إن ظفرت به. وتمني النفس برجعتها من هذا الوادي. تهمس دون كلام: لن أترك هذا المخلوق بما بقي بحياتي. وإذا تراءى لها وسمعت ما يزعجها، حنقت من هذا البادي. وجد أن يبقى بالنجع قليلا حتى يخطره وتد الخور أن يرتد إلى الدرك العادي. ودليل الركب سيخرج معها حتى طريق الساحل. يخفرها في الوحشة بتلك الشيبة والعود الناحل. فالبشر بتلك الأصقاع تحورت كالعليق أو الهالوك. وجدت أن تتسلق من عبر بأرض تملكها ولا تملكها، ولو حتى يموت. سلطتهم موجودة رغم وجود السلطة. والتهريب الناشط عبر حدود البلدان يجعل كل جبان في حكم المفقود. يمكن أن يلحقه رجال الاستخبارات أو الحرس برصاصة. يطلقها من هبط من الجو بليل من قناصة. ولذا فالقتل لديهم صار أليفا بالعادة. ودليل الركب كعود السنط وإن ظهر بسذاجة. يعرف كل مدقات الوادي بكثبانه وجباله. والبقع الخضراء المترامية يفوت إليها من طرق ليست معتادة. ينقلك من البحر إلى النهر بشكل لا ينقصه أمان. ولديه من الحدس ما يجعلك تحار. إن أخبر عن شيء سوف يكون بوقت مخصوص كان. حتى أن رجال الاستخبارات وقبل المروحيات العمودية كانوا يستعينون به. هو يعرف كل الوديان الموجودة بالصحراء الشرقية. ولكم عاش بتلك المثلث الحدودي المصري الليبي السوداني. بين كهوف إنسان ما قبل التاريخ. لما الدنيا كانت غير الدنيا، والأسطورة كانت كالدين. قبل ولادة ذياك التاريخ وقبل خرافة أحفاد القردة والخنزير. ولما اصطحب سيمون إلى مدينة الشلاتين وعاد، أطرق الرجال الثلاثة مليا للحاج علي وهو يعدد ما يلزم النجع.





J’aime
Commenter
Partager

قراءة لقصيدة " غربة الأوتاد " للشاعر والفنان السوري عادل المتني : ج1و2 // محمد هالي // المغرب

 

قراءة لقصيدة"غربة الأوتاد" للشاعر و الفنان السوري عادل المتني :
(المقطع الأول)

من خلال العنوان " أوتاد الغربة" يسمح لنا عادل المثني في البداية بأن نسبح معه في الغربة التي أرادها بأن تكون مرتبطة بالأوتاد، لا بالفندق، أو المنتزع السياحي، علما بأن الوتد يرتبط بالخيمة، كما يرتبط برباط البهيمة لكي تستقر في مكان ما حتى لا تزعج الراعي بتحركاتها المختلفة في الحقل ، بلغة العنوان تعني الاستقرار، و التوقف في مكان ما، إن الوتد يبين بالملموس أن الغريب في القصيدة هو الإنسان المقهور، يبحث في غربته عن العيش البسيط، و الاستقرار البسيط ، لكي يهرب من الوطن الذي فرض عليه الهروب منه، إن غربة الوتد، لم تكن غربة الاسمنت، و الشوارع الفسيحة، إنها غربة المخيم و غربة اللاجئ، و غربة الضياع، لهذا يكون الوتد هنا بدون النبش في سرد القصيدة المطولة هي: الفقر ، التشرد، الإقصاء... إنها أزقة الوتد المليئة بالروائح النتنة، المترتبة عن التبول الوتدي الصدئ، "الأوتاد و الغربة" معادلة للفقر المدقع، و التهميش الغير المعترف به، من طرف أولئك الذين دفعوا لصنع الوتد المنغرس في أضلع أطفال لم يعودوا يشعروا بانغراسه داخل أضلعهم و هم نيام، و نظرا لطول القصيدة و بوحها التلقائي لما تسرده من أحداث، و ووقائع يصعب الإلمام بها أثناء التحليل، سأحاول أن أسرد بتأويلاتي الخاصة اعتمادا على ما ذكره الشاعر المقتدر عادل المتني و ذلك بتتبع خطوات القصيدة مقطع بمقطع، لما يحمله كل مقطع من وصف دقيق لمعاناة الإنسان العربي منذ ظهور الصهيونية إلى حدود الحروب المصطنعة الحالية، يستهل المتني قصيدته المطولة بمدخل يلخص في البداية طبيعة الغربة:
"نسافر بعيدا
لنجني ما يكفي من ذل
لشراء تذكرة العودة"
الغريب مضطر للسفر، فهو مرغم عليه، رغم أنه مقتنع بأنه سيصطاد "الذل" و يجني من ثماره الهوان، فهو لا يتوخى جاها، و لا نعمة راقية، انه يتوخى فقط توفير تذكرة العودة من القهر الذي سيمارس عليه أثناء غربته الطويلة، فهذا بالنسبة إليه ربح للاستمرار في الحياة، الغربة هنا هي التشبث بالبقاء، و الاستمرار في الوجود، بهذا المدخل الرائع الذي يصف أسباب الغربة و دوافعها التي تبحث عن مطلب بسيط في آخر المطاف، و هو "شراء تذكرة العودة" بهذا يدخل بنا الشاعر إلى لب الموضوع، و يبدأ قي شرح مفهوم الغربة و تداعياتها المختلفة، لهذا فعندما نلج عالمها يفسرها كما يلي:
"في الغربة يغتالك اسمكَ
وجلدك
وأشباه المرايا
وجواز السفر"


(المقطع الثاني)

إن التنبه و الوعي بظلم الغربة، و التوجه إليها يعني أنك تقهر ذاتك، تتصارع في عالم متصارع من أجل البقاء، انك في عالم "حالة الطبيعة الهوبزية " الإنسان ذئب لأخيه الإنسان "، لم تتحرك من أجل الرفاه، بل تتحرك من أجل الغريزة، إن حالة الطبيعة هذه هي التي تفرض عليك الغربة، تفرض عليك أن تتوجه مكرها إليها، لأنك تعرف مسبقا أنها الذل وتتجه إليه، لم تعد لك هوية، فأنت تقاس ببشرتك، ولونك ، و حتى حاجاتك لم تعترف بك(اشباه المرايا) ،جواز السفر)، انك في التيه، تتنكر لما أنت فيه، تواجه الآخر بجواز سفرك الذي أصبح هو هويتك الحقيقية الجديدة ، بهذه الهوية فأنت مرغم بأن تجتاز الحواجز، و يصف المتني هذا بطريقة مفارقة:(تحسس الخصيتين/ المطارات الفارهة)
"بعد أن يتحسسوا خصيتيك الفارغة
في المطارات الفارهة
يأذنون لك بالمرور"
إن الهوية الجديدة (جواز السفر) لا تفارقك، تتماثل معك، لكنها لا تعفيك من التفتيش و التنقيب في بؤر التوتر المختلفة، ليقذف بك بعد السماح بالمرور:
"في غرفة من الصفيح
تشبه خم الدجاج في بيتنا القروي
أستقر طويلا"
ضمن هذا المقت التاريخي المستعصي عن الحل، وسط هذا الجو المفعم بالقحط في أمكنة الإهمال يعيش غريب الأوتاد في غرفة من الصفيح، لا تختلف عن إنسان الغاب، كما وصفها المتني تشبه (خم الدجاج )، و أن هذا الغريب يقتنع بظروفه الجديدة هذه، بأنه سيمكث طويلا، ليحدد في آخر المطاف طبيعة المكان الجديد الذي يقتحمه غريب الأوتاد،
"أعود لذاكرتي الرطبة
هذا الكهف المطلي بالكلس الأبيض
أنصب خيمة فيه
وداخل الخيمة خيمة
وخيمة
وخيمة
أغدو مخيم لاجئين"
ليس هناك من إجحاف في حق الغريب ، إنه يقصى في مكان مقذوف فيه، في سلة المهملات، يغادر مكان الألفة القديم ليعانق مكان الذل الجديد، لكن غريزة البقاء تلك تفرض عليك ذلك، تنقلك من عالم التعاقد، عالم الثقافة، إلى عالم الانحطاط، و الضعف، و الهوان، باختصار عالم النسيان، المتني يصف هذا التشييد الخيمي البئيس وصفا دقيقا :
"أنصب خيمة فيه
وداخل الخيمة خيمة
وخيمة
وخيمة
أغدو مخيم لاجئين".
يقتلك السؤال في "مخيم اللاجئين" يدفعك في متاهة الجواب ، يسبح بك في فوضى المخيمات المشتتة تنتظر في غربتها عون الغرباء، هناك من يتعاطف ، و هناك من يتفرج في هذا الذل الذي قصده الغريب بوعي و روية ، قرار الغربة لا مناص من أن يسبقه عنف الألفة، و صوت البارود المتدافع في الهواء، يصيب، يقسم البشر إلى أشلاء، وخوفا من الإعاقة، و خوفا من الموت و الحصار، يضطر الغريب أن يتجه إلى مصب الذل ، ذل البقاء أفضل من ذل الموت، عقدة البقاء للأقوى تفرض عليك أن تنفلت من حرب"الكل ضد الكل" الهوبزية، في هذا الواقع الجديد المليء بالمتناقضات تدفعك المخيلة إلى السؤال:
"وماذا بعد ؟"
الجواب :
"ظلٌ في مهب الريح" إنها روح المخيم ، بين شقاء الطبيعة، و شقاء البشر، تسير الحياة لتبحث عن الاستقامة، و عن الهدوء، و رغم كل هذا :
"لا تقبل الغربة القسمة على اثنين
الوحدة ثم الوحدة فالوحدة من جديد"
محمد هالي
يتبع)




رجل الورد // نصيف علي وهيب // العراق


شبيه الورد أنتَ، تتفتحُ أفكارك شفافةً بالسلام، تحطُ على رحيقِ أحلامك، كل الكلمات، تكتبُها شفاءً للعيون، سفينتُكَ ورقةٌ، دوَّنتَ عليها بصاريةَ الرؤى رحلاتكَ للجزرِ المنسية، تعودُ كسنونو من رحلة عشق، تنشئ في بيت الشعر داراً، في باحتهِ بئرٌ لدموعك، لن تبكيه الآن، ولا غداً، يتعافى من عطر أمثالك




الأسئلة التائهة // علاء الدليمي // العراق


الأسئلة التائهة 

تراود المارة 

تفتش عن أجاباتٍ

في جيوب الشعر

لا دقيق يسد رمق المعدة

خاوية أصابتها علة مزمنة

نصوصي البريئة

فأجرة الطبع أشبه بنجمة الظهر

!عصية على المتسولين في وزارات الوطن

يا بني

أكتب النبض إلا قليلاً من الوجع

ضعه في توابيت الموتى

كـحنوطٍ من نشوة الألم

تعزفه مطربة الحي

نعم أوجاعي لا تطرب أحداً

حتى محبرتي

تسخر مني

كلما قرأت نصاً

في محطة العمر

المتوقفة عند أرصفة الماضي

تبسمتْ لغتي العربية

لتهمس في أذني أعدك

بعد غدٍ يوم مماتك

ستتوشح الزبيدية بالحداد

صورك تزين شوارع المحافظة

لكن لا شارع يحمل اسمك

.فالشعراء أنجم في السماء




jeudi 29 avril 2021

دع القلق ..// حنان وليد // العراق

 

في كنف الحيف، أنصت لعزف الحتوف ، مزاميرٌ تلفُّ أرواحاً من بللِ الضحيجِ ، تعلن عن وطئك أعشاشنا الخارجةِ عن النبضِ ، مهلهلةً بالالتفاف حول نعشٍ لا يميل ،فَلِمَ ياترى أوغل الجرحُ بالطيش حتى بانتْ مرارةَ نحلتِهِ ،سمعنا بصمتٍ كارثةَ الرصاصِ يمزّقُ هيبةَ صمتِ الحفّارِ، كأنّما لغةُ أبابيلَ ترسمنا دون عيونٍ بألوانٍ مغبرةِ الألسنِ تعتّمُ ألفَ نافذةٍ لتعاريجِ الهراء، تبّعدُ الدربَ المسعولَ بفرشاةٍ كمنجلٍ مريب، على الجانب الآخر، يتراقصُ النردُ على حافةِ الزفرةِ بمللٍ تقبضُ القلبَ سعفاتُ نخلِ دارهِ بوجهِ ريحِ أمِّك الناحبةِ على أوراق زهرِكَ المتساقطِ ، بينما أنا عاريةُ اليدين أصنعُ ممّا تبقى من معملِ الشمعِ مخبئاً للعبِ كأنّه يطعمُ العشراتِ، والان لم يعد يطعمنا يا أبي ، يلامس الرقعةَ شهيدُها حين غرسَ النوى ، ورحل صوبَ المدافعِ ، فأمطرتْ رطباً دون أن يذوقَ ، الآن دقّت الأزمةُ الخادعةُ قد حانَ صلبَ السندبادِ لأسفاره العجافِ، وليلتحقَ في موكبِ عليين عند الرؤى المداعبةِ قهقاتُ عشتارٍ بذبائحَ عدّت من جلودِ مصائرنا كقلائدَ أخيطت بها عقائدُ الماءِ ببقعٍ حمراءَ ميراثِ ذمةِ أرواحٍ تلاقحت برعشةٍ ، وضوءٌ يراوغ نهايةَ الأماني ،هرباً من رمادٍ يأكلُ كلَّ وارداتِ خلخالِ جمجمتي، حينها علمتُ أنّنا نتنفسُ برئةِ شهدائنا نعومُ بملابسنا دونَ الغرقِ بظلالِ أذرعتِهم كتغويذةٍ مع ملحٍ يرشُّ على طول أيّامنا الرمليةِ.




فلتعرني يا مدى عينك ..// رحيمة بلقاس // المغرب


 فلتعرني يا مدى عينك أرى بها ما وراء البحر، أفصل لملامحي ربيعا يزهر بهذا القلب، أبني به مسرحا رواده حروف فرح وعلى خشبته كلمات بهجة تلعب دور الأعراس ..وتزف إلي ما سقط مني ذات سهو في مدن الظلام.. هل لي أن أسأل عينك عن طريق يؤدي إلى الله؟ أعرف أنه عين لا تنام وأنه يراني لكنني لا أراه.. هل لي بعين تراه كما أشتهي لا كما تعلنه ذات الأخبار.. أكفر بودع العرافات وبرمل الساعات.. كأني بها تشير إلى جهة غامضة، تركض خلف ثلة التوهان، لا شيء يومض بنوايا هذا الاحتراق.. لا نظرة يرسلها هذا الوهم الأبدي الموغل في الخفقان.. عافت يدي النبش في قبور الخيبات القاتلة.. أما آن الأوان أن تكف على هز غصون الأوشاز..؟






على رصيف الليل ..// عبد الرحيم المعيتيق // المغرب


على رصيف الليل
أحمل جسدي المثقل
المحمل بالأوهام.
أخطو خطاي المفتولة
الملتوية
المفعمة بالأحلام.
وضوء القمر الخافت
يرسم لي الطريق.
أحاول عبور مقاسه القصير.
أسير...
وأسير.
فتداعبني أشباح الظلام.
يقشعر بدني
في لحظة من الزمن
يهتز
وكأنه يزركش زخرفة
على قطعة ثوب
من حرير.
أتوقف لبرهة
أحاور نفسي
في غياب الكلام
ثم أكمل خطاي
وأتابع المسير.
أتجاهل الأشباح
فأنسى ظلمتي
أستحضر ظلمة الضرير.
أعاود النظر في أحلامي
في أوهامي
بل في تفاهاتي اللا منطقية
فيعجز لساني عن التعبير.
أفكر في ذاتي
في جسدي الضعيف الهزيل.
أرفع هامتي نحو القمر
أبصره
فيبتسم لي
تنعكس ابتسامته على وجهي
أحمد خالقي
أتابع طريقي
وأكمل المسير.





mercredi 28 avril 2021

نحو عيد سعيد // زيد الطهراوي // الأردن


 أموت و أحيا

و أبكي فضاءً يموت عنيدا
ليُبعِد عنا الفتن
و يبكي معي الشعر
أوقظ كل القدامى
و أوقظ أيضاً أبي
لعلي أقبل كفيه : عيداً سعيدا
مزيداً من القهوة العربية يا والدي
و كعكٍ و حلوى و منضدةٍ و ظلالِ الفنن
فالقدامى يحبونني من زمن
منذ أن رشفت سنواتي المحن
و كنت أحب الندى و الشجن
و أطلب قرباً من الشمس
و للسجناء نصيب من الشمس
و أبحث عني
و يبحث عني القدامى
لنشهد عيدا سعيدا
أموت و أحيا
و أفرح بالشعر لي وطناً
و افتح باب السجون
قبيل مرور رياح الزمن
و أطلق كل الأماني
و أغلق باب الفتن.




أعيريني انتباهك ..// روضة بوسليمي // تونس


... طينتك دافئة لينة
حتّى كأنّكِ مطر
أغتسل بك من رجس الحياة
وجهكِ مشرق كقصيدة
و صاف كغدير
حتّى أنّكِ قريبه كغيمة
أقول ذلك لأنّي عاشق ولهان
ولأنّني خبير في صنوف القصائد
و من آيات خبراتي
أنّي أرى كلّ حاجب
كمهنّد ...كحسام
تزهر في عينيك
الكلمات الصّامتات
تأخذني إلى هضاب مبتسمات
إلى وهاد معشّبات
حيث ورد نيسان الأحمر... /
هناك...!!!
أراك تريحين قدميك على حافة النّهر
فيبوس الماء الوسيم
باطني قدميك
و النّسائم الخضراء
تبعثر شعرك
حتّى أنّي أرى الغزل
يترنّح نشوانا
فيتدلّى الشّعر عناقيد
تقطر سكّرا
فتتقافز الكلمات
كأسماك تفرّ من الموت
و يتمرّد الشّوق عنيدا
حتى أنّك مشدوهة بلا حراك
وقوس حاجبيك
يسدّد نبال شغب صارخ
فتتراجع جحافل الخجل
على عجل
أراك تمدّين يديك على استحياء
تلتهمين قشطة غيماتي بنهم
و أراني لا أعترض بالفطرة
فأتمتم بهرطقاتي على رأسك العليلة
أدعو لك بالشّفاء /
وأرجو لو أهديك
عقدا من نوتات الموسيقى
و أساور من درّ الكلمات
وقوافل من ضحكات فجر صاخبات.




lundi 26 avril 2021

لم يحدث الفراغ بعد ..// نور الدين برحمة // المغرب

 

لم يحدث الفراغ
بعد
حتى أنثر قصائدي
على عتبات المدن
هنا كنت
ولازلت
أرى الحزن يمشي
وفي كفه الفرح
دمعة
ابتسامة
ظلام
ضياء
تغير وجهي ...
ولون الجدران ...
ربما
اخضر شعر الرأس
أطوف والفراشات بألوان الأرض والسماء
هذا الامتداد بلا معنى
حين الامتلاء،
الشعر فرحة القلب حين تزهر الحقول
متى تزهر يا بائع الورد ...
فهذه المدن تعج بالنسيان
وأنا المجنون النازح من مخيمات الصمت
أنتظر أن تعود عاشقة الرحيل
لتمنحني حفنة من تراب
لعل السماء تمطر فتزهر الحقول أغنيات ...
يا عاشقة الرحيل ...
الطريق إلى قلبك مساحة حلم
انثري حرفي ليكون الامتلاء
لم يحدث الفراغ
بعد
سأنثر حرفي ليكون عشقي أغنيات
فأنت يا عاشقة الرحيل
أغنية الفراغ ...
وأنا ....هنا ....هناك ....
أوزع الورد ولا أنام ...



 

dimanche 25 avril 2021

لذاتك مولاي عاشقة // لطيفة الأعكَل // المغرب

 

يا ليلْ
كَيْف الهُجوعْ
قد طال السُّهادْ !؟
عزّ الانْـتِظارْ
وهاج الحنينْ
فاضتِ العينُ بالأدمُع ،
والشّوقُ هزّني إليكْ ...
موْلاي
يا موْلاي
أمتُك مُتيّمةٌ في هواكْ
تسْعى لقطرةٍ منْ فيْضِ رضاكْ..
و حين لاح نوُر الفجرْ
ركِبْتُ ظهْر الغيمْ،
طويتُ المسافاتْ ،
وهرعْـتُ لأعْـتابِكْ
أقرعُ المأْمُول بابكْ
حافية القدمينْ
تُثْقِلُني الأوْزارْ
راكعةً أرْنو لِغيْث سمائكْ
أبْتهلُ طامعةً في عفْوكْ
لِساني ما يفْتأُ يلْهجُ باسمكْ
لا أحد أرْتجي سِواكْ
لاأحد يمسحُ دمْعتي غيركْ
لا أحد يقْبلُ توْبتي إلاّكْ ..





samedi 24 avril 2021

ترقب وصول ( رواية ) : الفصل الأول //أحمد البحيري // مصر

 

لا يمكن للوحدة أن تنفي الكثرة. فالأفق جميعه كل لا يتجزأ. وثنائيات الكون تدور وتتقابل في ذاك الأفق الواحد. أما التثليث فتهجين مذموم. يدفع بالإنسان إلى ترك الأقنوم. يخرجه من تحت سماء الله ولا سماء.وهناك يحار العقل مع جيش الأفكار. من قال بأن الواحد حل أو اتحد بروحه أتلفه الشيطان. هيهات لإنسان نعرف قدره أن يتحد برب الأكوان اللامحدود. أو يصل إليه بحسن صنيعه أو يعرفه علي القدر المطلوب. وبدون استعداد تقذفه العربة في قلب الصحراء . لا يعرف ما جاء به علي وجه الدقة. إنه ليس جديدا علي هذا الموضع. إلا أن قدومه السابق كان زيارة معلومة الوقت. حتى معلومية الوقت هذه لم يكن له دخل فيها. وبعد النوال يقفل عائدا إلى أهله. لقد عاش تلك اللحظة في فكره من قبل. أن يكون في أتوبيس كبير بين بشر لا يعرفهم ويتركوه. يذهب معهم وفي العودة لا يجدوه. أيا كان الأمر فقد حضر. لم ينتظر موعد الرحلة السنوي. كانت رؤاه تستعجل الوقت لتجربة تقض مضجعه. لقد فكر فيها مليا ويخاف الفشل. زيارآته المتعددة كانت تدريبا لقوته على التحمل. إنه الموت الأخضر في أبهى صوره. وهو العشاق الملال المحب للحياة. في المرة الأولى عاد بعد أربعة أيام. كان في بداية الصيف وشعر أن جلده عليه يضيق. وفي المرة الماضية أتم الأربعين. الريح التي هبت وهو يتفقد أشياءه غطت شريط الأسفلت ومنعت عنه رؤية ( الكافيتريا) الجبلية الوحيدة بهذا الدرك الموحش. وضع حقيبته الصغيرة في كتفه وقطع الطريق. الساعة كانت تقترب من منتصف الليل. والحجارة البيضاء في جدر ( الكافتيريا) كانت تشع بضوء خافت رغم الأفق الكابي الذي يحجب السماء. دخل بين مكعبات المياه البلاستيكية وهو ينادي. أخذ يتصرف كأن أحدا هناك. صحيح أنه لم يلمح إشارة ضوء ولم يسمع صوت، لكنه يشعر بوجود إنسان. ثمة رائحة يتبعها رغم الريح والغبار. لقد صار يعرف بعضا من عادات هؤلاء البشر. وينادي حتى دفع الباب الموارب ودخل. كان ثلاثة نفر ينامون علي دكك خشبية مستطيلة. وأغطيتهم ملفوفة حول أجسادهم بعناية حتي وجوههم. لقد أشفق عليهم من غطيطهم ولم يوقظ أحدا. أكل سندويتش كان معه، وأعد لنفسه القهوة والشيشة. ولما انتهى تمدد على دكة خالية إلى جوارهم ونام.
في الصباح طلع قرص الشمس ملتهبا يقدح في الأشياء قدحا. والرؤية التي اتسعت، كشفت عن مبنى للإسعاف على الطريق، به موظف واحد وسيارتين، وبضع علامات مرورية على رأس الطريق المؤدي للوادي، ودورة مياه مهملة لعدم وجود مياه، ومقام لشيخ دون ميضأة وصلت لبابه الرمال. وقبل أن ترتفع الشمس قدر رمحين استيقظ المسؤول عن ( الكافيتيريا) وأيقظه. شال الفوطة التي فرشها على الوسادة المتسخة عن عييه ونهض بجذعه. وحتي يوقف الدهشة والعجب، أخرج رقمه القومي من طيات ملابسه وناوله للرجل. علي عبد العزيز، مدير بوزارة استصلاح الأراضي على المعاش، عمره 56 عاما، وحالته الاجتماعية متزوج ومعه ولدين.. وحين طالع الرجل كل بياناته سأله متعجبا: وما الذي جاء بك إلى هنا؟. قال جئت لأعيش. مسح الرجل الطويل النحيل وجهه الأسمر بالشال الذي اعتمد به رأسه وهو يقول: هنا!, الناس تهرب من هنا للدلتا، وجئت من الدلتا لتعيش هنا؟. هنا أين؟. خرج أمامه إلى شريط الأسفلت وأشار على الجبال الجرداء المرطقة والفضاء القاحل ثم قال: أما يكفيك كل هذا. عاد الرجل يصيح في رفيقيه لدفع النعاس والنهوض. وأخذ ينقل المياه من تنك إلى آخر بموتور صغير ، ويشعل الفحم في الرمالة والحاج علي يعاونه يدا بيد. ولما جلسا يتناوبان ياي الشيشة، ويحتسيان القهوة وسأله عن وجهته قال العم علي: الوادي. أزور الشيخ أولا ويضيفني ثلاثا، ثم يفعل الله ما يشاء. بعد ربع ساعة وقفت سيارة نقل مياه تسع عشرين طنا أمام ( الكافيتريا) محدثة أزيزا منفرا. نزل سائقها يصيح بأسماء العمال ويفتش عن شيشة بعينها وبكفه لفافة المعسل في عبوتها البيضاء. كان سائق السيارة التي تغذي قرية الشيخ بالوادى. لها خط سير من المحافظة بعمل نقلتين كل يوم. من مبنى المكثف الذي يعمل علي تحلية مياة البحر بالمدينة، إلى خزانات القرية التي تبلغ ألف نسمة ومثلهم من الزوار. تقطع في كل نقلة ثلاثمائة كيلو متر مربعا جيئة وذهابا. وبعدما تناول السائق فطوره وعاد لسيارته حمله معه للوادي.
المسافة لقرية الشيخ من رأس الطريق تبلغ 110 كيلو مترا مربعا، تقطعها السيارة وهي محملة بالمياه في ساعة ونصف الساعة. وشريط الطريق الضيق يشبه الثعبان من كثرة ثنياته بين تعرجات الأرض التي لا تنتهي. التصوير الجوي يظهره يشق الصحراء الشرقية نصفين إلي سلسلة جبال البرانيس، حيث قرية الشيخ وبؤرة الوجود الأصلية بقلب هذا العدم. وقرص الشمس الملتهب بات في زجاج السيارة مباشرة. والسائق الذي يرتدي بنطلون المحافظة وسترة قطنية بلا أكمام، يخرج كفه اليسري من الشباك المفتوح إلى جواره، يفركها وهو يقول: الرطوبة العالية تجعل العرق كالطين. تشعر به يلتصق بجسدك، فتشمئز وتختنق. الحاج علي كان يسابق الطريق بعينيه ويهز رأسه للسائق. يقارن سطح الأرض مع ما كانت عليه قبل أقل من سنة. هنا ثمة لافتة لمسجد ولا مسجد. وإلى جواره بضع حجرات بيضاء مبنية علي حافة الطريق. خلفها ظليلة خشبية مستطيلة، تحتها سيارتان (تيوتا دابل كابين). ولا علامة تدل على بشر. أغلب الظن جماعة قبلية تخفر المكان بالليل، وأرادت أن تعلن عن وجودها. لم يترك السائق الحاج علي يذهب بعيدا إلا بشق الجهد. فقط انتهى من عرض ما يعرف عن الأرصاد الجوية، وصار يستنطقه بتلك الأسئلة التي يطرحها الغرباء. من أنت ومن أين و........؟. والردود البسيطة المختصرة كانت تكفيه. أو ربما كانت تلك الردود أصلا لا تعنيه والنباتات الشوكية التي تجاسرت على العدم، تكثر وتتوغل تارة، وأخرى تضمحل وتختفي. وثمة عشش من صفيح تسع شخصين جلوسا وتقيهما الحر. وأناس قبليون تلمع سمرتهم، لا يخرجون إلى الطريق إلا لطلب الماء أو السجائر. يمشون حفاة رغم القيظ بتلك الأرض الحجرية القاسية. وقلما تسمعهم وهم يتكلمون. في أيديهم جالونات مياه سعة لترين، ويضربون بوسطى وسبابة يمناهم مضمومتين على شفاههم. سحنتهم الطيبة تجعل السائق يملأ لهم الماء. يعيش هؤلاء الرحل بين الكهوف وتلك المسارب الضيقة بين ثنايا الجبال. يعرفونها كما يعرفون أبناءهم. لا سلاسل البرانيس وحدها ، بل ساحل البحر حتى السودان. وأينما رأيتهم وجدت الحياة. قطعان من الحيوانات الاليفه تتبعهم. ماشية وإبل وغزلان وأبقار هزيلة تألف الأعشاب والنباتات الشوكية في البقع المخضرة. تستحلب الحيوانات الأوراق الإبرية الخشنة نهارا، ومن البخار المتكاثف في أوقات الليل المتأخر تستحلب الأعشاب والحشائش، وربما عثرت على عيون للماء؛ فتقلبت عليها بظهرها إذا اشتد القيظ. منتهى القدرة علي التكيف. يلتوي الطريق بعنف فينتبه الحاج علي. لم يكف السائق عن الكلام كأنما ليدفع عن جفونه النوم. لكن الرجل المتبرم من القيظ واللهب ما عاد يسمعه. أزيز المركبة الضخمة ساعده على ذلك. وتلك النظرة العفوية المنجية. فحين لا يعجبه الحديث ولا يستطيع الفكاك، ينظر لمحدثه بعفوية وبراءة. يغمض عينه اليسرى التي يتكئ عليها قليلا فتقترب من الحول. والجدية التي تكسو ملامحه لا توحي لمحدثه أبدا أنه في عالم آخر. الطريق يهبط قليلا وفي البعيد يلوح رأس جبل صغير. قبل نحو عقدين رأى على هذا الرأس رميم جمل. بقايا عظام الوجه تدور في رأسه ولا تهدأ. جمل يافع أناخ على هذه القمة، ومات وهو ينظر للطريق. ثم يبدو دغل من الأشجار اليافعة زاهية الخضرة. يزداد ظنه بوجود عيون للماء بتلك الأدغال. أو على الأقل اقتراب الماء الجوفي من سطح الأرض. خفف السائق من السرعة وحادي يمين الطريق ثم توقف في الظل. نزل يبول على كاوتش السيارة الخلفي. الحاج علي انشغل بالمرج الأخضر. أوراقه أكثر خضرة رغم أن حافتها حرشفية ربما تجرح الأصابع. واستطاع رؤية بعض جديان تعبر في البعيد. ورغم سقم عينه وإصابتها بالجفاف، ورغم أن نظارته الطبية كانت في جيبه، رأى أفعى خضراء كبيرة تتلوى قريبا من ذؤابة شجرة. عاد السائق وانتبه لتركيزه الزائد. لقد أخذ سمة هر يتهيأ لاصطياد فراشة. ولما سمع خطبه، قال وهو يضحك: هنا كل شيء، هنا كل شيء. وظل يرددها حتى لاحت بدايات القرية. عند التقاطع الموجود ببداية الوادي، توقفت السيارة ونزل الحاج علي. وضع الحقيبة الصغيرة في كتفه ونظر للشمس كمن يعاتبها. إنه لا يعرف الآن كيف يتقيها. والعرق الذي تدحرج من رأسه الأصلع وعلق بحواجبه الكثة، يواصل السعي إلى عينيه. ينثره بسبابة يمناه ويركل الأرض بحذائه مثل طفل. الرصيف عريض، وأعمدة الإنارة التي تزينة تذكره بخيال المآتة في القرية. لقد اعتادته العصافير والطيور ونسجت عليه أعشاشها. ينظر للمباني المتناثرة ذات القباء. كلها من طابق واحد وعلى مساحات متساوية. توحي هيئتها أنها ملك للمحافظة. وأناس تبدو لناظره هنا وهناك سمر الوجوه ونحيفة. ثم يمر على واحدة من الاستراحات المملوكة لأحباب الشيخ. ساهموا واشتروا الأرض من المحافظة وبنوا عليها مبان متعددة الطوابق، و على كل واحدة منها كتبوا اسم شيخها وأتباعه. لقد نما طريق الشيخ وتعدد وازدهر بكل الكوكب. مرت نحو تسعة قرون على وفاته بهذا الوادي المجدب وقد أثمرت معارفه. كان في طريقه للحج بين أحبابه وقت وفاته. و كان الوادي المحفوف بسلاسل الجبال والضباع، المحطة قبل الأخيرة من محطات التجمع علي طريق الحج القديم. بعده وعلى ساحل البحر ميناء عيذاب والمراكب التي تقلهم للضفة الأخري. لازال للميناء بعض أطلال قائمة. لقد وفد الشيخ بأتباعه من الأسكندرية. وطلب من خليفته أن يصطحبوا فأسا معهم ضمن المتاع. ولما سأله ولم؟, كان رده: في حميثره سوف ترى، وكان ما كان. فاليوم بلغ طريق من قال: أوتيت سجل مد البصر، فيه أصحابي وأصحاب أصحابي إلي يوم القيامة، بضع وثلاثين فرقة، توزعت بعلمه في كل موضع. وصار حميثره بما آل إليه واديا مخصوصا بالسياحة الدينية. انتقل به عارفون معاصرون ذكرا وأنثى وجلبوا له العمار. ورابطت به العباد والزهاد وأبناء السبيل. يستطيع قاصده الأكل والنوم والقهوة والدخان مجانا مهما أقام. خدمة مفتوحة يبذلها أهل الخير. فقط عليه تحمل الوحشة والغياب. ولما وقعت عينا الحاج علي على قباب مسجد الشيخ شعر في بدنه بقشعريرة. ما عاد الحر وحده ليزعجه وإنما أسراب النمل تسري في بدنه. يمشي كأنه يلامس الأرض بالكاد. وأكثر ما يزعجه في المكان ما هل في سمعه بعد. الوزغ وما أدراك ما الوزغ. تلك الحشرات الضارة الموصى بقتلها، تتواجد في الصحراء الشرقية بشكل ملحوظ. ليس مهما أن تراها لتمتعض. وأصواتها المنكرة تزعج الميتين. يطرد من رأسه الأفكار السوداء وما يثير القلق. يتشبث بالصفاء ويمحو أسباب الكدر. شفتاه لا تتوقفان عن الحركة، ويلهج. ثمة نشيج داخلي يندفع من أنفه. يكح ويتنخم ويفرك أنفه ليثير العطاس. يتوقف بعد دوار خفيف، ويلتقط شهيقا بعزم الجهد. كأن الأكسجين الموجود بالوادي كله لا يكفيه. ثم يلتقط أنفه من الروائح. فوح عود ما اشتمه من قبل أبدا. راح يلاحقه كالمأخوذ. ينظر لآخر الأفق والسماء تنطبق علي الجبال ويتنفس الصعداء. وثمة مديح لنبي آخر الزمان يتسلل إلى سمعه. ضعيفا واهنا يأتي من بعيد البعيد. كأنما يعبر البحر والجبال قبل أن يصل الوادي. نغم دافئ وكورس وجوقة عذارى. مسالك إنشاد لا يعلم بوجودها تثير نشوته، وتحمله على بساط الشوق إلى سيده. وبعد تمام الزيارة والوقوف بالقبر الذي لا يقف به شقي ، يخرج على الاستراحة التي ينزل بها كلما جاء إلى هنا. أمضى الحاج علي ليلتين دون نوم عميق.عامل استراحة الحاجة زكية الذي يعرفه،أنزله بحجرة بالطابق الثاني وحده، وحر يوليو منعه النوم إلا لماما. مروحة السقف التي لا تتوقف، تمده بالهواء الساخن. وإذا أوقفها ليرتاح من أزيزها، استفزه زن الباعوض. يخرج إلى الطرقة ليستحم. لكن سخونة ماء الخزانات تزيد جسده عرقا على عرق. ليلتان والنوم يتملك جفونه ولا يستقر. وكلما نام استيقظ لأهون الأسباب. وفي الليلة الثالثة رأى لوحةمن سحاب رمادي كأنما هناك في السماء. مكتوب عليها أربعة أسماء مفردة تحت بعضها. الله، الشاذلي، الحاجة زكية، فارس. استيقظ الحاج علي مع آذان الفجر مسرورا وسعيدا.إنه يومه الثالث بالوادي ولا يدري وجهته. وكلما عاودته اللوحة قدح زناد فكره في الإسم الأخير. من هذا الفارس وأين يكون؟. ثلاثة أيام لا يسأل أحد عن اسمه. يأكل ويشرب ويتعبد في رحاب سيده بين بشر لا يعرف غير وجوههم. زوار كثر يسهرون بأروقة المسجد الخارجية حتي ينتصف الليل. ثمة رحلات أتت ومنشدهم معهم. ونسوة وصبايا يتجمعن في زوايا علي مقربة من الذكر ويذكرون. وأصوات الزغاريد لا تنقطع. لقد رأي كل هؤلاء فأين يرى فارس؟. آذان الظهر قطع عليه تفكيره. خرج من الاستراحة مسرعا وبها مقام ومسجد الحاجة زكية ليصلي بمسجد سيده. وبعد الصلاة قادته قدماه للقبر الذي لا يقف به شقي. وبينما يمشي ساهما متبتلا يصطدم بالسائق. في تلك اللمحة سمع أزيز سيارة المياه ينبعث من القبر. ورأى صورة لم تعلق بذهنه جيدا لشخص في الأربعين. وقف منشرح الصدر في حال هيام. لقد بدت الأوراق تتكشف. سيده حاكم الإقليم. هذا عمله في الحياة البرزخية. يحكم كل الصحراء الشرقية إلى حلفا وحدود السودان. ومعه حكومته الباطنية. هذه التي إذا غضبت على أحد ، غضبت عليه حكومة الدنيا. خطوة للخلف لاستقراء القدر. ويدعو الحاج علي أن يرزقه الله صحبة ملائكته، ويسلم على سيده وينصرف. لقد خرج من المسجد والسائق خلفه. عرض عليه النزول معه للمدينة مع نوبته بعد ساعة فوافق ولم يتردد. إنه لا يعرف أحدا هناك، و لا يعرف لماذا وافق السائق؟. في السيارة سأله عن اسمه ولم يكن فارسا. لقد تمادى في سؤال الناس عن أسمائهم. عمال ال ( كافيتريا) الثلاثة، وشابان قبليان توسم فيهما الخير، وأغلب هؤلاء الذين صلوا معه المغرب. ولما توقف السائق أمام مدق المنجم مع أحد سائقيه، سأله سريعا عن اسمه. دون أن يجد بغيته. ثم لاحت المدينة وأشار له السائق بذراعه ذات اليمين وذات الشمال. قال هذه المساكن وهذه الأسواق. وسرعان ما تركه عند المفارق ومضى.
بعد ساعتين من المشي بلا هدف ذهب الحاج علي إلى البحر. لقد تناسى الإسم الذي بات يزعجه. ويراجع نفسه فيما هو مقدم عليه. يظهر عكس ما يبطن أم يعرض؟. التقية حرام وفي التعريض مندوحة للكذب. لقد صار الرجل متجردا لأكثر من سنة. منذ خروجه للمعاش المبكر قبل سن التقاعد بخمس سنوات. ولا رغبة لديه في العودة للسبب. إن جنيهاته القليلة لن تحمله طويلا، ولا خوف ولا قلق. ثمة معاش تركه لزوجة ابنه الصغير بعدما ماتت زوجته؛ فلو احتاج شيئا وصله بالبريد في ساعة واحدة. وإذا فكر في البحث عن عمل، فمن هذا الذي يعمل لديه؟, وما العمل الذي يصلح له بدقة؟. إن إحساسه بالشباب لا يجعله يصدق عمره في كثير من الأحيان. أما إذا تعثر نومه واشتد القيظ، تيقن أنه على عتبات الستين. لقد تأخر الوقت، ولازال هناك من يتجولون على البحر. عمال بناء، وقاطنو المدينة، وأجانب. يسيرون على الحصى والرمل القريب من حافة الماء. منهم من ينزل لأمتار بعيدة دون أن يبلغ الماء منتصفه. ورذاذ كلام يتطاول لسمعه مع هبوب النسيم. لهجات يسمعها لأول مرة، ولغات يميزها من النطق وبعض الكلمات. إيطالي، روسي، ألماني، وانجليزي. أما الفرنسية التي يتقنها فما سمعها بعد. ينهض عن الحجر الكبير الذي يجلس عليه في العتمة ويشعل سيجارة. أنوار الشاطئ أمامه تسطع على الماء عدا البقعة التي يجلس بها. ويفكر في العادات المكتسبة الجديدة. لقد انعزل عن العالم. فلا هاتف ولا سوشيال ميديا ولا أخبار. عانى من ذلك وقتا حتى تعوده. الشمس القوية، الرطوبة العالية ،الجبال المرقطة، ندرة الماء والخضرة، اللون الأصفر، عدم الأكل والنوم بانتظام، وغياب الساعة البيولوجية. يضحك في سره وهو ينظر للسماء ويقول: وماذا بعد؟. ويهمس بأن الحياة كريمة بعطاءئها، وأن الفرص الثمينة موجودة في كل مكان ووقت. ثم تقترب منه امرأة لتشعل سيجارتها. ناولها علبة الكبريت وهو يتطلع إليها بعجب. كانت تتحدث الإنجليزية. رفيعة وطويلة وشعرها مثل شعر الولد. سألته عن عمله، فرد وهو يضحك عاطل. أخذت خطوة للخلف وراحت تعاينه غير مصدقة. هيئته لا تعني ذلك أبدا. إنها طبيبة بيطرية تشيكية في الخمسين وتقيم بالمدينة. ولما سألها عن طبيعة عملها جلست بجواره. كانت ترتدي فستانا خفيفا، ونظارتها الطبية والعتمة لم تخف ملامحها البرونزية الجادة. قالت أنا عضوة بجمعية الرفق بالحيوان بالإتحاد الأوروبي. وأدير مكتبا لها هنا بالمدينة. قال حسنا، لكن ماذا تعملين بالضبط؟. قالت أعمل على الكلاب الضالة. أعد لها الطعام والشراب حتى تؤنسني. ثم أحمل ذكورها للمكتب وأخصيها. قهقه الحاج علي وهو يصنع بكفه الأيمن علامة الإعجاب. سألها: وعملك هذا ليس تطوعيا؟. قالت نعم. ولما وجدته شغوفا لسماعها، قصت عليه تجارب أربع سنوات. ومن الكلاب إلى البشر إلى أصدقائها الأجانب. لقد اشتروا الشقق والبيوت ويعودون إليها كل عام مرة أو مرتين. ومنهم من مات ببلده وبيته أو شقته لازالت مغلقة. قليلون هم الذين استوطنوا المدينة لطقسها الشافي لأمراضهم أو لغرض إنساني. والأغلب سكنها لأجل الجنس. عجائز أوروبا الثريات يدعمن السياحة الجنسية. والشباب المصري حولهن كالذباب. ربما يزعجك ما تسمع، لكن الأمور هنا تسير على هذا النحو. وحين اطمأنت له، اصطحبته لشقة صديقتها الخالية
نزلا من السيارة ودخلا بناية على الكورنيش، وصعدا الدرج للطابق الثاني. وبعدما تفقدت معه أرجاء الشقة كمن جاء ليشتريها، ناولته هاتفا قديما مع المفتاح وهي تقول: حتى أجدك لو احتجت إليك، وسرعان ما ودعته. . في هذه الليلة سكن وارتاح. ربما لوجود الجدران والأبواب و العودة للنسبية بعد الإطلاق. فبمجرد راحته في السرير شعر بجسده بعد غيبة. أكثر من أسبوع ونومه كيفما اتفق. كأنه زائد على عالم لا حق له فيه. وال (بانيو) الذي تمدد به نحو ساعة، طرد أدران الأيام الفائتة. الآن يهنأ بمسكنه الأثير. صحيح أنه يتعامل مع جسده بصلف، إلا أنه يدعو له ويرهبه. مجرد خروج الأنين والزفير منه يمنحه الإحساس بوجوده. ولكم يشبهه بالقبر في بعض الأوقات. في تلك اللحظات يصب عليه وابلا من القهر، ويتوعده بالجحيم. وبعد أسبوع أغرق في النوم ودخل الحضرة. بشر لا حصر لها في ثياب بيض يتمايلون ويذكرون. أناس مصفوفة كخطوط الزرع في الحقل. وعلى إيقاع التمايل تهبط العبرات والظنون. ما كل هذا الحشد؟. وكيف يكون بينهم نساء؟. في ساح الذكر لا نساء ولا أطفال. لهؤلاء حلقهم وأماكنهم. يستمعون للذكر والدرس وهم بعيد. اللون الأبيض ينتشر في طول الصوان وعرضه، والبيارق الخضراء تخفق في كل موضع، وأوسمة تزين أكتاف ووسط المنشدين. إنها حضرة جامعة لا عامة، والحضور من كل القطر. ويرى في صفوف النساء الحاجة زكية. عروس تتطلع إليها النساء. ينظر إليها فرحا فتشير على ركن يتبعه. يمر بين أناس لا يعرفها، مشدوها وكلهم ينظرون إليه. وفي الرؤيا يفكر الحاج علي، وسرعان ما يتعجب. كيف يكون ذلك؟، لا يدري. ثمة وجوه من شدة نضارتها تخلبه. ينظر لأقربهم ويسأل نفسه: ترى من يكون؟. لابد أن الحاجة أشارت على الشيخ. لكن من أين جاءت كل هذه الأرواح؟. وهل جميعهم في البرزخ؟. يمشي وسط الصوان الشاسع ولازال الشيخ بعيدا. ثم يرى أناسا يعرفهم. الشيخ إبراهيم حمص، الأستاذ عبد الهادي الزغبي، وشيخه بيومي حمد، وكلهم في البرزخ. . يشعر كأنهم لا يتحركون أكثر من حركة الذكر. يحملق فيهم ويحملقون فيه، دون أن يصل أيهما للآخر. ودون إرادة منه يقف أمام شيخه.ينظر إليه ممتنا ويقول في سره: سبحان الله، هل هذا ميت حقا؟. يدفعه أحدهم بعدها ؛ فيسعي. و تأخذه تلك القشعريرة مع أنوار الشيخ. يشعر كأن قلبه ليس معه. ثمة خفقان لو ما اشتد عليه سقط. وحين يرى يقع عليه نظر الشيخ يسمع من يقول له: أنت معنا على طول.