vendredi 9 avril 2021

قراءة نقدية في رواية السيرة الذاتية " الخبز الجافي " للكاتب المغربي ميمون حرطيط // بوزيان موساوي // المغرب


تحت عنوان: سؤال السيرة الذاتية أو لما تذوب "الأنا" (بصيغة المفرد) في الذاكرة المشتركة
****
مقدمة:
تعريف: "الخبز الجافي" (بالجيم) باكورة الأعمال السردية للكاتب المغربي (ابن مدينة الناظور) الأستاذ ميمون حرطيط. صدر هذا العمل الإبداعي في طبعته الأولى سنة 2021 عن مكتبة "الطالب" وجدة/ المغرب. الكتاب من الحجم المتوسط (178 صفحة)؛ تصميم الغلاف: الفنانة سهام حلي؛ تقديم الدكتور و الأستاذ الباحث الصديق نور الدين أعراب الطريسي.
مَحاور: استنتجنا من قراءة أولية ل "عتبات النص" (من غلاف و "أوراق خارجية") تغييبا مقصودا من طرف الكاتب لمُسَمّى العمل الذي عادة ما نقرأه أسفل واجهة الغلاف أو في "الورقة الخارجية" الأولى على شكل "بطاقة" تقنية تعرِّف بهوية المُؤَلِّف و بدار النشر و تُصنِّف الكتاب ضمن "جنس" أدبي أو علمي أو تقني مُحَدّد، الأمر الذي دفع بنا إلى اختيار "إشكالية التجنيس" كمَبْحَثٍ أول لهذه الورقة النقدية التطبيقية. و استنتجنا كذلك من خلال "قراءة سطرية" لربوع الكتاب اعتماد "آليات تَلَفّظ" (Instances d’énonciation) متمركزة على "تبئير داخلي" (focalisation interne) بتغليب هيمنة "ذات ساردة عالمة" (narrateur omniscient) بضمير المتكلم "الأنا" (الكاتب/ السارد/ الشخصية). هي "أنا" فردية" تذوب داخل "انا جماعية" تحت إكراه جدلية التأثير و التأثر دفعت بنا إلى تخصيص المبحث الثاني من هذه المقاربة لتمظهرات (configurations) و تفاعل/ انفعال "الأنا الفردية/ الجماعية" داخل "وعاء" زمكاني قد يثير اهتمام "الأنطروبولوجيا" (علم الإثنيات) أكثر من "السوسيولوجيا" (علم الاجتماع).
1 ـ إشكالية "التجنيس":
أمام غياب تصنيف الكاتب على واجهة غلاف الكتاب ل "جنس" عمله، ارتأينا الاستئناس ب "الأوراق الخارجية"؛ فاهتدينا لأوراق ثلاث:
ـ من بين ما جاء في "الورقة الخارجية" الأولى (ص. 5) تحت عنوان "إهداء": " إلى كل الأصدقاء الذين شجعوني من قريب أو من بعيد على جمع كتاباتي في مؤلف واحد." و كأنّ هذا "المُؤَلَّفِ" مجرد "مجموعة" (recueil) ل "كتابات" (لم يُعلَن عن جنسها) متباعدة من حيث زمن و مكان الكتابة؛ و كأنها "مجموعة" من "المذكِّرات"، أو "القصص القصيرة"، أو "الخواطر" تُقرَأ ك "نصوص" مستقلة عن بعضها (autonomes) تكتفي بذاتها لذاتها.
ـ و يكتشف القارئ من خلال تبويب "الورقة الخارجية" الثانية المتواجدة في آخر الكتاب تحت عنوان "المحتويات" (صفحات من 175 إلى 178) كيف تمتْ عملية جمع النصوص "المُستقلة" لتُكَوّن "ميكرو ـ بنية" نصية واحدة تحترم تراتبية في السرد خاضعة لتسلسل أحداث من منطق "كرونولوجي سطري" تمتد من منتصف خمسينيات القرن العشرين إلى سنة 2015 ، و كيف تمتْ "هندسة معمارها" على شكل ثلاث"مراحل" زمنية ("مرحلة الطفولة" و تضم 23 عنوانا فرعيا من الصفحة 16 إلى الصفحة 80، و "مرحلة العطالة" و تضم 17 عنوانا فرعيا من الصفحة 82 إلى الصفحة 137، و "المرحلة المهنية" و تضم 10 عناوين فرعية من الصفحة 140 إلى الصفحة 174). و كأننا أمام "هرم براغ"، أو أمام "خطاطة سردية" (كما سمّاها "غريماس"): وضعية الاستهلال (مرحلة الطفولة)، و العنصر المخيب (أو المُخِل) الذي ينقل الحكاية من وضعية البداية إلى وضعية الوسط (مرحلة العطالة) و هي وضعية السيرورة و التحول بشكل تصاعدي التي يليها عنصر الانفراج إيجابيا أو سلبيا (المرحلة المهنية) التي تؤدي إلى وضعية النهاية (الإحالة على المعاش).
ـ و قرأنا كذلك و من باب الاستئناس في السياق ذاته (أي إشكالية "التجنيس") "ورقة خارجية" ثالثة تحت عنوان "تقديم"، و هي بقلم الدكتور و الأستاذ الباحث الصديق نور الدين أعراب الطريسي؛ من بين ما جاء فيها (ص. 8): "إنّ النوع الأدبي الذي يندرج في إطاره هذا العمل الأدبي للكاتب ميمون حرطيط هو السيرة الذاتية، في حين أن الجنس الأدبي هو السرد (...) و من المعلوم أن السيرة الذاتية هي جنس غير الرواية..."
هو "حكم قيمة" قد يجد ما يبرره في أدبيات النقد الحديث؛ أي عدم إدراج "السيرة الذاتية" في خانة "جنس الرواية"، لكن كيفما اختلفت المرجعيات، فلدى المُنظرين في اللسانيات الأدبية ما يُشبه الإجماع بخصوص تدقيق بعض المصطلحات مثل (في سياقنا هذا) "نوع النص" (Type de texte)، و "جنس النص" (Genre de texte) (سواء عند ر. ياكوبسون Roman JAKOBSON، أو عند إيرغون ويرليش Egon WERLICH، أو عند ت. تودوروف Tzvetan Todorov أو عند ج. ميشيل أدام Jean-Michel ADAM و عند غيرهم). من منطلق هذه المرجعيات، و اعتبارا لمنطق التراتبية الزمنية التي يتحكم الخطاب الملفوظ في "الخبز الجافي"، فيمكن إدراج هذا "المتن المقروء" ضمن "نوع نصي" (Type de texte) واحد: "الخبز الجافي" نص سردي (Un texte narratif). أما بخصوص "الجنس الأدبي"، فالقول بأن "السيرة الذاتية هي جنس غير الرواية"، كما جاء على لسان الدكتور نور الدين أعراب في تقديمه لهذا العمل، و بالتالي "الحكم" بإخراج "الخبز الجافي" من خانة "جنس الرواية"، قد يعيد إلى الأذهان جدلا أسال الكثير من الحبر من لدن الكثير من كبار النقاد العالميين لا يسمح الحيز للخوض فيه هنا الآن، لكن قد نعيد طرح السؤال من جديد: ـ هل يكفي أن يوظف الكاتب "ذات ساردة" بضمير المتكلم "الأنا" (كما في السيرة الذاتية "René" لشاطوبريان، و "Les confessions" لجون جاك روسو"، و " David Copperfield" لشارل ديكنز، و "الأيام" لطه حسين، و "الخبز الحافي" لمحمد شكري... و غيرها) حتى تفقد "السيرة الذاتية" شروط انتمائها ل "جنس الرواية"؟ تنبه بعض النقاد إلى وجود "مسافة" بين "زمن الكتابة" (و بطلها الكاتب)، و "زمن الحكي" (و بطله السارد)، و "زمن الحكاية" (و بطلها الشخصية)؛ هذه المسافة تضع "الذاكرة" محل تشكيك في قدرتها على تذكر كل التفاصيل من جهة، و على إصدار أحكام قيمة من جهة أخرى بواسطة سلطة اللغة و انزياحات البلاغة، لذا يسود اعتقاد مفاده إن "السيرة الذاتية" رغم عنصر "المشابهة" (la vraisemblance) حد "المطابقة" مع الواقع، فإنّ هامش "الخيال" وارد؛ لذا يتم تصنيف "السيرة الذاتية" كأحد أنواع الرواية (Roman autobiographique )؛ هذه المسافة وحدها تقربنا من تمظهرات "الأنا" كما سنرى في المبحث الثاني من هذه الورقة النقدية.
2 ـ تمظهرات (configurations) و تفاعل/ انفعال "الأنا الفردية/ الجماعية" داخل "وعاء" الزمكان:
2 ـ 1 ـ "الأنا" (الكاتب/ السارد/ الشخصية) ذاكرة رهينة مكان:
ذاكرة "الأنا" رهينة مكان، لأن المكان، في روايتنا هنا، يكتسب أهميته القصوى، لا لأنه أحد عناصرها الفنية، أو لأنه المكان الذي تجرى فيه الأحداث، وتتحرك خلاله الشخصيات فحسب، بل لأنه يتحول في هذه السيرة الذاتية إلى فضاء يحتوي كل العناصر الروائية: وصفا، وسردا، وحوارا، وأحداثا، وحبكة. وحاملا لرؤية البطل، ولمنظور المؤلف؛ هي ذاكرة "موشومة" بالفضاء الروائي/ المكان: (" المغرب"، إقليم "الناظور"، "الرباط"، "طنجة"، "فاس" حيّ "عرّيض"، "هضبة بني سيدال"، "حفرة الخندق"، السكن العائلي... )
هي أسماء أمكنة حقيقية ومُوَثقة جغرافيا و إداريا، و تسمية المكان ـ كما كتب الباحث أحمد زياد محبك ـ هي أول السبل إلى بناء المكان، فتسمية المكان في الرواية تحيل القارئ على المكان الذي يحمل الاسم نفسه في الواقع، وإن كان المكان في الرواية ليس هو المكان نفسه في الواقع، ومن هنا تنشأ المفارقة، لأن التسمية محض وسيلة أولية باهتة، لا يمكن أن تقوم وحدها ببناء المكان الروائي. لذا ارتبطت أحداث كثيرة من هذه السيرة الذاتية (من منتصف خمسينيات القرن الماضي إلى 2015) بعملية البناء؛ بناء المكان كفضاء روائي، و بناء المكان في الواقع؛ نقرأ:
"بعد جهد مضن تمكن الثنائي العصامي الصلب (أب و أم البطل) من بناء بيت ثان. و في ما بعد بإحاطة الدار بجدار الفناء. كلما ظننت بأن تعب البناء قد انتهى، تجدها (الأم) منغمسة في آخر؛ هذا خم الدجاج، و ذاك جحر الأرانب، هذه أتلام البطاطس، و الطماطم، و تلك أحواض البصل، و النعناع. في الصباح غرس و في العشية سقي. دأب مستمر على مواجهة تكاليف الحياة." (ص. 34).
هي عملية بناء بيت الأسرة، لتمتد لبناء حيّ عرّيض ("في البدء استوطنت عرّيض أسر قليلة متناثرة هنا و هناك (ص. 13) يعتبر حيّ عرّيض اليوم من الأحياء التي تتكاثر فيها التجمعات السكنية باطراد..." (ص.14))، لتمتد لبناء مدينة و وطن. و عملية البناء هذه لها دلالة تتجاوز مجرد تأثيث لفضاء فارغ؛ بناء البيت يعني بناء أسرة (" أرسلت أمي و إحدى عماتي لطلب يدها، و ما أن تخرجت من مركز تكوين المعلمين، حتى سارعت إلى الزواج منها، إن بهاء الكون كله تملكه هذه المرأة التي عجنت معي تفاصيل الحياة بعسرها و يسرها، و لما تزل." (ص. 134))، و إعمار حيّ و مدينة يعني استبدال تدريجي لنمط عيش بدوي أو شبه حضري بسيط (يتأسف الكاتب على زواله) بنمط عيش مدني حضري (يراه الكاتب سقيما ممسوخا)؛ نقرأ:
"كم كانت تبدو لي المدينة رائعة متناسقة و أنا أستمتع بروعة انسجامها مع البحر الصغير. (ص. 149) (...) الناظور؛ أين أنت مما كنت؟ أيتها المدينة النابتة في القلب منذ الولادة ! أين دفن الزمن بهاءك، و نقاءك، و هندستك البسيطة الراقية؟ ماذا فعلت الأيام بك و بي؟... (ص. 150)".
2 ـ 2 ـ من "الأنا" المفرد إلى "الأنا" الجماعية إلى مدرسة الحياة:
لا يمكن بناء أسرة دون شبكة علاقات؛ و داخل هذه الأسرة تمت تنشئة الطفل ثم المراهق ثم الراشد "ميمون"؛ نمت و تطورت الشخصية تزامنا مع نمو و تطور عمران حيّ "عرّيض" من نمط عيش بدوي مرتبط بالأرض يعيش على و بالفلاحة و تتحكّمه علاقات التآزر و التضامن بين الأسر ("في المناسبات، كالعقيقة أو الإعذار، يكون الجيران أول المدعوين كما تقدم الجارات القريبة يد العون لصاحبة المناسبة، إما عمليا بحسب ما عرف عنها؛ كفتل الكسكس، أو الطهو أو بالمساعدة على غسل الأواني، أو بتقديم أواني الطبخ، و الأكل، و الموائد و التفريش..." (ص. 43)، إلى نمط عيش شبه حضري ثم حضري تفقد فيه"الأنا" بصيغة الجمع تدريجيا قِيّم الحياة الجماعية المبنية على التضامن و ثقافة المشاركة... و رغم ذلك، يحتفظ "الأنا" المفرد (ميمون) عبر محطات حياته بذاكرة مشتركة يلعب فيه "الآخر" دورا مكمّلا، أو قيمة مضافة تجعل بعض العلاقات الاجتماعية من الثوابت التي لا يردعها الزمن؛ من بينها علاقات الصداقة؛ نقرأ:
"لقد اكتشفت فيما بعد أن محك التجارب أعظم مدرسة يمكن أن يتعلم فيها الإنسان، و أكاد أجزم بأن تلك الجلسات (مع الأصدقاء) بما تضمنته من سجالات، كان لها دور لا يستهان به في تكويني المعرفي، و ما اكتسبته من إرادة اللحاق بركب من لم ينقطعوا يوما عن الدراسة." (ص. 90).
و من المؤكد حسب أدق تفاصيل هذه السيرة الذاتية "الخبز الجافي" للمبدع ميمون حرطيط أن أهم مدرسة تعلم منها (كما كلنا أو جلنا) هي مدرسة الحياة؛ فقبل ولوج المؤسسة التعليمية النظامية، تعلّم "ميمون" من أمّه (والدته رحمها الله) أوّل صراعاته مع الحياة. فإن كان محمد شكري في "الخبز الحافي" قد تمرّد على جبروت الأب و استبداده و جعل من سلطته عقدته الأبدية، جاء "الخبز الجافي" لميمون حرطيط بتمثل مختلف تماما للأب و سلطته عند شكري رغم أن البيئة التي عاش فيها هذا الأخير طفولته تشبه إلى حد المطابقة المحيط الذي عاش فيه و عايشه ميمون حرطيط في فترات زمنية متقاربة إن لم نقل نفسها؛ أب "ميمون" في هذه السيرة الذاتية كثيرا ما يرضخ لمبدأ التدبير المشترك لشؤون أسرته بمعية زوجته: فهي من ساعدته يدا بيد على بناء البيت دون حاجة لعمال، و هي من ساهمت بمالها الخاص بشراء بقرة و شاة لمساعدة زوجها على مصاريف المعيشة، و هي من كانت تقوم بدور الأب و الأم معا لما كان يغيب زوجها لأجل العمل؛ نقرأ: " أبوكم الذي وعد بالعودة بعد أسبوع، من عملية حرث، لم يظهر له أثر، فزاد الهم همين، و قد مرّ أسبوعان..." (ص. 44).
خلاصة:
بفضل توظيفه للغة سلسة و أسلوب عذب و فقرات مسترسلة أقرب من اللغة اليومية، بل أقرب كذلك من اللغة الأمازيغية (اللغة الأم للكاتب) نسافر مع المبدع ميمون حرطيط عبر محطات من حياته الشخصية التي في ذات الآن تندرج في ذاكرتنا المشتركة لأن جلنا إن لم أقل كلنا عشنا في فضاء يشبه حيّ "عرّيض" مع بعض التفاوتات هنا و هناك. و قد نختزل حتى إلى يومنا هذا (سنة 2021) و ما بعدها حياة الآلاف من الشباب في محطتين (مرحلتين) على الأقل: مرحلة "الطفولة البريئة" (بما فيها التربية الأسرية و النظامية و التكوين الذاتي)، و مرحلة "العطالة" (أو "الزمن المهدور" كما سماها ميمون حرطيط)، أما المرحلة المهنية، فهي ركن صعب لمن استطاع إليه سبيلا، كما محطة "التقاعد" (أو الإحالة على المعاش) التي قد تنطبق عليها نفس المقولة...
و لنا عودة في القادم من الأيام لقراءات أخرى للمبدع ميمون حرطيط،
مع تحيات نافذة الناقد و الأستاذ بوزيان موساوي.





Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire

Remarque : Seul un membre de ce blog est autorisé à enregistrer un commentaire.