قراءة لقصيدة"غربة الأوتاد" للشاعر و الفنان السوري عادل المتني :
(المقطع الأول)
من خلال العنوان " أوتاد الغربة" يسمح لنا عادل المثني في البداية بأن نسبح معه في الغربة التي أرادها بأن تكون مرتبطة بالأوتاد، لا بالفندق، أو المنتزع السياحي، علما بأن الوتد يرتبط بالخيمة، كما يرتبط برباط البهيمة لكي تستقر في مكان ما حتى لا تزعج الراعي بتحركاتها المختلفة في الحقل ، بلغة العنوان تعني الاستقرار، و التوقف في مكان ما، إن الوتد يبين بالملموس أن الغريب في القصيدة هو الإنسان المقهور، يبحث في غربته عن العيش البسيط، و الاستقرار البسيط ، لكي يهرب من الوطن الذي فرض عليه الهروب منه، إن غربة الوتد، لم تكن غربة الاسمنت، و الشوارع الفسيحة، إنها غربة المخيم و غربة اللاجئ، و غربة الضياع، لهذا يكون الوتد هنا بدون النبش في سرد القصيدة المطولة هي: الفقر ، التشرد، الإقصاء... إنها أزقة الوتد المليئة بالروائح النتنة، المترتبة عن التبول الوتدي الصدئ، "الأوتاد و الغربة" معادلة للفقر المدقع، و التهميش الغير المعترف به، من طرف أولئك الذين دفعوا لصنع الوتد المنغرس في أضلع أطفال لم يعودوا يشعروا بانغراسه داخل أضلعهم و هم نيام، و نظرا لطول القصيدة و بوحها التلقائي لما تسرده من أحداث، و ووقائع يصعب الإلمام بها أثناء التحليل، سأحاول أن أسرد بتأويلاتي الخاصة اعتمادا على ما ذكره الشاعر المقتدر عادل المتني و ذلك بتتبع خطوات القصيدة مقطع بمقطع، لما يحمله كل مقطع من وصف دقيق لمعاناة الإنسان العربي منذ ظهور الصهيونية إلى حدود الحروب المصطنعة الحالية، يستهل المتني قصيدته المطولة بمدخل يلخص في البداية طبيعة الغربة:
"نسافر بعيدا
لنجني ما يكفي من ذل
لشراء تذكرة العودة"
الغريب مضطر للسفر، فهو مرغم عليه، رغم أنه مقتنع بأنه سيصطاد "الذل" و يجني من ثماره الهوان، فهو لا يتوخى جاها، و لا نعمة راقية، انه يتوخى فقط توفير تذكرة العودة من القهر الذي سيمارس عليه أثناء غربته الطويلة، فهذا بالنسبة إليه ربح للاستمرار في الحياة، الغربة هنا هي التشبث بالبقاء، و الاستمرار في الوجود، بهذا المدخل الرائع الذي يصف أسباب الغربة و دوافعها التي تبحث عن مطلب بسيط في آخر المطاف، و هو "شراء تذكرة العودة" بهذا يدخل بنا الشاعر إلى لب الموضوع، و يبدأ قي شرح مفهوم الغربة و تداعياتها المختلفة، لهذا فعندما نلج عالمها يفسرها كما يلي:
"في الغربة يغتالك اسمكَ
وجلدك
وأشباه المرايا
وجواز السفر"
(المقطع الثاني)
إن التنبه و الوعي بظلم الغربة، و التوجه إليها يعني أنك تقهر ذاتك، تتصارع في عالم متصارع من أجل البقاء، انك في عالم "حالة الطبيعة الهوبزية " الإنسان ذئب لأخيه الإنسان "، لم تتحرك من أجل الرفاه، بل تتحرك من أجل الغريزة، إن حالة الطبيعة هذه هي التي تفرض عليك الغربة، تفرض عليك أن تتوجه مكرها إليها، لأنك تعرف مسبقا أنها الذل وتتجه إليه، لم تعد لك هوية، فأنت تقاس ببشرتك، ولونك ، و حتى حاجاتك لم تعترف بك(اشباه المرايا) ،جواز السفر)، انك في التيه، تتنكر لما أنت فيه، تواجه الآخر بجواز سفرك الذي أصبح هو هويتك الحقيقية الجديدة ، بهذه الهوية فأنت مرغم بأن تجتاز الحواجز، و يصف المتني هذا بطريقة مفارقة:(تحسس الخصيتين/ المطارات الفارهة)
"بعد أن يتحسسوا خصيتيك الفارغة
في المطارات الفارهة
يأذنون لك بالمرور"
إن الهوية الجديدة (جواز السفر) لا تفارقك، تتماثل معك، لكنها لا تعفيك من التفتيش و التنقيب في بؤر التوتر المختلفة، ليقذف بك بعد السماح بالمرور:
"في غرفة من الصفيح
تشبه خم الدجاج في بيتنا القروي
أستقر طويلا"
ضمن هذا المقت التاريخي المستعصي عن الحل، وسط هذا الجو المفعم بالقحط في أمكنة الإهمال يعيش غريب الأوتاد في غرفة من الصفيح، لا تختلف عن إنسان الغاب، كما وصفها المتني تشبه (خم الدجاج )، و أن هذا الغريب يقتنع بظروفه الجديدة هذه، بأنه سيمكث طويلا، ليحدد في آخر المطاف طبيعة المكان الجديد الذي يقتحمه غريب الأوتاد،
"أعود لذاكرتي الرطبة
هذا الكهف المطلي بالكلس الأبيض
أنصب خيمة فيه
وداخل الخيمة خيمة
وخيمة
وخيمة
أغدو مخيم لاجئين"
ليس هناك من إجحاف في حق الغريب ، إنه يقصى في مكان مقذوف فيه، في سلة المهملات، يغادر مكان الألفة القديم ليعانق مكان الذل الجديد، لكن غريزة البقاء تلك تفرض عليك ذلك، تنقلك من عالم التعاقد، عالم الثقافة، إلى عالم الانحطاط، و الضعف، و الهوان، باختصار عالم النسيان، المتني يصف هذا التشييد الخيمي البئيس وصفا دقيقا :
"أنصب خيمة فيه
وداخل الخيمة خيمة
وخيمة
وخيمة
أغدو مخيم لاجئين".
يقتلك السؤال في "مخيم اللاجئين" يدفعك في متاهة الجواب ، يسبح بك في فوضى المخيمات المشتتة تنتظر في غربتها عون الغرباء، هناك من يتعاطف ، و هناك من يتفرج في هذا الذل الذي قصده الغريب بوعي و روية ، قرار الغربة لا مناص من أن يسبقه عنف الألفة، و صوت البارود المتدافع في الهواء، يصيب، يقسم البشر إلى أشلاء، وخوفا من الإعاقة، و خوفا من الموت و الحصار، يضطر الغريب أن يتجه إلى مصب الذل ، ذل البقاء أفضل من ذل الموت، عقدة البقاء للأقوى تفرض عليك أن تنفلت من حرب"الكل ضد الكل" الهوبزية، في هذا الواقع الجديد المليء بالمتناقضات تدفعك المخيلة إلى السؤال:
"وماذا بعد ؟"
الجواب :
"ظلٌ في مهب الريح" إنها روح المخيم ، بين شقاء الطبيعة، و شقاء البشر، تسير الحياة لتبحث عن الاستقامة، و عن الهدوء، و رغم كل هذا :
"لا تقبل الغربة القسمة على اثنين
الوحدة ثم الوحدة فالوحدة من جديد"
محمد هالي
يتبع)
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire
Remarque : Seul un membre de ce blog est autorisé à enregistrer un commentaire.