لا يمكن للوحدة أن تنفي الكثرة. فالأفق جميعه كل لا يتجزأ. وثنائيات الكون تدور وتتقابل في ذاك الأفق الواحد. أما التثليث فتهجين مذموم. يدفع بالإنسان إلى ترك الأقنوم. يخرجه من تحت سماء الله ولا سماء.وهناك يحار العقل مع جيش الأفكار. من قال بأن الواحد حل أو اتحد بروحه أتلفه الشيطان. هيهات لإنسان نعرف قدره أن يتحد برب الأكوان اللامحدود. أو يصل إليه بحسن صنيعه أو يعرفه علي القدر المطلوب. وبدون استعداد تقذفه العربة في قلب الصحراء . لا يعرف ما جاء به علي وجه الدقة. إنه ليس جديدا علي هذا الموضع. إلا أن قدومه السابق كان زيارة معلومة الوقت. حتى معلومية الوقت هذه لم يكن له دخل فيها. وبعد النوال يقفل عائدا إلى أهله. لقد عاش تلك اللحظة في فكره من قبل. أن يكون في أتوبيس كبير بين بشر لا يعرفهم ويتركوه. يذهب معهم وفي العودة لا يجدوه. أيا كان الأمر فقد حضر. لم ينتظر موعد الرحلة السنوي. كانت رؤاه تستعجل الوقت لتجربة تقض مضجعه. لقد فكر فيها مليا ويخاف الفشل. زيارآته المتعددة كانت تدريبا لقوته على التحمل. إنه الموت الأخضر في أبهى صوره. وهو العشاق الملال المحب للحياة. في المرة الأولى عاد بعد أربعة أيام. كان في بداية الصيف وشعر أن جلده عليه يضيق. وفي المرة الماضية أتم الأربعين. الريح التي هبت وهو يتفقد أشياءه غطت شريط الأسفلت ومنعت عنه رؤية ( الكافيتريا) الجبلية الوحيدة بهذا الدرك الموحش. وضع حقيبته الصغيرة في كتفه وقطع الطريق. الساعة كانت تقترب من منتصف الليل. والحجارة البيضاء في جدر ( الكافتيريا) كانت تشع بضوء خافت رغم الأفق الكابي الذي يحجب السماء. دخل بين مكعبات المياه البلاستيكية وهو ينادي. أخذ يتصرف كأن أحدا هناك. صحيح أنه لم يلمح إشارة ضوء ولم يسمع صوت، لكنه يشعر بوجود إنسان. ثمة رائحة يتبعها رغم الريح والغبار. لقد صار يعرف بعضا من عادات هؤلاء البشر. وينادي حتى دفع الباب الموارب ودخل. كان ثلاثة نفر ينامون علي دكك خشبية مستطيلة. وأغطيتهم ملفوفة حول أجسادهم بعناية حتي وجوههم. لقد أشفق عليهم من غطيطهم ولم يوقظ أحدا. أكل سندويتش كان معه، وأعد لنفسه القهوة والشيشة. ولما انتهى تمدد على دكة خالية إلى جوارهم ونام.
في الصباح طلع قرص الشمس ملتهبا يقدح في الأشياء قدحا. والرؤية التي اتسعت، كشفت عن مبنى للإسعاف على الطريق، به موظف واحد وسيارتين، وبضع علامات مرورية على رأس الطريق المؤدي للوادي، ودورة مياه مهملة لعدم وجود مياه، ومقام لشيخ دون ميضأة وصلت لبابه الرمال. وقبل أن ترتفع الشمس قدر رمحين استيقظ المسؤول عن ( الكافيتيريا) وأيقظه. شال الفوطة التي فرشها على الوسادة المتسخة عن عييه ونهض بجذعه. وحتي يوقف الدهشة والعجب، أخرج رقمه القومي من طيات ملابسه وناوله للرجل. علي عبد العزيز، مدير بوزارة استصلاح الأراضي على المعاش، عمره 56 عاما، وحالته الاجتماعية متزوج ومعه ولدين.. وحين طالع الرجل كل بياناته سأله متعجبا: وما الذي جاء بك إلى هنا؟. قال جئت لأعيش. مسح الرجل الطويل النحيل وجهه الأسمر بالشال الذي اعتمد به رأسه وهو يقول: هنا!, الناس تهرب من هنا للدلتا، وجئت من الدلتا لتعيش هنا؟. هنا أين؟. خرج أمامه إلى شريط الأسفلت وأشار على الجبال الجرداء المرطقة والفضاء القاحل ثم قال: أما يكفيك كل هذا. عاد الرجل يصيح في رفيقيه لدفع النعاس والنهوض. وأخذ ينقل المياه من تنك إلى آخر بموتور صغير ، ويشعل الفحم في الرمالة والحاج علي يعاونه يدا بيد. ولما جلسا يتناوبان ياي الشيشة، ويحتسيان القهوة وسأله عن وجهته قال العم علي: الوادي. أزور الشيخ أولا ويضيفني ثلاثا، ثم يفعل الله ما يشاء. بعد ربع ساعة وقفت سيارة نقل مياه تسع عشرين طنا أمام ( الكافيتريا) محدثة أزيزا منفرا. نزل سائقها يصيح بأسماء العمال ويفتش عن شيشة بعينها وبكفه لفافة المعسل في عبوتها البيضاء. كان سائق السيارة التي تغذي قرية الشيخ بالوادى. لها خط سير من المحافظة بعمل نقلتين كل يوم. من مبنى المكثف الذي يعمل علي تحلية مياة البحر بالمدينة، إلى خزانات القرية التي تبلغ ألف نسمة ومثلهم من الزوار. تقطع في كل نقلة ثلاثمائة كيلو متر مربعا جيئة وذهابا. وبعدما تناول السائق فطوره وعاد لسيارته حمله معه للوادي.
المسافة لقرية الشيخ من رأس الطريق تبلغ 110 كيلو مترا مربعا، تقطعها السيارة وهي محملة بالمياه في ساعة ونصف الساعة. وشريط الطريق الضيق يشبه الثعبان من كثرة ثنياته بين تعرجات الأرض التي لا تنتهي. التصوير الجوي يظهره يشق الصحراء الشرقية نصفين إلي سلسلة جبال البرانيس، حيث قرية الشيخ وبؤرة الوجود الأصلية بقلب هذا العدم. وقرص الشمس الملتهب بات في زجاج السيارة مباشرة. والسائق الذي يرتدي بنطلون المحافظة وسترة قطنية بلا أكمام، يخرج كفه اليسري من الشباك المفتوح إلى جواره، يفركها وهو يقول: الرطوبة العالية تجعل العرق كالطين. تشعر به يلتصق بجسدك، فتشمئز وتختنق. الحاج علي كان يسابق الطريق بعينيه ويهز رأسه للسائق. يقارن سطح الأرض مع ما كانت عليه قبل أقل من سنة. هنا ثمة لافتة لمسجد ولا مسجد. وإلى جواره بضع حجرات بيضاء مبنية علي حافة الطريق. خلفها ظليلة خشبية مستطيلة، تحتها سيارتان (تيوتا دابل كابين). ولا علامة تدل على بشر. أغلب الظن جماعة قبلية تخفر المكان بالليل، وأرادت أن تعلن عن وجودها. لم يترك السائق الحاج علي يذهب بعيدا إلا بشق الجهد. فقط انتهى من عرض ما يعرف عن الأرصاد الجوية، وصار يستنطقه بتلك الأسئلة التي يطرحها الغرباء. من أنت ومن أين و........؟. والردود البسيطة المختصرة كانت تكفيه. أو ربما كانت تلك الردود أصلا لا تعنيه والنباتات الشوكية التي تجاسرت على العدم، تكثر وتتوغل تارة، وأخرى تضمحل وتختفي. وثمة عشش من صفيح تسع شخصين جلوسا وتقيهما الحر. وأناس قبليون تلمع سمرتهم، لا يخرجون إلى الطريق إلا لطلب الماء أو السجائر. يمشون حفاة رغم القيظ بتلك الأرض الحجرية القاسية. وقلما تسمعهم وهم يتكلمون. في أيديهم جالونات مياه سعة لترين، ويضربون بوسطى وسبابة يمناهم مضمومتين على شفاههم. سحنتهم الطيبة تجعل السائق يملأ لهم الماء. يعيش هؤلاء الرحل بين الكهوف وتلك المسارب الضيقة بين ثنايا الجبال. يعرفونها كما يعرفون أبناءهم. لا سلاسل البرانيس وحدها ، بل ساحل البحر حتى السودان. وأينما رأيتهم وجدت الحياة. قطعان من الحيوانات الاليفه تتبعهم. ماشية وإبل وغزلان وأبقار هزيلة تألف الأعشاب والنباتات الشوكية في البقع المخضرة. تستحلب الحيوانات الأوراق الإبرية الخشنة نهارا، ومن البخار المتكاثف في أوقات الليل المتأخر تستحلب الأعشاب والحشائش، وربما عثرت على عيون للماء؛ فتقلبت عليها بظهرها إذا اشتد القيظ. منتهى القدرة علي التكيف. يلتوي الطريق بعنف فينتبه الحاج علي. لم يكف السائق عن الكلام كأنما ليدفع عن جفونه النوم. لكن الرجل المتبرم من القيظ واللهب ما عاد يسمعه. أزيز المركبة الضخمة ساعده على ذلك. وتلك النظرة العفوية المنجية. فحين لا يعجبه الحديث ولا يستطيع الفكاك، ينظر لمحدثه بعفوية وبراءة. يغمض عينه اليسرى التي يتكئ عليها قليلا فتقترب من الحول. والجدية التي تكسو ملامحه لا توحي لمحدثه أبدا أنه في عالم آخر. الطريق يهبط قليلا وفي البعيد يلوح رأس جبل صغير. قبل نحو عقدين رأى على هذا الرأس رميم جمل. بقايا عظام الوجه تدور في رأسه ولا تهدأ. جمل يافع أناخ على هذه القمة، ومات وهو ينظر للطريق. ثم يبدو دغل من الأشجار اليافعة زاهية الخضرة. يزداد ظنه بوجود عيون للماء بتلك الأدغال. أو على الأقل اقتراب الماء الجوفي من سطح الأرض. خفف السائق من السرعة وحادي يمين الطريق ثم توقف في الظل. نزل يبول على كاوتش السيارة الخلفي. الحاج علي انشغل بالمرج الأخضر. أوراقه أكثر خضرة رغم أن حافتها حرشفية ربما تجرح الأصابع. واستطاع رؤية بعض جديان تعبر في البعيد. ورغم سقم عينه وإصابتها بالجفاف، ورغم أن نظارته الطبية كانت في جيبه، رأى أفعى خضراء كبيرة تتلوى قريبا من ذؤابة شجرة. عاد السائق وانتبه لتركيزه الزائد. لقد أخذ سمة هر يتهيأ لاصطياد فراشة. ولما سمع خطبه، قال وهو يضحك: هنا كل شيء، هنا كل شيء. وظل يرددها حتى لاحت بدايات القرية. عند التقاطع الموجود ببداية الوادي، توقفت السيارة ونزل الحاج علي. وضع الحقيبة الصغيرة في كتفه ونظر للشمس كمن يعاتبها. إنه لا يعرف الآن كيف يتقيها. والعرق الذي تدحرج من رأسه الأصلع وعلق بحواجبه الكثة، يواصل السعي إلى عينيه. ينثره بسبابة يمناه ويركل الأرض بحذائه مثل طفل. الرصيف عريض، وأعمدة الإنارة التي تزينة تذكره بخيال المآتة في القرية. لقد اعتادته العصافير والطيور ونسجت عليه أعشاشها. ينظر للمباني المتناثرة ذات القباء. كلها من طابق واحد وعلى مساحات متساوية. توحي هيئتها أنها ملك للمحافظة. وأناس تبدو لناظره هنا وهناك سمر الوجوه ونحيفة. ثم يمر على واحدة من الاستراحات المملوكة لأحباب الشيخ. ساهموا واشتروا الأرض من المحافظة وبنوا عليها مبان متعددة الطوابق، و على كل واحدة منها كتبوا اسم شيخها وأتباعه. لقد نما طريق الشيخ وتعدد وازدهر بكل الكوكب. مرت نحو تسعة قرون على وفاته بهذا الوادي المجدب وقد أثمرت معارفه. كان في طريقه للحج بين أحبابه وقت وفاته. و كان الوادي المحفوف بسلاسل الجبال والضباع، المحطة قبل الأخيرة من محطات التجمع علي طريق الحج القديم. بعده وعلى ساحل البحر ميناء عيذاب والمراكب التي تقلهم للضفة الأخري. لازال للميناء بعض أطلال قائمة. لقد وفد الشيخ بأتباعه من الأسكندرية. وطلب من خليفته أن يصطحبوا فأسا معهم ضمن المتاع. ولما سأله ولم؟, كان رده: في حميثره سوف ترى، وكان ما كان. فاليوم بلغ طريق من قال: أوتيت سجل مد البصر، فيه أصحابي وأصحاب أصحابي إلي يوم القيامة، بضع وثلاثين فرقة، توزعت بعلمه في كل موضع. وصار حميثره بما آل إليه واديا مخصوصا بالسياحة الدينية. انتقل به عارفون معاصرون ذكرا وأنثى وجلبوا له العمار. ورابطت به العباد والزهاد وأبناء السبيل. يستطيع قاصده الأكل والنوم والقهوة والدخان مجانا مهما أقام. خدمة مفتوحة يبذلها أهل الخير. فقط عليه تحمل الوحشة والغياب. ولما وقعت عينا الحاج علي على قباب مسجد الشيخ شعر في بدنه بقشعريرة. ما عاد الحر وحده ليزعجه وإنما أسراب النمل تسري في بدنه. يمشي كأنه يلامس الأرض بالكاد. وأكثر ما يزعجه في المكان ما هل في سمعه بعد. الوزغ وما أدراك ما الوزغ. تلك الحشرات الضارة الموصى بقتلها، تتواجد في الصحراء الشرقية بشكل ملحوظ. ليس مهما أن تراها لتمتعض. وأصواتها المنكرة تزعج الميتين. يطرد من رأسه الأفكار السوداء وما يثير القلق. يتشبث بالصفاء ويمحو أسباب الكدر. شفتاه لا تتوقفان عن الحركة، ويلهج. ثمة نشيج داخلي يندفع من أنفه. يكح ويتنخم ويفرك أنفه ليثير العطاس. يتوقف بعد دوار خفيف، ويلتقط شهيقا بعزم الجهد. كأن الأكسجين الموجود بالوادي كله لا يكفيه. ثم يلتقط أنفه من الروائح. فوح عود ما اشتمه من قبل أبدا. راح يلاحقه كالمأخوذ. ينظر لآخر الأفق والسماء تنطبق علي الجبال ويتنفس الصعداء. وثمة مديح لنبي آخر الزمان يتسلل إلى سمعه. ضعيفا واهنا يأتي من بعيد البعيد. كأنما يعبر البحر والجبال قبل أن يصل الوادي. نغم دافئ وكورس وجوقة عذارى. مسالك إنشاد لا يعلم بوجودها تثير نشوته، وتحمله على بساط الشوق إلى سيده. وبعد تمام الزيارة والوقوف بالقبر الذي لا يقف به شقي ، يخرج على الاستراحة التي ينزل بها كلما جاء إلى هنا. أمضى الحاج علي ليلتين دون نوم عميق.عامل استراحة الحاجة زكية الذي يعرفه،أنزله بحجرة بالطابق الثاني وحده، وحر يوليو منعه النوم إلا لماما. مروحة السقف التي لا تتوقف، تمده بالهواء الساخن. وإذا أوقفها ليرتاح من أزيزها، استفزه زن الباعوض. يخرج إلى الطرقة ليستحم. لكن سخونة ماء الخزانات تزيد جسده عرقا على عرق. ليلتان والنوم يتملك جفونه ولا يستقر. وكلما نام استيقظ لأهون الأسباب. وفي الليلة الثالثة رأى لوحةمن سحاب رمادي كأنما هناك في السماء. مكتوب عليها أربعة أسماء مفردة تحت بعضها. الله، الشاذلي، الحاجة زكية، فارس. استيقظ الحاج علي مع آذان الفجر مسرورا وسعيدا.إنه يومه الثالث بالوادي ولا يدري وجهته. وكلما عاودته اللوحة قدح زناد فكره في الإسم الأخير. من هذا الفارس وأين يكون؟. ثلاثة أيام لا يسأل أحد عن اسمه. يأكل ويشرب ويتعبد في رحاب سيده بين بشر لا يعرف غير وجوههم. زوار كثر يسهرون بأروقة المسجد الخارجية حتي ينتصف الليل. ثمة رحلات أتت ومنشدهم معهم. ونسوة وصبايا يتجمعن في زوايا علي مقربة من الذكر ويذكرون. وأصوات الزغاريد لا تنقطع. لقد رأي كل هؤلاء فأين يرى فارس؟. آذان الظهر قطع عليه تفكيره. خرج من الاستراحة مسرعا وبها مقام ومسجد الحاجة زكية ليصلي بمسجد سيده. وبعد الصلاة قادته قدماه للقبر الذي لا يقف به شقي. وبينما يمشي ساهما متبتلا يصطدم بالسائق. في تلك اللمحة سمع أزيز سيارة المياه ينبعث من القبر. ورأى صورة لم تعلق بذهنه جيدا لشخص في الأربعين. وقف منشرح الصدر في حال هيام. لقد بدت الأوراق تتكشف. سيده حاكم الإقليم. هذا عمله في الحياة البرزخية. يحكم كل الصحراء الشرقية إلى حلفا وحدود السودان. ومعه حكومته الباطنية. هذه التي إذا غضبت على أحد ، غضبت عليه حكومة الدنيا. خطوة للخلف لاستقراء القدر. ويدعو الحاج علي أن يرزقه الله صحبة ملائكته، ويسلم على سيده وينصرف. لقد خرج من المسجد والسائق خلفه. عرض عليه النزول معه للمدينة مع نوبته بعد ساعة فوافق ولم يتردد. إنه لا يعرف أحدا هناك، و لا يعرف لماذا وافق السائق؟. في السيارة سأله عن اسمه ولم يكن فارسا. لقد تمادى في سؤال الناس عن أسمائهم. عمال ال ( كافيتريا) الثلاثة، وشابان قبليان توسم فيهما الخير، وأغلب هؤلاء الذين صلوا معه المغرب. ولما توقف السائق أمام مدق المنجم مع أحد سائقيه، سأله سريعا عن اسمه. دون أن يجد بغيته. ثم لاحت المدينة وأشار له السائق بذراعه ذات اليمين وذات الشمال. قال هذه المساكن وهذه الأسواق. وسرعان ما تركه عند المفارق ومضى.
بعد ساعتين من المشي بلا هدف ذهب الحاج علي إلى البحر. لقد تناسى الإسم الذي بات يزعجه. ويراجع نفسه فيما هو مقدم عليه. يظهر عكس ما يبطن أم يعرض؟. التقية حرام وفي التعريض مندوحة للكذب. لقد صار الرجل متجردا لأكثر من سنة. منذ خروجه للمعاش المبكر قبل سن التقاعد بخمس سنوات. ولا رغبة لديه في العودة للسبب. إن جنيهاته القليلة لن تحمله طويلا، ولا خوف ولا قلق. ثمة معاش تركه لزوجة ابنه الصغير بعدما ماتت زوجته؛ فلو احتاج شيئا وصله بالبريد في ساعة واحدة. وإذا فكر في البحث عن عمل، فمن هذا الذي يعمل لديه؟, وما العمل الذي يصلح له بدقة؟. إن إحساسه بالشباب لا يجعله يصدق عمره في كثير من الأحيان. أما إذا تعثر نومه واشتد القيظ، تيقن أنه على عتبات الستين. لقد تأخر الوقت، ولازال هناك من يتجولون على البحر. عمال بناء، وقاطنو المدينة، وأجانب. يسيرون على الحصى والرمل القريب من حافة الماء. منهم من ينزل لأمتار بعيدة دون أن يبلغ الماء منتصفه. ورذاذ كلام يتطاول لسمعه مع هبوب النسيم. لهجات يسمعها لأول مرة، ولغات يميزها من النطق وبعض الكلمات. إيطالي، روسي، ألماني، وانجليزي. أما الفرنسية التي يتقنها فما سمعها بعد. ينهض عن الحجر الكبير الذي يجلس عليه في العتمة ويشعل سيجارة. أنوار الشاطئ أمامه تسطع على الماء عدا البقعة التي يجلس بها. ويفكر في العادات المكتسبة الجديدة. لقد انعزل عن العالم. فلا هاتف ولا سوشيال ميديا ولا أخبار. عانى من ذلك وقتا حتى تعوده. الشمس القوية، الرطوبة العالية ،الجبال المرقطة، ندرة الماء والخضرة، اللون الأصفر، عدم الأكل والنوم بانتظام، وغياب الساعة البيولوجية. يضحك في سره وهو ينظر للسماء ويقول: وماذا بعد؟. ويهمس بأن الحياة كريمة بعطاءئها، وأن الفرص الثمينة موجودة في كل مكان ووقت. ثم تقترب منه امرأة لتشعل سيجارتها. ناولها علبة الكبريت وهو يتطلع إليها بعجب. كانت تتحدث الإنجليزية. رفيعة وطويلة وشعرها مثل شعر الولد. سألته عن عمله، فرد وهو يضحك عاطل. أخذت خطوة للخلف وراحت تعاينه غير مصدقة. هيئته لا تعني ذلك أبدا. إنها طبيبة بيطرية تشيكية في الخمسين وتقيم بالمدينة. ولما سألها عن طبيعة عملها جلست بجواره. كانت ترتدي فستانا خفيفا، ونظارتها الطبية والعتمة لم تخف ملامحها البرونزية الجادة. قالت أنا عضوة بجمعية الرفق بالحيوان بالإتحاد الأوروبي. وأدير مكتبا لها هنا بالمدينة. قال حسنا، لكن ماذا تعملين بالضبط؟. قالت أعمل على الكلاب الضالة. أعد لها الطعام والشراب حتى تؤنسني. ثم أحمل ذكورها للمكتب وأخصيها. قهقه الحاج علي وهو يصنع بكفه الأيمن علامة الإعجاب. سألها: وعملك هذا ليس تطوعيا؟. قالت نعم. ولما وجدته شغوفا لسماعها، قصت عليه تجارب أربع سنوات. ومن الكلاب إلى البشر إلى أصدقائها الأجانب. لقد اشتروا الشقق والبيوت ويعودون إليها كل عام مرة أو مرتين. ومنهم من مات ببلده وبيته أو شقته لازالت مغلقة. قليلون هم الذين استوطنوا المدينة لطقسها الشافي لأمراضهم أو لغرض إنساني. والأغلب سكنها لأجل الجنس. عجائز أوروبا الثريات يدعمن السياحة الجنسية. والشباب المصري حولهن كالذباب. ربما يزعجك ما تسمع، لكن الأمور هنا تسير على هذا النحو. وحين اطمأنت له، اصطحبته لشقة صديقتها الخالية
نزلا من السيارة ودخلا بناية على الكورنيش، وصعدا الدرج للطابق الثاني. وبعدما تفقدت معه أرجاء الشقة كمن جاء ليشتريها، ناولته هاتفا قديما مع المفتاح وهي تقول: حتى أجدك لو احتجت إليك، وسرعان ما ودعته. . في هذه الليلة سكن وارتاح. ربما لوجود الجدران والأبواب و العودة للنسبية بعد الإطلاق. فبمجرد راحته في السرير شعر بجسده بعد غيبة. أكثر من أسبوع ونومه كيفما اتفق. كأنه زائد على عالم لا حق له فيه. وال (بانيو) الذي تمدد به نحو ساعة، طرد أدران الأيام الفائتة. الآن يهنأ بمسكنه الأثير. صحيح أنه يتعامل مع جسده بصلف، إلا أنه يدعو له ويرهبه. مجرد خروج الأنين والزفير منه يمنحه الإحساس بوجوده. ولكم يشبهه بالقبر في بعض الأوقات. في تلك اللحظات يصب عليه وابلا من القهر، ويتوعده بالجحيم. وبعد أسبوع أغرق في النوم ودخل الحضرة. بشر لا حصر لها في ثياب بيض يتمايلون ويذكرون. أناس مصفوفة كخطوط الزرع في الحقل. وعلى إيقاع التمايل تهبط العبرات والظنون. ما كل هذا الحشد؟. وكيف يكون بينهم نساء؟. في ساح الذكر لا نساء ولا أطفال. لهؤلاء حلقهم وأماكنهم. يستمعون للذكر والدرس وهم بعيد. اللون الأبيض ينتشر في طول الصوان وعرضه، والبيارق الخضراء تخفق في كل موضع، وأوسمة تزين أكتاف ووسط المنشدين. إنها حضرة جامعة لا عامة، والحضور من كل القطر. ويرى في صفوف النساء الحاجة زكية. عروس تتطلع إليها النساء. ينظر إليها فرحا فتشير على ركن يتبعه. يمر بين أناس لا يعرفها، مشدوها وكلهم ينظرون إليه. وفي الرؤيا يفكر الحاج علي، وسرعان ما يتعجب. كيف يكون ذلك؟، لا يدري. ثمة وجوه من شدة نضارتها تخلبه. ينظر لأقربهم ويسأل نفسه: ترى من يكون؟. لابد أن الحاجة أشارت على الشيخ. لكن من أين جاءت كل هذه الأرواح؟. وهل جميعهم في البرزخ؟. يمشي وسط الصوان الشاسع ولازال الشيخ بعيدا. ثم يرى أناسا يعرفهم. الشيخ إبراهيم حمص، الأستاذ عبد الهادي الزغبي، وشيخه بيومي حمد، وكلهم في البرزخ. . يشعر كأنهم لا يتحركون أكثر من حركة الذكر. يحملق فيهم ويحملقون فيه، دون أن يصل أيهما للآخر. ودون إرادة منه يقف أمام شيخه.ينظر إليه ممتنا ويقول في سره: سبحان الله، هل هذا ميت حقا؟. يدفعه أحدهم بعدها ؛ فيسعي. و تأخذه تلك القشعريرة مع أنوار الشيخ. يشعر كأن قلبه ليس معه. ثمة خفقان لو ما اشتد عليه سقط. وحين يرى يقع عليه نظر الشيخ يسمع من يقول له: أنت معنا على طول.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire
Remarque : Seul un membre de ce blog est autorisé à enregistrer un commentaire.