في المدينة عدة قبائل أكبرها العبابدة التي تنتسب لعبد الله بن الزبير. ذلك الفارس الذي شرب دم حجامة النبي وهو صغير. لما كان عند خالته عائشة والنبي يحتجم. وحين انتهى ناداه وأعطاه ما خرج منه في جفنة وطلب منه أن يهرقه في ماء جار. لكن الطفل الذي رأى الصحابة يتهافتون علي ثأر رسول الله شرب الدماء ولم يهرقها. وحين أخبر النبي بصنيعه قال له: ويلك من الناس وويل الناس منك. وحين كبر كان فارسا مغوارا لا يشق له غبار. دافع عن عثمان بن عفان في حصاره، ورفض مبايعة يزيد بن معاوية. ولما توعده لاذ بالبيت الحرام. ورغم ذلك أرسل له يزيد جيشا وحاصره وما رفع الحصار إلا بموت يزيد. بعدها أعلن نفسه الخليفة وبايعته عدة ولايات عدا بلاد الشام. وبعد كر وفر قاتل الأمويين ومات شر موتة. هؤلاء العبابدة يسكنون الجبال والوديان، وأجسادهم السمراء النحيلة تساعدهم على ندرة الماء. يسكنون المدينة خلف منطقة الأسواق، وأمامهم مبني الاستخبارات العسكرية حيث العقيد محمد الذي يعرفونه أكثر من مأمور القسم. بيوتهم بسيطة الأثاث، وعاداتهم تهلك من لا يعرفها. أغلبهم يعشقون البرية ويعيشون بها، حتى إذا كان لهم بيت بالمدينة. تراهم في الصباح الباكر عند محطتي الماء العذب في السيارات. يملأون براميلهم سعة الثلاثين و الخمسين والمائة لترا، ثم يأكلون الطرق المعبدة أكلا مخلفين خلفهم سحابات الغبار. ثيابهم البيضاء دوما مغبرة، ورؤوسهم في الأغلب معصوبة ب"شيلان" كالحة. نظافتها لا تدوم رغم أنهم يغسلون الأبيض منها بالزهرة الزرقاء. وشبابهم الذي لم يعتد الجلباب، ذو شعر أكرت خشن يذهنه بالزيوت والمثبت. ترى هؤلاء علي المقاهي ليلا وعل الشاطئ وفي القرى السياحية. ومن كان له صاحبة من الأجانب، ينتظر خروج الأب في الصباح الباكر ويذهب بها للبيت. سمرتهم من النوع المحبب للنفس حيث أنهم مسالمون، ولا تنفر منهم إلا وهم يغضبون. إلا أنهم في شرهم يداهنون كالأبالسة. إذا جلسوا في حق ولم ينجزوه قامت القيامة. تدور المؤامرات كالرحي ولا يهم الوقت. فالأيام خوال والجبل واسع. والحق الذي يعود بعد سنة لم يتأخر. المهم أن لا يرى أحدهم الخصم وهم يقنصوه. وأيا كان الأمر فالمدينة صغيرة عليهم. يعيش بها القليل منهم والباقي في السهوب البعيدة وثنايا الجبال. ربما لا تعنيهم المدينة كمكان للعيش وإنما لصفتها الإدارية. السكن والصحة والتعليم والتموين، ومياه البحر المحلاة أربع ساعات كل ثلاثة أيام. إنهم لا يشربون ولا يطبخون بتلك المياه. لأن كثيرا منهم أصيب بالكلية. فقط يستحمون ويغسلون بها الملابس . أما الشراب فمن المحطات الخاصة. السعر للجالونات الصغيرة جنيها واحدا للتر، يقل مع الجالونات الكبيرة والبراميل. هذه المياه تأتي من النيل. سيارات تشبه سيارات المحافظة تنقلها لصالح أصحاب المحطات. ولهؤلاء العبابدة أملاك لييست فعلية. يزعمون ملكيتهم للصحراء التي يعيشون عليها. ولديهم بعض الأعمال المخالفة للقانون كالاتجار بالمخدرات، والتنقيب عن الذهب، وتهريب السلع والبشر. إنهم بدائيون وبسطاء. يفكرون بأيديهم أكثر من رؤوسهم. ولديهم أغان موروثة تسليهم في أوقات العمل الشاق. لقد ارتحلوا من الحجاز منذ عصور سحيقة. ربما قبل الانزلاق الأرضي للبحر الأحمر. لما كان الطقس مناسبا يجود بالمروج في الوديان. قبل يسوع وموسى، وقبل وصول الإسلام. حيث كانت الغدران والبحيرات تملأ المكان. والحيوانات البرية تتكاثر وتنمو لا يمنعها قيظ ولا جفاف ولا قلة أمان. فالضباع والضواري على كثرتها لم تمنعهم التوسع والانتشار. ومع تغير الطقس في القرون الأخيرة باتوا كمن يحيا على خط النار. فالمحافظة رغم جهودها لن تستطيع توفير مياه الشرب. والقيظ والرطوبة العالية قتلت الزرع وبعض سلالات الحيوان. وعمليات التعدين التي تديرها المحافظة أغلبها خاصة. شركات من ناس القطر وخارجه يعملون في المناجم وخصوصا الذهب. في حوزتهم أحدث آليات أنتجها العلم بهذا العالم. وعمالتهم المدربة تخلو عادة من هؤلاء البدائين. أما أعمال الخدمة اليدوية الشاقة فتراهم فيها أشبه بالتنين. يخلون الحجر المتناثر من سكك ال( لودر) والحفار. ويرشون مياه الأنبوب المالح فوق الردم لكي لا يبقي أي غبار. وإذا انصرف المسؤولون بعد دوام العمل ظلوا بالمنجم لحراسته. هم ملح الأرض ولا تكفيهم تلك الفرص السانحة لديهم. مما جعل كثيرا من تلك الأشبال يقومون بأعمال الحفر بما لديهم. لا أجهزة تقيس التبرونسبته بالصخر. والشاب الخارج للمجهول يريد المهر. يتوجب أن يتزوج حتى يتجنب العهر. يعمل في بقع غامضة كي يحتال. لا تشغله محافظة أو نفر من قوات الجيش المنتشر بكل مكان. يزعم أن الأرض بكل دفائنها ملك له. وفي الوديان يدق علامات عند حدود الملك. اقتسموا الأرض بما فيها وعليها مع وجود الجيش. ولضيق العيش وأهوال الجدب،يظل الواحد منهم مدفوعا خلف الغي إلى السجن أو الموت. لكن السلطة لا تتعامل معهم إلا باللين. تجتمع مع مشايخهم من حين إلي حين. تحصي مازاد من الأطفال وتصرف لهم التموين. تعرف منهم من غاب عن القيد ولم يذهب للتجنيد. وإذا طلبوا منهم شخصا حملوه إليهم دون نفير. وهناك عداء بين السلطة وبعض الأعراب. خانوا مرة، وخسروا ما كانوا يحوزوه من الإحسان. خسروا المنصب والتوظيف وغلق الأبواب المفتوحة لسماء الجاه. أولئك الأعراب يغيبون إذا كانت حرب عن الصف الأول. والزرع النابت منهم لا يسلم من بطش السلطة مهما يتطور. يبقي في الأوراق الرسمية تاريخ العربان. معروف من صان تراب الأرض، ومعروف من خان.
ومع ذلك تجد بين عبابدة الوديان سلاطين وسادة. يعرف كل منهم صاحبه بحظوته وزيادة. بشر إن أسعدك الحظ وصلت إليهم. خبروا حياة التيه وأسرار الملكوت انتظمت بين يديهم. لو أدرك أحدثهم ما عند الأقدم منهم، قد ينكر ما كان عليه. هم أهل الدرك وخدام الأرواح السائحة بكل التيه. من جاء من الأرض العليا أو الدلتا أو خط البحر المتوسط. يتصلون مع بعضهم البعض دون لقاء. فالإسم إذا قيل بتلك الحضرات الجامعة انطلق ضياء. مثل شعاع الشمس تراه قلوب الفقراء. شذرات الصحو أو النوم مع كشف الإسم تلم الصورة. تجمع وجها من أركان الأفق ببعض جزيئات منثورة. والصمت إذا خيم في الرأس انتصبت رايته المنصورة. هي دائرة مثل الأخرى المخصوصة للشر. إن وصلت تلك الأرواح المتعبة إلى شخص تقشعه جميع الأرواح. وإذا الروحاني أذاها أو أحرقها يعرف هيئته كل الأجناس. فبعد مرور الأيام المائة الأولى صارت ( سيمون) التشيكية لا تذكر أبدا ما كانت تعرفه عن الدين. أو بالأحرى صارت تتملص مما كانت تعرفه عن الله. وجدت أن بهذا العاطل ما يمنحه الجاه. أعطاها الهاتف منذ تعامله معها في اليوم الأول. ومع كثرة عزلته وتأمله لازالت لم تفهم كيف يعيش، ولا كيف يجيئ إليه الناس؟. في معملها يتحدث معها في التشريح بميزان حساس. ويمد الجفت إلى ندب في جلد الكلب المخصي، يمكن أن تزرعها لفك الخصي. مثل القتل المتعمد للجاميطات الأنثى في ضرع البقرة حتي لا تلد الأنثى. أو ذهن الضرع بأصباغ الكمياء لقتل الجامطات الذكر. في أول أمره معها حكمت بتوحشه. شخص وجداني إيلافه أصعب من حيوان الغاب. كانت تجري معه حجاجا ذهنيا وهو بعيدا عنها. وتغافله بمجيئ في أوقات الذروة. حين تظن امرأة معه تنشط في الشقة. تتصنع أحجية ساعتها، لا تقنعه البتة. ثم افترضت أن سقاما مهلكة أردته إلى الوحشة. لا يحمل بشرا مما عانى من ظلم الإنسان. عمدت أن يصحبها إلى الشاطئ أكثر من مرة والناس زحام. كان يضيع مع طاقات الماء، ويغطس للأعماق ويرجع بالمرجان. يحكي عن خلق ما كانت يوما تتصوره، ويمرنها على إشراق الروح بنهج البرهان. علمها أن تصل إلى أفق السموات السبع الموجودة في رأس الإنسان. ويقارنها بما في الكون، ويشرح فكرته عن إشراق الأرواح بمقياس الإيمان. كلمها عن أجهزة يمكن أن تنفعه ولا تدري إن كانت موجودة، أو أن العلم مع سطوته لم يأخذها في الحسبان؟ وبعد الأيام المائة الأولى ظهر المدعو فارس. حين رآه تذكر صورتة الباهتة على قبر الحاكم. سحنته السمراء وجسده الأشبه بملاكم. حمل رسالة من الوتد الساكن في خور الجوزاء. عمل لا يتأجل في عمق الصحراء. والسائق خلف المقود في السيارة معه دليل جاهز. في تلك الأثناء المشحونة باستكمال الهالات تراءت سيمون. تركت سيارتها خلف السيارة المنتظرة حد الباب. واعتذرت إن كانت جاءت في وقت متأخر دون ميعاد. هي دوما تأتي أنا شاءت دون ميعاد. لكن لهيئة هذا الصامت في تلك اللحظة أنوار وبهاء. فارس كان هناك بعيدا ينتظر من الحاج علي الأمر. فهو المرهون لخدمته بتلك الوديان مع السحن السمر. ويرتب أوقاته حتي يحمل عنه أعباء الصحراء. ومع الإلحاح ونظرات الإصرار انطلقت معهم في عمل لا يعلمه القائم به. يفهم مغزاه بدرب من إجمال لا يقنع به.
الوادي المطلوب السفر إليه هو وادي العلاقي، أكبر أودية الصحراء الشرقية بعد وادي الحمامات. مساحته على وجه التقريب 350 كيلو مترا، ومنابعه تبدأ من أرض السودان. أما نهايته فتصل إلى النيل قريبا من جسم السد العالي. السائق سلك طريق البحر ومعه الحاج علي وفارس ودليل الوادي. والمرأة المسكونة باستكناه المجهول تمشي خلفه في سيارتها وحيدة. تسأل وتجيب على أسئلة يطرحها الذهن وكانت موؤودة. وجدت أن تخبره قليلا لتعاونه فيما يرجوه ولا تفهمه بأي سبيل. حين رأته أمام الباب شعرت أن الرجل حزين. لمحت سمت الأب الروحي الظاهر دوما للمسكين.. هاجت في سموات العقل لديها أشرعة كانت مضمومة. جاءت ريح من هذا الشرقي وعصفت بالأفكار المذمومة. تخلع نهجا كانت تسلكه لنصف القرن وترميه من الشباك إلي البحر. تنظر كشافات الأعمدة بلمعتها على سطح الماء الأسود. وتفتش عما دفع غريب الأطوار إلى السفر بهذا الوقت إلى وادي العلاقي. وبعد حوالي الساعة تركوا طريق الساحل واتجهوا يمينا. دخلوا عبر طريق قطعي لرواق الوادي وغاب الأسفلت. القمر العالق فوق الأفق المترامي يثير الشك. يبدو ويغيب من الريح الهائج والسحب المتفاوتة العتمة. هذا أوان التغير لتلك الأوراق المتساقطة من الأشجار. ثمة رقع مزروعة وفي آخرها مبان. بشر لم يقشعها الركب يعيشون بتلك الأكواخ بشرقي الوادي. يسقون الزرع من الماء الجوفي ولا يحتاجون إلى النيل. حفظت تلك الأرض الماء المنهمر من السيل. ينزل فيها من قمم جبال وهضاب عدة، ليصير حياة في قلب العدم وعونا للإنسان. هذا أوان خريف الوادي ومع الإيغال بقلب الصحراء لاح إلى السمع عشير ضباع. سيمون تعلم بعض الأصوات لتلك الحيوانات المتوحشة وتميزها. لا تخشاها وقد ردت تلك الأصوات المتعالية لسببين. إما طقس تزاوج أو خوفا من كشافات السيارات. تبغي تلك المخلوقات سؤال المار عليها عن وجهته شأن عبابدة تخوم الصحراء. تحيا دون عقال حقا، لكن الإلهام يسيرها في تلك الأدغال. وغريزتها تضبط حركتها في نسق واحد لا يمكن أن ينهار. تحيا في تلك الصحراء قبيل جفاف الأرض وقبل وصول الإنسان. من عصر بائد كان مطيرا، جرفت فيه مياهه تلك الوديان.ثم انحسر الوادي وزادت ثنيات صخوره. ظهرت قمم تتعالى كأشباح عماليق. وهناك نبيب التيس البري يحض على الضيق. تسمعه من تعمل على منع تكاثر كلاب الشارع بيلوجيا ؛ فتصعد فيها نوبات التنهيد. هذا الصوت يكاد يغيب عن الصحراء الشرقية. فالحيوان المختال يعيش علي قمم الجبل ولا ينزل للوادي إلا للشرب. مرة وحيدة باليوم قبل غياب الشمس. ترجو لو وقف الركب وركبت تلك الأشباح إليه. صار زمان لم تسمع هذا الصوت أنا سارت. ولما انفرج الوادي وغابت تلك السحب الداكنة شعر الحاج علي كأن رزاز المطر تطاير فوقه. ظهر لبرهة في خديه ثم انتظم على كفه. نظر لكفه مدهوشا وتفحصه وما كان أي رزاز. . ودليل الوادي خلف السائق لم يصمت أبدا. عيناه اللائجتان تدوران بكل الأنحاء. ويشير على أعشاب شبت في الدرب دون لحاء. ويوجه رفقته في هذا الليل هنا وهناك. أما فارس فقد انتبه من غفوته بعد سؤاله عن رائحة الإنسان. قال كمثل العشب المبلول بليل الجبل الحار. كان الحاج قد اشتم وظن بقرب بيوت في تلك الجهة أو ذاك. واستحضر رؤيته حتى يتدبرها وينظر ما سوف يراه. وكأن التأويل لتلك الأحداث المرهقة دليل جنون. شاف عجوزا نام وقوفا في الجو. قدماه الواهنتان لا تبتعد عن الأرض لأكثر من مترين. عن هذا الرجل العالق جاء المكتوب من الوتد الساكن بالخور. ينكمش دليل الوادي ويهمي إلى السائق حتي يدور. قال هناك إلى أقصي الشرق مباني النجع.شيخ عشيرته ينتظر هناك من قبل العصر. وظهور النجمات السبع بغرب الأفق الآن يدل على همسات الفجر. وقف الركب وسار الأفراد الخمسة خلف دليل الوادي. ولما اقتربوا من الباب المفتوح وجمع الناس رأوا الأحزان تنادي. في هذا الوقت أحس الحاج رزاز المطر علي ذات الكف. همس إلي سيمون ؛ فنظرت في الأفق وما وجدت أي دليل. ونواح امرأة صم الآذان وجلب الوهن بقلب الليل. فارس سلم على شيخ النجع وأعطاه القنديل. كان الوتد قد أنبأه أن يصحب معه الضوء لأن الأمر هناك عسير. فالظلمة في تلك البقع القاصية من الجبل ثقيلة. والناس مع قلتها لا تركن في تلك الأصقاع لأي وسيلة. وقف يقاوم عجبه من هذا القادم وبجعبته امرأة بيضاء طويلة. تمشي ولا تكترث بعدم وجود غطاء الرأس. والنسوة لما جاء دليل الركب وفارس خرجت من صحن الدار. تركوا مريضا يشتد عليه الألم كألسنة الفيضان. خمسة أيام يتناوبه الأولاد مع الأحفاد وما جاء الموت. يجلس مفتوح الفم ويتأوه في عرض دائم. خمسة أيام ينتظرون خروج الروح من الجسد الغائم. وإذا حط الحاج بيده اليمني علي رأس الرجل العالق وتبتل بضع دقائق. همس لفارس اشغله ولا تتركه يغيب. ردد بالقرب من الأذنين يا حق يا مجيب. وما كاد يتم قهوته حتي أخبره فارس أن ألرجل احتضر ومات. في هذا الوقت انتفض النجع ووصل صراخ النسوة أقبية السموات. دخلت في نواح لم يمتد طويلا، وسباب لعجائز سبقتهم للحاج علي، لولا الواقف بجوار الباب كبيدق من فولاذ. دفع المرأة الأولى كمن يصرع رجلا، ورجال النجع ابتعدوا عن الميت لهزيمة هذا المتراس. خرجت أصوات منهم مثل عشير ضباع، والتفت الحاج لخطوات الوسواس. ثمة لعنة تضرب هذا النجع وللميت دخل فيها. ويفكر فيما جناه بدنياه ليردي فيها. لم يسمع قبل اليوم بميت ظل يموت لخمسة أيام. وعجائز هذا النجع المقتحمات الحجرة دون كلام. ناول سيمون شالا من شيخ النجع وأشار علي رأسه فاحتجبت دون سؤال. خرج وطلب من شيخ النجع وفارس ودليل الدرب بدفع الناس جميعا للساحة. ثمة نازلة من سجن الغضب انطلقت بعد خروج الروح . والهمز أصاب عجائز هذا القوم ونفخ عروق الأعراب. ركض الحاج إلى عريشة بوص ونزع إحدى قوائمها. كان يصيح بآخر عزمه، وصدي صيحته جعل العريشة دون قوائم. باتت تلك جذوع الأشجار الأربعة بأيدي رجال. الحاج يصيح بصوت كالرعد ويضرب من ظهر عليه الشيطان. وانتفض شيخ النجع وألسنة النعلة تصل لنسوته وبناته. كان حكيما وأصاب الهدف سريعا في ضرباته. يضرب في الركب وفي السيقان بحرفة كي ينبجس الدم. واهتم دليل الدرب لحاله بجميع رجال النجع. أقعى من سب وشتم ومن نطق بكلمات الكفر. بعض طلاسم وعزائم تحتاج أحط الأنفس كي تفتح بابا للشيطان. والحاج يزمجر ويريد لكلمات الله سماعا في كل مكان.
ساقته الأقدار لحالة لم يعرفها البتة. حالة مس شيطاني جماعي. لقد كوم ثلة العجائز وجرح منهن واحدة. وخزها في ساعدها برأس عصاه، ولم يتركها حتى شافت دمها. وإذا انكسر شر النازلة مع ضوء الشمس، تنفس الرجل الصعداء. بعد الظهر توارى الحاج علي مع شيخ النجع بهدف النوم. أوقف سيل الأسئلة لسيمون المتقدة من أسرار القوم. كم يرجو لو أغمض جفنيه حتى يفهم ما ينقصه الآن هي أحوال تأتي وتزول. صور يبصرها ويفهم منها ما كان وما سوف يكون. ومع ذلك فقليلا ما يبصر ما فكر فيه بشكل مخصوص. هذا الوقت يجود عليه بأكثر من غيره حين يلوذ. يشبه قبل الفجر في دقته ونضارته ترد الخضرة في العود. والفصل الفائت من عمر الصحراء تعلم منه صدق الوجد وشرب من أنهار خلود. وإذا أغرق في النوم يرى شخصا يعرفه واسمه طارق يحي. جاء على هيئة شرطي وبيده القيد. نظر بعينيه وذهب يقول: اتبعني دون كلام، تدري أو لا تدري، الأقدار الأقدار. وإذا دار بخلدك أن تسألني فأنت الجاهل. أنت وصلت لباب الملكوت فماذا تريد؟. تبغي أن يبقى الغيب شهادة؟. لو كان الأمر كما ترضاه فما معنى التأويل؟. أتريد لعقلك أن يتوقف؟. امش ولا تلتفت ولا أسمع صوتك حتى تعود. امتثل الرجل بما أمر وخرج من النجع مع الطارق. عيناه الساكنتان الغائرتان تبصان أمامه. ويحاول أن تنزل خطوته بحذو دليله. لا يعرف أمدا سقفا لحكايته، يستنفر قوته ويشد وتينه. ينتظر الرمي إذا لاح السر وللمكنون شجونه. يبهت لما ينكت طارقه في الصخر ويظهر بعض عظام. رائحة الإنسان يميزها ومن الشذرات استغرق في الأسرار. وإذا استيقظ فهم بأن الميت قاتل. أزهق نفسا من نجعه ولم يعرف أحد أين أخفاه. وزعه في أنطقة خمسة وتغطرس حتى ينساه. استيقظ مشدوها ينطق يا ألطاف الله. ظل يكررها حتى دخل عليه فتاه. أوشك أن يسأله عن الخطب؛ فقرص لسانه. نزل بفكيه عليه؛ فصار كمن ركب حصانه. يخشي أن ينهره ويأمره أن يهتم بباله. والمرأة الضاجرة انتظرت حتى يروق الحال. كانت تعرف أن الرجل المفرود على مرتبة من قش الأعشاب بحال هيام . لمست أن النفس ببعض الأحيان تخش على النفس الكلية. مثل القطرة ترجع للنهر وتسبح بروية. حست أن الروح بحق يفيض. يمكن في ظرف مخصوص أن ينتقل إلى شخص واهن ويقويه. و تضبط حركتها بحنكتها حتى لا تبدو واهنة مما كان. ظنت أن ليس بقدرتها أن تنزع عنها ما احتجبت به، أو هذا الشال. يتوجب أن تنتظر غريب الأطوار ليفعلها إن ظفرت به. وتمني النفس برجعتها من هذا الوادي. تهمس دون كلام: لن أترك هذا المخلوق بما بقي بحياتي. وإذا تراءى لها وسمعت ما يزعجها، حنقت من هذا البادي. وجد أن يبقى بالنجع قليلا حتى يخطره وتد الخور أن يرتد إلى الدرك العادي. ودليل الركب سيخرج معها حتى طريق الساحل. يخفرها في الوحشة بتلك الشيبة والعود الناحل. فالبشر بتلك الأصقاع تحورت كالعليق أو الهالوك. وجدت أن تتسلق من عبر بأرض تملكها ولا تملكها، ولو حتى يموت. سلطتهم موجودة رغم وجود السلطة. والتهريب الناشط عبر حدود البلدان يجعل كل جبان في حكم المفقود. يمكن أن يلحقه رجال الاستخبارات أو الحرس برصاصة. يطلقها من هبط من الجو بليل من قناصة. ولذا فالقتل لديهم صار أليفا بالعادة. ودليل الركب كعود السنط وإن ظهر بسذاجة. يعرف كل مدقات الوادي بكثبانه وجباله. والبقع الخضراء المترامية يفوت إليها من طرق ليست معتادة. ينقلك من البحر إلى النهر بشكل لا ينقصه أمان. ولديه من الحدس ما يجعلك تحار. إن أخبر عن شيء سوف يكون بوقت مخصوص كان. حتى أن رجال الاستخبارات وقبل المروحيات العمودية كانوا يستعينون به. هو يعرف كل الوديان الموجودة بالصحراء الشرقية. ولكم عاش بتلك المثلث الحدودي المصري الليبي السوداني. بين كهوف إنسان ما قبل التاريخ. لما الدنيا كانت غير الدنيا، والأسطورة كانت كالدين. قبل ولادة ذياك التاريخ وقبل خرافة أحفاد القردة والخنزير. ولما اصطحب سيمون إلى مدينة الشلاتين وعاد، أطرق الرجال الثلاثة مليا للحاج علي وهو يعدد ما يلزم النجع.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire
Remarque : Seul un membre de ce blog est autorisé à enregistrer un commentaire.