مِن المُؤكَّد أنَّ اللُّغة العربيَّة تُدِينُ باستمرارِ وُجودِها حتى بداية القَرْن الحادي والعشرين للقُرآن الكريم؛ فلولا القرآن لَمَا ظلّت العربية لغةً مُتماسِكة يتحدَّث بها أكثر من 240 مليون من البَشَر في العالَم أجمع.
ومن هنا فإنَّ علاقة اللُّغة بالدِّين من أخطَر القضايا وأكثرِها حساسية. وقد أسهمَتْ بعض الأفكار الجامِدة التي تقِف بالمِرصاد في وَجْه أيِّ تطوُّر في تَحنيط اللُّغة وعَزْلِها عن مُجاراة العصر.
وتَصُبُّ هذه الأفكار في قَالبٍ واحد وهو الرَّبْط المُباشِر بين العربية والدِّين.
ويزعُم أصحاب هذه الأفكار أنَّ العربية ليسَت فقَط اللُّغة التي نزَل بها القرآن، ولكنَّها لُغة الدِّين ذاته؛ وبالتَّالي فهي مُحاطَة بِقدسيَّةٍ خاصَّة ترفَعُها إلى مرتبةٍ تَجعَل المساسَ بها نَوعًا من أنواع الكُفر. ومن هذا المُنطلَق ظهرَت نظريَّةٌ تَصِف اللُّغة العربية بأنَّها لُغةٌ «توقيفيَّة» أي أنَّها مُنزَّلة من السَّماء؛ وبالتالي فهي مُتوقِّفة بِجوهَرِها عن أيِّ إضافةٍ أو حذْفٍ أو تعديلٍ بيَدِ البَشر.
وفي مُواجَهة هذا التيَّار ظهرَت نظريَّة أُخرى سانَدَها أصحاب العقل تقول: إنَّ العربية مِثلها مِثل باقي لُغات العالم، هي لُغة «اصطلاحية»، أي أنَّ الناس اصطلَحوا على كلِماتٍ ومَعانٍ من واقِع ثقافَتِهم وتَجارِبِهم المُتراكِمة، ووضعوا قواعِدَ لضَبْط لُغَتِهم.
وفِكرة قُدسيَّة اللغة وانتمائها إلى عالَمٍ يَسمو فوق مُستوى عالَم الإنسان، قديمة قِدَم التاريخ، فالمصريون في عصر الفراعنة كانوا يؤمنون بان اللُّغة"الهيروغليفية نفسها هابِطةً من السماء، وأنَّها كلامُ الآلهة.وقبلهم"السومريون" كانوايؤمِنون كذلك بأنَّ اللُّغة السُّومرية مُقدَّسة.
وهناك حضارات لاحقة أخرى ظنَّت كلٌّ منها أنَّ لُغتها ذات قدسية فالذين رَوَّجوا لفِكرة قُدسيَّة اللُّغة العربية لم يأتوا بجديدٍ ولكنَّهم ساروا على نَهج العديد من الحضارات القديمة.
وكلُّ هذه الأفكار حول قُدسيَّة اللُّغة لا أصل لها في القُرآن ولا في السُّنَّة. فهل يُفهَم من أيِّ كلمةٍ في القرآن أو السُّنَّة أنَّ العرَب هُم أفضل الشُّعوب؟ وهل يُفهَم من أيِّ كلمةٍ في القرآن أو السُّنَّة أنَّ العربيَّة هي أفضل اللُّغات؟ وهل هناك أيَّةُ إشارةٍ إلى أنه يَتحتَّم على كافَّة النَّاس تَعلُّم اللَّغة العربيَّة؟
فالقرآن نزَل بالعربية حتَّى يفهمه أهل الجزيرة العربية . مستخدماً الكلمات والتراكيب المفهومة من أبناء ذلك العصر وهذه البقعة من الأرض، والذين آلَت إليهم مسؤولية نَشْر الرسالة، وهو ما فعلوه بأمانة بعد الرسول في عصر الخُلَفاء الراشدين، ثم الأُمويِّين، ثُمَّ العبَّاسيِّين في عصرهم الأول. والقرآن نزل لكل أبناء البشر في كلِّ بُقعةٍ من بِقاع الأرض، لكنَّه هبط في مكان وزمان مُحدَّدَين، فكان لا بُدَّ من أن يفهَمه العرَب أولًا، يفهمونه باللغة التي يَعرفونها وبأمثِلة من البيئة التي يعيشون فيها.
فجاءت أمثلة القرآن بالبَقَرة والنَّاقة والصحراء وغير ذلك. ولم يُعطِ أمثلةً بالطائرة، والأقمار الصناعية، وناطِحات السحاب مثلًا، ولو نزل القرآن باللُّغة الآرامية مثلًا لما فَهِم معانيه أهل مكَّة والجزيرة.
والقول بأن العربية لُغة «توقيفية» أي مُنزَّلة من السماء، وبالتالي فهي لُغة مُقدَّسة لا يجوز المساس بها، هو قول يُناقِض في رأيي صحيح الدِّين الإسلامي؛ فلو كانت العربية مُقدَّسةً وتسمو فوق كلِّ لُغات العالَم لكان العرَب قادِرين من خلال استِخدام هذه اللُّغة على البلوغ إلى ما بلغه القرآن من إعجاز. فالعرَب في عصر الدعوة كانوا مُتمكِّنين من العربية تَمكُّنًا مُدهشًا، وكان بينهم ملوك البلاغة والبَيان من فطاحِل الشُّعراء والرُّواة، وقد تحدَّاهم القرآن في أكثر من آيةٍ أن يأتوا بآيةٍ واحدةٍ مُشابِهة لكلام الله فعَجزوا عن ذلك.ولو كانت العربية مُقدَّسة فما الذي أعجَزَهم؟ لو كانت اللُّغة مُقدَّسة وهابِطة من السماء لكان الإعجاز في ذاتها، ولكان العرَب قادِرين بالتالي على الإتيان بمِثل ما جاء بالقرآن، لكنَّهم فشِلوا فشَلًا ذريعًا؛ فالإعجاز إذًا في القرآن وليس في اللُّغة.
وقد وقعت مُعجِزات ذَكَرها القرآن من أهمِّها قصَّة عصا موسى، التي التَهَمَت ما جاء به سَحَرة فرعون. فهل يُمكِن أن نعتبِر عصا موسى مُقدَّسة، وأن كلَّ عصا في الدُّنيا تنسَحِب عليها صِفة القداسة؟ بالتأكيد لا، فعصا موسى كانت مُجرَّد أداة لمُعجِزة أرادَها الخالق، لكن المُعجِزة ليست في ذاتها، كذلك فقد كانت العربية أداةً لمُعجِزة القرآن.
وقد أدرك العرب منذ البداية أن القرآن، وإن كان بالعربية، إلَّا أنه ليس من لُغتهم. وكانوا يقولون: ليس بنَثْر وليس بشِعر. وقال أنيس الغفاري وهو شقيق أبو ذر: عرضتُ القرآن على السَّجع والشِّعر والنَّظم والنَّثر، فلم يُوافِق شيئًا من طرُق كلام العرَب.
هذا مع أنَّ القرآن استخدَم المُفردات المعروفة لأي عربي في البادية آنذاك، وكان مفهومًا تمامًا للجميع، لكنه جاء بشيءٍ غير موجود في اللُّغة ولم يستطِع أحد تقليده وقتَها أو بعد ذلك.
وكلُّ هذا يؤكِّد لنا أن الإعجاز ليس في اللُّغة العربية وإنما في القرآن وحده، فكيف نقول إن العربية لُغة مقدَّسة؟ ومُحاولة إحلال الإعجاز القرآني في اللغة التي نزل بها هو خلْط لا يُسانده المنطق ولا صحيح فَهم الدين. لقد نزل الدين الإسلامي لكلِّ البشر في كلِّ مكانٍ وزمان، وكان من المُمكن أن يتنزَّل بالتالي بلُغة غير العربية، وكان إعجازه عندئذٍ سينبُع من ذاته وليس من اللغة التي نزل بها.
ولو كانت العربية لُغةً مُقدَّسة لكان الدين الإسلامي للعرَب وحدَهم وللذين يُجيدون لُغة الضاد دون غيرهم من البشر. وهذا يُناقِض صُلب الدين الإسلامي الحنيف. ولو كانت العربية مُقدَّسة فإنَّ من لا يفهمها لا يكون مُسلِمًا كامل الإسلام والإيمان.
وهذه الفرضيَّة تُخرِج من زُمرة المسلمين الغالبية العُظمى من الشعوب الإسلامية، كما أنها إجحاف لمئات الملايين من المسلمين الذين لا يُجيدون العربية.
فلايتناسب الجمود والحركة ، ولا "الاصولية" والتطور ، فالاولى تتطلب التسليم بالماقبليات المعرفية كثوابت راسخ لاتتغير ( عابرة للزمن ) ، اما الثانية فتتطلب التحرر والانعتاق من كل قيد او كابح يمنع سيرورتها في سبل التجدد بما يواكب ويتناسب مع تجدد اشكال الحياة وهو امر تفرضه صيرورة الحضارة الانسانية وتطورها المستمر.
فلاتطوير من غير تنوير ، ولاتجدد دون تجرد العقل من قيود الممنوع ، وهنا تأتي جدلية ( الثابت / المتحول ) لتحكم مفهوم التطور وتحدد حقيقته كفعل مغيّرٍ للاشياء نحو التماهي مع الواقع الآني المنفتح على المستقبل .
واللغة من اختراع العقل البشري ، كوسيلة تعبيرية تواصلية مع الاخر وفق آلية :
مخاطِب ـــــ خطَاب ـــــ مخاطَب / في سياق دلالي زمكاني
لتسهيل نقل الافكار والمشاعر بينهما (بتبادلية ادوارهما ) ، فاللغة اوجدها الانسان لتخدم غاياته الحياتية الجمعية ( فلاحاجة لها دون وجود مجتمع ) ، لا ان يخدمها ويسهر على الحفاظ على اصولها من ان يمسها اي تغيير او تهذيب تتطلبهما مواكبة روح العصر، فمازالت الغالبية من المعنيين بالشأن اللغوي العربي من باحثين واكاديميين واصحاب الاطاريح الجامعية ... الخ، يبذلون غاية جهدهم للحفاظ على "تراثية" اللغة ، ويوقفون جلَّ اهتمامهم على ابقائها في حصنها الاصولي الحصين ،ويرفعونها حد التقديس ، فيرمون من ينبري لتحديثها بالزندقة والهرطقة ، ليس له غير المحرقة ، جزاء كفرانه الاثيم !!
اوليست اللغة مادة التفكير ، وآلية الاشتغال العقلي ؟ ، اليست العلاقة بينهما ترابطية متكاملة ، فاذا مانمى احدهما نمى الثاني ، والعكس بالعكس ؟ فلماذا حين ينمو العقل بفعل تغير الواقع المعاش ( ولهذا اكثر من سبب يفرضه التقدم الحضاري الانساني) ،تثور حفيظة اولئك المتعبدون في "معبدها" العتيق البناء، ويصرون على بقاء العقل دائراً في فلكها بلا انفكاك ؟ محظوراً عليه الانعتاق من صورها الذهنية( في زمن تراسل الحواس ) ومرجعيتها المعجمية( وقت تعددية مدلولات الدال) وضوابطها الاملائية ( لاادري مثلاً لماذا الحفاظ على واو"عمرو" والف "مائة" رغم انهما لايلفظان ؟ ونحذف الف "هذا ، هذه ألخ" مع انه يلفظ )، وغير هذا من الاصوليات اللغوية .
لقد غدت العربية لغةالعديد العديد من ابناء الشعوب من غير امة الضاد فهل اوسعنا في لغتنا مساحة للسان هؤلاء ؟ بله لسان اقوام تضمها امتنا بين ظهرانيها غير عربية الاعراق كالكرد والامازيغ وغيرهما؟ ام اننا امة نلجأ لدكتاتورية "التعريب" على غرار "التتريك" و"الفرنسة" مع هذه الاعراق؟، لااريد هنا سوى ان اؤكد ان لسان الامة اكبر من لغتها الرسمية ، واهمال التوازن بينهما جعل من اللغة العربية لغة نخبوية لايتم تداولها الا في صفوف الدراسة وقاعات المؤتمرات، اما في فضاءات الحياة العامة فتسود "اللهجات" المحلية حتى انها اقتحمت جدران مااسلفت ذكرهما من اماكن ، بهذه الدرجة او تلك .
لكي نكرم لغتنا علينا الاهتمام بتحديثها ، فإن تقاعسنا اليوم ، فستضعف غدا ( وقد سلف )،كرباط هوياتي يوحد ابناء العُرب ، فالزمن لايعرف الانغلاق ، ولايأبه ب"تقديس" ما يخترعه البشر.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire
Remarque : Seul un membre de ce blog est autorisé à enregistrer un commentaire.