jeudi 3 novembre 2022

رواية آلام الخلاص:ج 11"نداج روبير " // أحمد البحيري // مصر


فى بداية سبتمبر استبد بيوسف حال الحارس الطبيعي على الأرض. وفيه يصطف مع كل ما يدب عليها ويرعاه، ولا يفكر فى قنصه إلا إذا ثبت ضرره. لا فرق لديه بين الحيوانات الأليفه أو مفصليات الأرجل والذباب والضواري. لقد عجزت وحدة العلاج الطبيعي بمستشفى (سيرجى بونطواز) عن تفسير ما يشعر به من ظواهر تخص الأرض. كما عجزوا عن تفسير علاقته بالفرسة والكلاب الثلاثة. بلغ عمره خمس سنوات وتسعة أشهر، بينما جسده لشاب يقترب من الثلاثين. وأغلب ما درسته وحدة العلاج الطبيعي عن سلوكه لم يأت بنتيجة. لقد صارت ألفة بينه وبين الفرسة، قلما تجدها بين البشر. ياكل معها ويظل ينظر إليها إذا حطت على الأرض بقوائمها. عيناها الواسعتان تدمعان وهى تقاوم الوسن. ولو رأى ذبابا يقترب منها وتنشه بذيلها فى ذاك الوقت، ود لو أكله. يبقى يوسف مترددا عليها طيلة اليوم كمن يراقبها تحت الشمس. يدخل الحظيرة باليوم أربع مرات على الأقل. وذات مرة يركبها ويخرج فى ثبات الفارس. نداج ما عادت تقلق عليه فى ذاك الخروج المفاجئ. ولا استطاعت أن تخمن كيف تسيرمعه الأمور. فى كل مرة لا تشعر به وهو يخرج. لا تراه حتى تسمع حوافر فرسته على الأسفلت أو الطريق المعبد بالحجارة. وتمنى نفسها أن تفاجئه في المرة القادمة. ولما تعبت ربطت خروجه هذا بتنقل الظل. الناس ترى الظل يزيد وينقص، ولا عين تدرك لحظة ذلك. والأماكن التى يتوغل فيها لا اختيار له فيها. الفرسة تأخذه كل مرة إلى مرج جديد. لم تبلغ المرج حتى تصول وتجول على رسلها حيث شاءت. وبعد المخاطر والصعاب، حيث لا يخلو الأمر من ذلك، تبلغ المرج على سبيل المكافأة. وحدة العلاج الطبيعي التى أدركته بضع مرات حاولت تغيير مسار الفرسة دون جدوى. وجدوا كأن للفرسة إرادة هى عين إرادته. نداج لم تتدخل بعمل الأنثربولجى بالوحدة، رغم أنه تخصصها. التفسير والتعليل والفرض والتكهن لا يعنيها مع ولدها. فقط تفهم أين هو وماذا يريد، وتساعده أو تمنعه. لقد صار يوسف رجلا ضخما يتلألأ وجهه كالبدر. ومنذ صار كذلك ازداد الحمل على موسى. فى المنع كانت تستطيع دفعه وهو صغير. ولو حاولت الآن لما استطاعت تحريكه. نداج تنتظره في الطابق العلوى وتضحك. لقد نام موسى ونامت الخادمة وكفت الكلاب عن النباح. لا تعرف أين ذهب وما عادت تخبر وحدة العلاج الطبيعي بخروجه حتى لا يتبعوه. الشيء المؤكد لديها، أن حاله يتغير فى أعقاب ذلك. تنظر نداج أمامها فى الفضاء الذى تكسوه الأشجار بحثا عن أي إشارة ضوء. والصمت الذى تغلغل فى روحها جعلها تستشرف البعيد. لقد بلغت الواحدة صباحا. ست ساعات لا تعرف أين قضاها وما عاد يشغلها. وإذ يقع بسمعها سنابك الفرسة وهى بالدرب المعبد قبل بلوغها الأسفلت، تنتشي وتمتلئ بالحياة. كانت نداج أمام الباب لدى عودته تنظر إليه مشجعة ووجهها متهللا بالفرح. حياها تحية الفارس قبل نزوله عن ظهر الفرسة وسحبها. ولما وصلا الحظيرة ساعدته فى تنزيل السرج والمهماز، وتركته يربطها في المذود، ثم تأبطت ذراعه وصعدت معه الدرج. تركته يدخل غرفته وحده بعد هجره لها فوق أربعة أسابيع. غابت ربع ساعة تزرع الحجرة جيئة وذهابا وتنظر لزوجها النائم، ثم تسللت على أطراف أصابعها تنظر لباب حجرة ولدها. فقط رأته مفتوحا ودخلت إليه والفرحة تتمدد فى حشاها . لقد تغيرت سيماه كثيرا فى هذه الدقائق القليلة. خلع الملابس الرثة التى كان يرتديها، واستحم ورتب شعره الأسمر الرطب. ولما رآها تدخل وقف لها حتى جلست ثم جلس. نظرات نداج وابنها تقول كل شيء. لم يخطر ببالها أبدا أن كلامه كان يزيدها به معرفة. وتغبطه لما تفكر في الهوية الصلبة. كيف يكون المرء هو ذاته دائما؟ كيف ينجو من المؤثرات الداخلية والخارجية ؟ إخفاقه وانكساراته، وتأثير الميديا والأيديولوجيا والتوجيه!!. ولدها لا يشعر بالضعف أو التهديد ولا يعرف معنى التقهقر. كل ما يحدث في العالم لا يمثل له أي شيء. لا تشغله الفواجع ولا حوادث القتل أو الانتحار. لقد نجا من تفجير النفس البشرية وصار الشخص ذاته منذ ولادته. تكسو نظرة نداج مسحة طوباوية لصغيرها الضخم. لا يكف أمامها عن التمثيل والحركة. وكلما عقلت شيئا حيته تلك التحية التى يحبها. تضع كفها الأيسر مفرودا على قلبها وتحنى قليلا رأسها. إنه يقص عليها أين كان؟ وماذا صنع في الساعات السبع التى ترك فيها البيت. وإذا ازدادت إيماءاته وقل فهمها، ضيقت ما بين عينيها الخضراوين، حتى يحتضنها ويضحك. بعدها يحاول أن يقول ما لم تفهمه بكلام آخر. وكلما تقدم فى الوصف نظر إليها تلك النظرة المتسائلة حتى يسترسل. والإ عاد يشرح ويفسر لتفهم ما يقول. لقد دخلت الفرسة غابات بولونيا وما استطاعت الشرطة منعها. بقيت تتبختر بعد دخولها من البوابة الرئيسية وتمشى على مهلها. وبعدما تفقدت المبانى والجزء الذى يشغله الناس، أخذت طريقا بين الأشجار واسرعت. أشجار الغابة عالية وكثيفة، وزراعتها منتظمة في خطوط. كانت الفرسة تسارع فى ركضها كلما تقدمت وأوغلت. وكانت تصهل إذا تشممت أثرا التقطته من أوراق الأشجار الميتة. وكانت تترك ممشاها إلى غيره، بين وقت وآخر. وهناك خلف تلة كبيرة، وجد يوسف ما كانت تبحث عنه. ثلاث بنات فى طور المراهقة ضللن الطريق بالغابة وفى حالة مزرية. نزل يوسف والتقطهن وهو يضحك ويقبل الفرسة من خطمها وعينيها ، وسرعان ماعاد بهن إلى البوابة الرئيسية. ظلت نداج تسمعه وهو يحكى حتى تمدد فى سريره؛ فخرجت على أهداب الصمت وتركته لينام.
***
ثمة تحد بين نداج من جهة ونتالى وسوغولين
من جهة أخرى منذ أكثر من عام، حسمته الليلة أخبار الثامنة. جون بيير جوييه تقدم باستقالته للرئيس. كانت نداج تشاهد الأخبار وأسرها ما رأت؛ فقبلت موسى بعدما تأكدت أن هذا الوجه الكريه سوف يغيب عن الاليزيه. ولما رآها يوسف قلدها دون أن يسأل عن السبب. الرئيس الأسبق للحزب الشيوعى كتب على صفحته ب( تويتر) تدوينه قصيرة، بارك فيها إعفاء جوييه. فقط قراتها نداج ودونت أخرى تحمل المعنى ذاته. إنها تحن دوما إلى تكوينها الفكرى، وكم كانت تتوقع ذلك. فزعيم الماسونية يستطيع العمل مع اليمين واليمين المتطرف، أما اليسار واليسار المتطرف فلا. لقد راهنت على ذلك منذ عمل جويية مستشارا لهولاند، واتصلت بصديقتيها حين سمعت الخبر، ثم راحت تتحدث مع موسى فى عاقبة هذا الإعفاء. صحيح أن دراستها في تاريخ وجود الإنسان منذ ظهوره على الأرض، غير أن هذا التاريخ لا ينفك عن التاريخ الدينى أو العام البتة. الفكر اليساري الذى يدعم الأقليات ويحافظ على خصوصيتها يعارض الماسونية ولا يقبل بها إلا تحت ضغط شديد. هولاند استطاع رفع هذا الضغط عن كاهله وكاهل الجمهورية. عاين موسى فرحتها واشراقة يوسف؛ فأشار لهما ونزل أمامهما الدرج. كان كمن يغازل زوجته ويود الاحتفال معها. والخادمة أعدت الطاولة على عجل وجلبت ما اعتاد كل منهم عليه.. وبعدما جاءت بالقهوة السادة لموسى واشعل سيجارته ال ( لاكى استرايك) في الهواء الطلق كما اعتاد مؤخرا استدرك بقوله: ترى هل هى إقالة أم استقالة؟ مالت نداج بكتفها على كتف ولدها وقالت فرحة: أيا كان الأمر، المهم أن ما توقعته حدث. هولاند كان نافذا منذ عجز ليونيل جوسبان عن الوصول للحكم. أنت تعرف كم عانى فى إعادة هيكلة الحزب. كان قريبا من الصين وروسيا طيلة الوقت. ظني أنهم زرعوا زعيم الماسونية فى مكتبه ليعرقلوه، لكنه أفاق أخيرا. قال موسى وهو يحيي يوسف تحية الفارس بعدما طلبها: أفاق بعد خراب الجمهورية، بعد تفشى الإرهاب وذوبان اللحمة الاجتماعية إنها أدوارهم واجندتهم المفروضة على هولاند ومن يشبهه. فما بالك بالعالم الثالث ؟ وضعت نداج فى فنجانها قطعتى سكر وأحتست منه قليلا وراحت تقول: كانك تؤكد أنها استقالة. قال موسى: نعم؛ فهذا ما أراه جوييه كان ينتظره ولما أضعفه ووضع بطريقه المتاريس، تركه ومضى. قالت نداج: ربما تكون على حق. جون بيير جوييه يدعم الشيء ونقيضه. اليمين واليسار، الإيمان والإلحاد، والشذوذ والعفة. بهذه الطريقة تصير المسافة إلى ما يريد جد قصيرة. قال موسى وهو يتبسم بوجه يوسف: كلامك صحيح، لكن ما يريده لا علاقة له بالإيمان أو العفة؟ ردت وهى تشيخ بيدها وتضحك: لا بأس؛ فكثيرا ما يخوننى المثال في الاستشهاد. ولما رأت الخادمة تمشى على مهل وعلى كفيها طبقين من الحلوى وكوبا من العصير، قفزت إليها وعاونتها. نهضت نداج وما عادت ترغب في الجلوس. ظلت تتحدث مع موسى وتلعب مع ولدها بتوازن مدهش. يدوران حول الطاولة، وكلما مرت خلف زوجها همزته فى جنبه، حتى نهض وابتعد. لقد حدس موسى ما خطر بقلبها، وصار يشعل مرثونها مع ولدها وهو يضحك. راحا يتسابقان من الطاولة حتى آخر السياج النباتى، ومن وصل أولا دهس الآخر على أرض الجازون. ولما اتصل به فريدي وأعطاه أمر عمل الغد، تركهما يلعبان وصعد إلى مخدعه.
***
فى الثالثة من عصر اليوم التالى حضرت نداج مع يوسف واحدا من سلسلة أفلام هاري بوتر. لقد رأت معه بالسينما حتى الآن أربعة أفلام من هذه السلسلة التى تعجبه. وكلما قارنت كم كان عمره وطوله ووزنه فى كل مرة، أصابها الدوار. لقد صار وزنه اليوم واحد وتسعين كيلو جراما، وطوله متر وست وثمانين سنتمترا. ولولا بنيانه العظمى الثخين لما تحمل جسده النمو المفرط. كما صارت خطوته متئدة حذرة تتطلب أن يزوى كتفاه وهو يمشي. كمن يظل مطرقا إلى شيء ما فى الأفق طيلة الوقت. الفيلم يتكلم عن السوبر مان أو الإنسان الخارق. نداج تركت سوبر مان ( جوان رولينج) ليوسف، وسرحت فى سوبر مان نيتشه. كل الأفكار لدى نداج تحيل إلى نيتشه. يعود يوسف برأسه الضخم إلى توسد صدرها. ويده لا تكف عن تناول البسكويت والشوكولا وشرائح الشيبسي من الحقيبة. وكلما أفرغ عبوة رفع يده بها، لتلتقطها الأم وتضعها بحقيبة المهملات. يوسف يفرح وهو يرى السوبر مان يطير. هو يعقل أن الإنسان لا يطير وربما فكر أن يطير من قبل. واحيانا يضرب قدمه فى الأرض إذا صار بالقصة ما لم يتوقعه. بينما نداج تتعجب من مقدرة نيتشه على استدعاء نبى الفرس القديم ليصف للإنسان طريق كماله. فى هكذا تكلم زارديشت تحدث نيتشه عن الإنسان الأعلى. ذلك الذى يتعرف على أخطائه ويعترف بها ويحاول علاجها، وينبذ كل ما يقف عقبة فى طريقه. ذلك الإنسان الذى يمتنع عن تناول الخمر ويحافظ على معدته ولا يثق في غير قدرته على الفعل. تشرد نداج مع إنجيل نيتشه كما تسميه، وتتذكر زوجها الذى استحوذ عليها من دون الرجال. تقول بأن الإنسان الأعلى لدى نيتشه هو الإنسان الكامل لدى موسى. ثم تسأل نفسها: أذا كان الأمر كذلك فمن أين جاء وصف نيتشه بعدو الدين وشيطان الفلسفة؟ فى هذه اللحظة يقهقه ولدها دون صوت ويضرب قدمه بعنف فى الأرض. تنتبه نداج من ضجيج المتفرجين الذين يجلسون حولهم وصياحهم. دقة قدم يوسف فى خشب الكرسي تحته كان قويا هذه المرة. تداعبه نداج وتسأله عن الخطب بإيماءتها المعهودة؛ فيشير على الشاشة أمامه. تنظر لترى السوبر مان وعليه شبكة صياد تمنعه من الطيران. تفرغ رأسها مما يشغلها وتفرد ذراعها الأيمن على جنب يوسف حتى تشعره أنها معه. تنتظر قليلا حتى تأتى حبيبة البطل وتخلصه من الأسر. تقول لولدها إن الحب هو ما يجعل من الإنسان سوبرمان، كما يجعله مواطنا عالميا. الحب يجعل كل مستحيل قيد الإمكان. يوسف يزيح رأسه الضخم عن صدرها ويقبلها من خدها. لقد مرت ساعتان ونجا البطل وأوشك الفيلم على الانتهاء. ولما جمعت نداج أغراضها، نهض وسار أمامها، حتى خرجا من السينما قبل نهاية الفيلم بقليل.
فى البيت سحبت نداج موسى لطاولة نيتشه. كانت تريد عرض ما خطر ببالها عليه، ثم استرسلت ورسمت له بورتريها مدهشا. انتظرت موسى حتى فرغ من الكتابة وتمدد على صوفة الكنبة البيضاء التى لا يكتب إلا عليها. ثم أفسحت بين ساقيه لتضع رأسها فوق صدره، وتصير عيناها في عينيه. وبعدما قصت عليه يومها ويوم يوسف راحت تنشد من شعر نيتشه:
( أنى أريد أن أعرفك أيها المجهول
أنت يا من نفذت إلى صميم روحى
ويا من تمر على حياتى مرور العاصفة
أنت يا من لا يدركك شيء
ومع ذلك فأنت قريب منى وأنا منسوب إليك
أريد أن أعرفك وبنفسي أعبدك)
سألها: أحقا هذا شعره؟ ردت: نعم
سألها: كم كان عمره وقتها؟ ردت: عشرون عاما.
قال: كان بريئا لم يتفلسف بعد. قالت نداج: أحداث حياته كانت حادة وخطرة. فى بدايته كان فى غاية البراءة، نعم. اعتزل العالم وراح يتفقد الطبيعة بحثا عن الله، وعن مبادئ الإنسانية ومعنى الحياة. بعد دراسته للبكالوريا درس فقه اللغة واللاهوت بالجامعة مقتفيا أثر والده القس. وبعد فصل دراسى ترك اللاهوت إلى الفلسفة. عمل بجامعة بازل أستاذ ( لانجوستيك), ومع أول اصداراته هاجمه الفلاسفة المعاصرين دون استثناء. فى تلك الفترة جرب الانهيار النفسي لأول مرة لانصراف الناس عنه حتى أقرب المقربين، مما دفعه للاستقالة من الجامعة وهو فى الخامسة والثلاثين. لكن الفلاسفة اللاحقين ك برتلاند راسل ودولوز وسارتر قد أنصفوه واعلوا من قيمته. حتى فى الحب لم يكن محظوظا. أحب امرأة واحدة وطلب زواجها عدة مرات دون أن توافق. مسكين، ماذا لو تزوجته سالومى؟. فى هذه اللحظة حملق موسى فى عينى نداج الخضراوين، واقترب بأنفه الكبير من أنفها الدقيق وقبلها من شفتها السفلى. كانت منتشية وهى تدفع عن نيتشه الغبن وسوء الفهم؛ وانتقلت نشوتها إليه. حملها من جذعها حتى صارت فى مرماه، وراح يعاين تضاريس جسدها كأنما لأول مرة. كانت تستجيب لحضنه وقبلاته وتبادله الوصل حتى داخت. حمل ذراعها الأيسر إلى رقبته، واعاد القبض على جسدها؛ فافاقت مغمضة العينين تضحك. حاول فتح عينيها؛ فتسلقت كتفه بذقنها واحتجبت عنه. قال وهو يتحسس ظهرها: ماذا ؟ ردت بصوت متقطع من الضحك: دائما ما تحل مشاكلك هكذا. سأل وهو يقرصها من ظهرها: لم أفهم؟ عادت إليه برأسها وهى تقول: كلما اختلفنا فى شيء تنهى النقاش هكذا. أعرف أن حديثى عن نيتشه لا يروق لك، سايرتنى قليلا ثم أغرت علي. حين أزعل أو أغضب منك لا تنتهى ليلتنا إلا هكذا. حتى يوسف صار يعرف طبعك ويتعمد أحيانا تقويض مخططك. قال وهو يمد يده لعلبة السجائر: لا أعرف. ربما تكونين على حق. هذه أمور لم أفكر فيها أصلا. لكن ما معنى ذلك؟. قالت نداج: معناه أنك رجل شرقي يعيش بالغرب كما يعيش بقريته. تصوراتك التى أتيت بها لازالت سارية. الشرق يعنى الفتوة والسحر والشمس المشرقة، والغرب يعنى الجمال والبرودة والتحرر. ومهما كان عالم الأفكار خارج ما تعتقد، تستطيع تقويضه بالجنس. انفجر موسى بالضحك وقال وهو ينهض من حضنها: أنت مجنونة؟. قالت وهى تحرك حاجبيها: ربما. رمى السيجارة التى لم يشعلها ونظر إليها وهو يحرك حاجبه الأيسر فقط ويقول: لا لا، ليتك تعيدين حتى أفهم. قالت بعدما وقفت أمامه: صدقنى لا أستطيع . ربما أردت أن أقول أنكم معشر المشايخ تعلمون نساءكم الحكمة. ولما عادا لسيرتهما الأولى وداخت نداج في يده، ما أفاقت حتى ازهرت في كل الفصول.
. ***
فى مساء اليوم التالى استعدت نداج لزيارة ديديه وغيدى وراشيل. منذ تركت الجامعة وهى تعمل سكرتيرة لدى زوجها وولدها. نحو أربعة أعوام لم تشعر بحاجتها للعمل خارج المنزل. كانت عرضت على زوجها اقتراحا شاع بالمدينة بين المتزوجين من الموظفين. إذا كانت الحكومة تعطيك من أجرك 52% وتستقطع الباقى لتعطيه كبدل بطالة لمن لا عمل له، فلماذا يعمل الزوجان معا؟ يكفى أن يعمل أحدهما ويوزع أجره على الإثنين، وكل عام أو عامين يبدل إحداهما الآخر. يعمل من كان يحصل على بدل بطالة، ويتعطل من كان يعمل. زوجها لم يستملح الفكرة ووجد أن عملها بالبيت أهم من أن تكون وزيرة بالدولة وصدقته. نداج خرجت تستقبل أضيافها عند محطة القطار. خرجت بالسيارة ال (رينو) القديمة التى لا تبتعد كثيرا فى الزمام. كان معها في الكرسي الأمامى يوسف، وفى الكرسى الخلفى الكلبة التى ولدث ثلاثة جدد قبل أيام. أصرت الكلبة أن تذهب معهم ولم يغضبها يوسف. وقفت له بالمرصاد أثناء استعداده للذهاب مع أمه. صارت تهز ذيلها، وترفع ذراعاها لتشب على ساقيه، وتئن بين يديه حتى أربكته. ولما فتح لها باب السيارة الخلفى سألته نداج: والناس؟ أشار لها أن الكلبة ستعود ركضا. عند المحطة، لم يتفاجأ الزوار لرؤية يوسف. فريدى كان يطلعهم على أخباره أولا بأول. ازداد جسده وقوي نعم، لكن وجهه ظل جميلا لم يتغير. فقط ينظرون إليه فيبتسم. وإذا سمع منهم كلمات الإطراء والثناء، حياهم تحية الفارس؛ فقلدوه وهم يضحكون. أخذ منهم الورود التى أتوا بها وشكرهم بإنحناءة من رأسه ، وبعدما قبل ديديه حمل عنه حقيبة الجيتار إلى السيارة. وفى طريق العودة كانت نداج تسير على مهل من أجل الكلبة. تراها فى المرآة وهى تركض بموازاة السيارة جهة اليسار. ظل ذراع يوسف يخرج من النافذة المفتوحة كلما كان منحنى. يشير للكلبة؛ فترخى جسدها المشدود
وتهدئ السير. ولما تدور مع الدوران تأخذ سرعتها فى خطوات قليلة حتى لا تتخلف. فى السهرة تعشوا وغنوا ورقصوا. يوسف لم يفارق ديديه منذ حمل عنه الجيتار عند المحطة. بعد تناول العشاء وقف ديديه ويوسف والجيتار ، وجلسوا على كراسى أمامهم في نصف دائرة. كان القمر خلفهم فى طور التربيع الأول، يحتاج وقتا لبلوغ الاكتمال. وأنامل ديديه الفنان تعزف ثلاث مقطوعات غاية في الروعة. الاولى من موسيقى الغجر، والثانية من موسيقى منطقة الباسك الإسبانية، والثالثة من موسيقى أفريقيا الاستوائية. نغمات زاعقة راقصة موسومة بالفرح. لم يكد الجمع يسرح مع الموسيقى حتى نهض ورقص. يوسف كان يرقص بجذعه وهو يجلس على أرض الجازون أمامه. وكان يرقص برأسه وذراعيه. وكان يحاول العزف فى لحظات توقف ديديه لتغيير المقطوعة. نحو ساعة ونصف الساعة ثم توقف ديديه وقال لموسي: وهذه لك. صارت أنامل ديديه من فرط سرعة ضربها كأنما تعزف على عود لا جيتار. ونغمات شرقية أصيلة تحتفى بالربيع، تقع بسمع موسى؛ فيتذوقها ويتعجب. ديديه يقلد فريد الاطرش بالجيتار لا العود. التقاسيم التى تسبق لحن ( آدي الربيع عاد من تانى). ولما انتهى سأله موسي: من أين أتيت بها؟ قال من الكابل. قال له موسى: أنت حقاً فنان مدهش. شكرا لما منحتنا إياه من بهجة وفرح. وظلت نداج ويوسف رفقة الأضياف على رصيف المحطة حتى حملهم القطار.
***
الإيثار هو ما جعل نداج قديسة. منذ تركت جرونابل وعادت على وجه السرعة ورأت رأس زوجها بالمستشفى فى العصابة الطبية وقرارها كان جاهزا. هذا الغريب العجيب الذى تكسو وجهه عاديات الدهر يستحق التضحية. لقد أدركت حقيقته فى هذه المحنة. كان يعرف جيدا من أرسل إليه من يضربوه، ومع ذلك استغنى عن حقه من أجلها. إنه يعتد بنفسه أكثرةمن اللازم، ولا يقبل الحيف أو الاستكبار أوالغطرسة. كانت تعلم أنه كثيرا ما كان ينتظرها حتى ترحل إلى جرونابل ليدير المشاكل مع هؤلاء الذين يتربصون به الدوائر. لم يفعلها مرة في وجودها خوفا عليها. وتتعجب من تعامله وسلوكه في المدينة. يعيش بأريحية واطمئنان كأنما فى القرية التى جاء منها. كأن المدينة لا تجمع استخبارات العالم، ولا تعرف الاستقطاب، ولا تلم سارقى ثروات شعوبهم،وفلول الرؤساء والوزراء المغضوب عليهم فى بلدانهم الاصلية. تقر نداج أنه عاش ضائعا في سنواته الاولى بالمدينة، كبطل مارسيل بروست في البحث عن الزمن الضائع. ذاك الضياع المدروس الموسوم بالمعرفة. كان يجعل رأسه متقدما عن قلبه بخطوة ويجرب. يدوس بكل أرض غير عابئ بمن فيها. يضع قدمه دون أن يعرف أين وضعها ويستطلع. وما وافق فطرته اعتمده قرير العين، وإلا نزع قدمه وتقهقر. نداج تقف أمام المرآة تتحسس وجهها وتهمس لنفسها: نعم كان يستحق التضحية. فى هذه الأثناء وصل إليها يوسف و هو يلهث. صعد للسطح بحثا عنها بين أقفاص العصافير وما وجدها. هبط للأرض وتناول من الخادمة قطف عنب أحمر كبير من النوع الذي يحبه، وراح يأكل وهو يصعد الدرج ركضا. ولما وصل إليها وأنفاسه تتلاحق، رجعت عن المرآة بخطوة سريعة حتى لا يصطدم بها. لقد أفلح في دهسها خارج النطاق الأخضر بالبيت عدة مرات. الأصل في الدهس أن يكون وقت اللعب على الجازون، لكن ولدها تمادى. أعجبته اللعبة وصار يلعبها أينما شاء. فى المرة السابقة سقطت على جنبها وتألمت ركبتها.
يمشي يوسف فى تلك اللحظات كمن لا يملك القدرة على إيقاف قدمه، ومع ذلك حين خلت من طريقه وقف ولم يسقط. نظرت ضاحكة في لمعة عينيه المتقدة وهى تقول: يوسف حبيبي، ماذا هنالك؟ أمسك يدها وجذبها حتى تنزل معه. نزعت يدها من يده وراحت تربت على ظهره وتقول: اهدأ قليلا يا صغيرى، ها أنا معك. وتركته حتى انتهى من قطف العنب ونزلت معه.
وعند باب حظيرة الفرسة وجدت سرجا ومهمازا
جديدين يلمعان بصفرة النحاس. نداج وضعت يدها على فمها وهى تقول يا إلهى!! كأنه من الذهب. من أين لك هذا؟ وقف يوسف يضحك ويئن ويشير بيديه وجسده، ويروح ويجيء كمن يقلد مشيته. ولما سألت نداج: غيدى؟ قبلها ولدها من خدها وأخذ يصفها بالذكاء.
***
وقفت نداج تعاين هدية غيدى على الفرسة. لقد جهزها برحل يليق حقا بفارس. ولما وضع يوسف رجله اليمنى بالمهماز، وأمسك بقربوس السرج وصعد على ظهر الفرسة حيته و هى تكاد تبكى. قالت في نفسها إذا كان موسى يستحق التضحية فما بال يوسف!!. لقد خجلت من لمعة عينيه فى وجهه المنير وهو جاهز ومطرق في البعيد. تعرف أنه ليس بذلك ال (مود) الذى يسمح له بالمتاهة. وأنه ما بحث عنها وجذبها للأسفل حتى ترى مدى استعداده فى المرة القادمة. وإذ يصعد بها ويتركها في غرفتها أمام المرآة حيث كانت، تهجم عليها الوساوس. لقد ازدادت لمعة عينيه الغريبة هذه المرة وصارت كالبرق. كان على السرج الجديد مثل عريس ينتظر الذهاب لعروسه.هذا الإحساس لم يمسها من قبل. تعود نداج وتفرك وجهها الذى صار أحمر، وتجز على أسنانها وهل تحدق في صورة عينيها في المرآة، تضرب

قمع رأسها بيمناها برفق وهى تسال: هل يستحق الأمر التفكير؟ هل يمكن أن أصير سوداوية بعد عبور الاربعين؟ وتعاجلها الذاكرة بما تعرف من مناهج البحث عن أثر الإنسان. تلك التي كانت تعلمها لطلاب الجامعة بجرونابل. الحدس هو أول ما يلفت النظر ويستوجب التقصى. فكلما كان قويا ظهرت معه الرائحة. رائحة الإنسان وقواه النفسية تبقى موجودة في المكان مهما ابتعدت الأزمان. وإذا وجدوا بعض الآثار أو بقايا الحيوان على أغوار المكان، تمكنوا من تحديد الزمن. الكهوف الموجودة بمنطقة ( لا بروفانس) كان يعيش بها انسان ما قبل التاريخ. أنياب الحيوان والبيضة الحجرية التى وجدوها، والأطباق والنقش والملاعق تنتمى لهذه الفترة. نداج تغمض عينيها وتأمر رأسها أن يتوقف. لقد قررت منذ البداية النأى بما تعرف عن يوسف. وكم كانت تشفق عليه من وحدة العلاج الطبيعي، حتى قوضت أغلب أعمالها. إنه ثمرة بطنها وايقونة حياتها، وتعيش معه يوما بيوم. فكيف لها أن تغير طريقتها وتنتظر البلاء قبل وقوعه.؟





Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire

Remarque : Seul un membre de ce blog est autorisé à enregistrer un commentaire.