لقد استمرأت سوغولين حالة العجب، كمن سأم العقل والإلهام والعبقرية. لا علاقة للأمر بالجنون بشقيه. لقد اشتهر الشاعر فان سان وصار من مبدعى مدينتها الفاضلة. نشر باكورة دواوينه بدار (جلمار) الشهيرة. طبعة سهلة اللغة للفتيان. واحتفلت الدار به بأمسية شعرية، دعت المدعوين بعدها لبوفيه مفتوح بمقهى ( ميلودى). وبالرغم من وجود أناس من جيلها، ومنهم من يغازلها ويطلب ودها، تركت هؤلاء وانحازت للشباب. لقد أتوا جميعا خلف رفيقهم. تعلم أنها ستبقى شابة مادامت تفهم هؤلاء. لا يعنى هذا أنها تفهمهم دائما. ففي بعض الأحيان تقف أمامهم خائبة كحالها الآن. قاعة البوفيه فى طابق أرضي ينزلون إليه بدرج طويل. وحضور أمسية ولدها نحو مائتى شخص أغلبهم شباب. لم يتركوا نوعا من الخمر إلا أخذوا منه. كان لدي كل منهم رزنامة لتذوق جميع أنواع الخمور. وفى ثقافتهم التفريق بين نوع ونوع. يتحدثون فى ذلك كما يتحدثون عن آخر فيلم أو كتاب أو أسطوانة. ربما تجد بينهم من لا يشرب، ولكنك لن تجد من لا يدخن الحشيش. وانفها الذى يميز تلك الرائحة صار مزكوما بها حتى نفرت منها. لكن إن أرادت أن تتنفس هواء نقيا, فعليها الصعود إلى سطح الأرض، وهذا ما لا تريده. ربما تستطيع وأد رغبتها تلك، لكن الإزعاج الذي أصابها جراء الموسيقى، هو حقا ما يؤرقها. لا يتعلق الأمر بالسماعات في القاعة أو نوع الموسيقى أو ارتفاع الصوت، وإنما بدرجة التردد. فالتردد العادى 432 هيرتز، زاد عليه هؤلاء ثمانية. هذه الزيادة تؤثر عليهم بهذه الطريقة المزرية. الجهاز العصبى يبقى بأعلى درجات التنبيه. ومن السهل التأثير عليه بالضجيج والهوس. هذا التردد العالى تزعج به الأجهزة القمعية المساجين. بضع دقائق فقط فى فناء السجن توقظ من كان فى سابع نومة. وفى مقهى ( ميلودى) منعت الموسيقى الشباب عن الكلام. وراحت سوغولين تعقص شعرها وتتفقد هؤلاء الصغار ما بقى من الوقت. وقفت أمام رفقة ولدها حتى تفهم ما يصنعون. جلسوا على كراسى فى صفين بحكم العادة. فى مواجهة كل شاب فتاته. وفى أيديهما لفافة حشيش واحدة مشتعلة يتناوبان عليها. والحوارات التى تتم بينهم بالإيماء والإشارة فى هذا الوقت الملتهب، لا يفهمها غيرهم. وضعت سوغولين يدها على كتف ولدها وأشارت له على سليمان وهى تسأله فى أذنه: ماذا يصنع هذا؟ رد فى أذنها: يشحذ. سألت كيف؟ قال: يقرأ شعرى على فتاته ويتسول به. بينهما قطيعة ويسألها الغفران. نظرت إلى أمادو وهى تقول: وهذا؟ قال: هذا يعزف (كونجا). كادت تسقط من الضحك على ظهر ابنها الجالس أمامها فوق الكرسى. ولما طوقت عنقه راحت تسأله: وما الكونجا؟، إنى لا أرى أي آلة؟ رد فان سان: طبلة عظيمة. آلة وتربة أفريقية يدقون عليها وقت غروب الشمس. فى مثل هذه الأوقات يدق أمادو الطبول لفتاته. وهنا أدركت سوغولين أن تردد الموسيقى العالى يؤثر على لاوعى هؤلاء. يجعلهم يشعرون كأنهم بين النوم واليقظة، بين الظهور والخفاء. مثل بعض الكائنات المرضية التي أفرزتها وسائل التواصل الاجتماعي. فلا هم فى الواقع ولا هم فى الافتراضي. ثم أشارت على ويسلى وسألت ولدها عما يصنع.قال: هذا يخط (سكتش)جديد. هذا مهندس مبدع يتحدى نفسه مثل أى روائى أو شاعر. أفكاره الإنشائية الكبيرة ظهرت في مثل هذه الأوقات. سألت: لكنه لا يمسك بقلم أو لوحة، وما معه أدوات؟ قال نعم. هذا يخط فى رأسه. أما رأيت أنه أكثرنا التفاتا وحركة؟ قالت: نعم، لكن ما معنى ذلك؟ قال: إنه يقيس ويقارن ويفاضل دائما. حتى أنه يستطيع حسبان الكميات المستخدمة من حديد وأسمنت وخلافه للمبنى وهو مخطوط على الورق. ولما انتهى الوقت وخرجت إلى سطح الأرض، أخذت وقتا طويلا حتى عادت لطبيعتها
لم تترك سوغولين مسألة التردد العالى تلك تمر مرور الكرام. تقصت وقرأت حتى امتلأت ونقلت النشاط لجمعيتها. أعدت حلقة دراسية عنها كتلك التى أعدتها من قبل عن البرق. دعت ثلاثة من كبار الموسيقيين لورشة فنية حتى اكتملت لديها الصورة. أمريكا هى صاحبة اقتراح رفع التردد ثمانى درجات مع إلقاء الحرب العالمية الثانية أوزارها. كما هو الحال فى أغلب الأعمال التى تسيء إلى الفطرة الإنسانية. صحيح أن بعض الحكام الآسيويين قاموا بتجريب هذا وغيره على المساجين بدلا من فئران التجارب. غير أن أمريكا هى التى فرضت التردد الجديد على العالم فرضا. هناك ثلاث أسر من الإحدى عشر التى تحرك العالم خفية تعيش بها، ويصعب أن تعرف أين. وتعدد سوغولين الظلم الواقع على إنسان الألفية الجديدة متسائلة:.ماذا لو عاش الإنسان حياته دون قهر أو ظلم أو عوز؟ لو عاش حرا سيدا دون ضغط من داخل أو خارج لكان نسخة مغايرة تماما عن تلك التي نراها. إن النسخة المرجوة فى المستقبل هى نسخة إنسانية منحطة. لقد ظهرت جماعات الشر للعلن وما عاد يحجبها الخفاء. والذى كانت تعرفه وتعتبره أسرارا، صارت فى الواقع تراه. وبدت صورة حكومة العالم الخفية تتضح يوما بعد يوم. كما بات واضحا أن رؤيتها للإله والكون والإنسان دخلت حيز التنفيذ. وما تردد الموسيقى العالى وهجوم الفيروسات وعقاقير منع النوم سوى حيل هدفها الحصول على تلك النسخة التى يسهل قيادها. وهى التى نذرت حياتها منذ طلاقها لدفع العنف والظلم عن الضعفاء، كيف ترتاح ويهدأ بالها؟ وحين تشعر أن الوباء دخل رواقها، تؤجل ما وراءها لزيارة نتالى. الأقربون أولى بالمعروف. لقد أشرفت صديقتها على الهلاك وتأبى الخروج من المنزل لزيارة الطبيب. الطبيب هو الذي يمر عليها بشكل دورى منذ أكثر من عام. ولديها ممرضتان تتناوبان عليها حتى لا تبقى وحيدة. صار لديها ذاك الخوف المرضي من الموت إذا خرجت للشارع. . ويصيبها نوع غامض من التشنجات يدفعها دفعا للانتحار. تظن معه أن العالم سوف يكون أكثر أمنا دونها. تكوينها النفسي الهش لم يتمالك رغم كل تقلباتها. ظنت في كلمات بوذا ومحاورات أناندا هدوء للعقل فى بداية تحولها. ومع الأيام ازدادت غربتها وبان تشردها. صارت لا تعرف كيف تفرق بين الأنا وال ( هم) وال ( نحن). ووصايا معلمها فشلت في جمع تمزقها وتشرذمها. حتى إذا ظهرت عقدتها جراء ما صار لها بالمكتبة النفسية التى كانت تعمل أمينة لها، وقف العقل وغابت عنها الحركة. من يجلس معها ويحاورها تمشى معه قليلا وتعود إلى عقدتها. يخلعها من تربتها، فتهرب لحوار دار مع المتنمر أثناء الاستجواب. كانت تجلس بالمكتبة وحيدة قبل ميعاد الإغلاق بنحو الساعة. وإذا شاب ضخم الجثة يترك كل المكتبة ويقف لها بباب غرفتها. أخذ يأكلها بعينيه، وان وجن عليها حتى يرتاح. فى تلك الساعة ذاقت نتالى طعم القهر أمر من الحنضل. وانكمشت فى ركن الغرفة خوفا أن يسحبها إلى حال لا ترضاه. لم يصل إليها ولم يخدعها ، بل باح بكل حكايته بسوق الغلمان. لا يعرف إن كان امرأة أو رجلا، بل شيء ممزوج تلفظه الغلمان. تتساءل تلك الباحثة عن الأحزان بستر الليل عن المخرج. نام الولد وغاب حراك الخادمة وقمر الليلة أبرق. يحتاج ليوم كى يصبح بدرا، والأفق يجود بلون أزهر. وفى عصر اليوم التالى، ابتهجت بصديقتها وأخذت تبحث عن مخرج. كانت قد وقفت بحديقة بيتها قبل خروجها على سلك المحلاق. ذاك الذى تمده كلما نمت شجيرة العنب بالسور النباتى. بواسطة هذا السلك يتم توجيه اتجاه الفرع الجديد. حيث تلف المحلاق الذي يشبه الياى على السلك ليمشى عليه. كمن تهيئ عقلها لتقليد هذا الصنيع مع نتالى. شأن اختراعات كثيرة استفادها الإنسان من الطير والنبات والحيوان. وأخذت معها شابا بالأوصاف التى تشتكى منها صديقتها كلما أخذتها النوبة بمعرفة القطعان. ضخم الجثة ومضطرب الهوية الجنسية وجبان. حتى إذا ما أدى الدور ببراعة وفكر فى الغدر، قدرت عليه وحدها قبل أن ينجدها أمادو وأرتور وفان سان لقد أعدت كل شيء بعناية قبل أن تدخل على صديقتها. وبعد نحو عشرين دقيقة أخذتها بلطف من الصالون إلى الغرفة التى تحتفظ فيها بكتبها. سوغولين دخلت أمامها بحجة البحث عن كتاب لكارل جوستاف يونج صاحب نظرية طب الأعماق. كانت تعلم أن الكتاب بصدر الكتب. واجلستها على الكرسي المواجه لفتحة الباب وجلست أمامها. وبعد عشر دقائق أخرى، ظهر الشاب أمامها لتشتعل غضبا وتخرج أضغانها. لكن انفعالها هذه المرة ما كان كسابقتها، لإدراكها أنها فى بيتها. كانت تحاول الوصول إليه وسط صراخها وتمنعها سوغولين. كانت تريد من الشاب أن يصل لنهاية دوره، ولا يترك صديقتها إلا عند حافة الانهيار. ولما تم ذلك، انزاحت من دربها وتركتها تنقض عليه كلبؤة جائعة. فى هذه الأثناء دخل الشباب الثلاثة والممرضة المناوبة ووالدة نتالى. حمل الشباب الضحية وانصرفوا على عجل، واهتمت الممرضة بالجانية. لقد أخرجت الرغبات المكبوتة كلها من جوفها. بذلت مجهودا عصبيا استثنائيا أطاح بعافيتها. عادت للسرير بغرفة نومها، شاحبة الوجه ترتعش أطرافها. والممرضة وضعت في الحامل محلولا سكريا حتى ترفع ضغطها. ركنت الحامل عند رأسها، وظلت تدلك ذراعها حتى ظهر وريدها. ولما دفعت به الإبرة، أخذت تراقب قطرات المحلول وهى تهبط عبر الأنبوب الأبيض الرفيع إلى ذراعها. ولما انتهت زجاجة المحلول وغط نتالى النوم فى دثارها. نظرت سوغولين للممرضة متسائلة؛ فأخبرتها أنها تحتاج إلى النوم.
يومان وعادت سوغولين برفقة أم أرتور لنتالى؛ وكانت بالفعل أحسن حالا. كانت قد تجاوزت حادث المكتبة، غير أنها لم تغادر الفراش. الخوف المرضي من الموت إذا خرجت للشارع لازال يلاحقها. وطول بقائها بالبيت جعلها كنباتات الظل تصفر إذا رأت الشمس. كانت تجلس في الفراش مثل عروس وديعة تتحدث بهدوء وثقة لعريسها. تطلعه على ما بداخلها من خيبات وأحلام مهدورة، وتحولات أفقدتها العقل. وثمة ملاءة مفرودة على جسدها الذي انخفض وزنه كثيرا حتى رقبتها. ورأسها مسنود على وسادتين، تنام على جنبها الأيسر وتسمع أكثر مما تتحدث. والممرضة تجلس على كرسي بلاستيك أبيض بالقرب من راسها. بينما سوغولين وام أرتور تجلسان للخلف قليلا على كنبة وثيرة. كانت نتالى تتحدث كأنما لغير هؤلاء الذين يجلسون معها. كانت تتكلم بلاوعيها. وبين وقت وآخر تذكر أسماء تخصها. أناس مروا بحياتها، منهم من صار جزء فى تشكيلها.
يبدو لمن يسمعها عدم الترابط فى قولها، رغم أنها ترسم صورا يانعة بمعرفة أصدقائها. إنها تقارن ذاتها بذواتهم. تتداعى الأحزان على لسانها وتذكرهما أو إحداهما مثل شاهد الإثبات. كيف كانت ضد التناسل وأول من يهيل على رأس الرجل التراب. ثم تقف بعينيها اللوزيتين الساكنين على أم أرتور وتسألها: أمازال الرجل برأسك؟ كيف لمثلك أن تفكر في الجنس؟ وهنا احمر وجه أم أرتور وصرخت صرخة غابت معها في ضحك هستيري. سوغولين بذلت جهدا مضنيا حتى أوقفتها. كانت تضحك هى الأخرى لكنها تمسك بزمام نفسها. أما صديقتها فقد سقطت من شدة الضحك على الأرض. ولما ران صمت ثقيل عقب الضجيج والنفير قالت سوغولين: جلدك هو آخر ذاتك، وهذا ما يجب أن يشغلك. دعك من الأشياء والعلامات، من المذاهب والأفكار، وعليك بنفسك. ما يجب أن تحاسبي نفسك اليوم على إخفاقات الماضى. لو صنعت فأنت المخطئة. كل قرار جلب لك إخفاقا كانت له ملابساته غير الموجودة اليوم. الأصلح لك عدم محاسبة نفسك بالمرة. من سوء الحظ أن الدنيا تحاسبنا على اختياراتنا. أن تكونى نباتية فى الطعام أو بوذية في الأفكار فلهذا عواقبه. فما بالك بضد التناسل والإنجاب؟ الطبيعة لا ترحم من يسير بعكس سريانها نتالى. غيرت نتالى وضع جسدها ومعها الممرضة. استلقت على ظهرها وحاولت رفع جذعها فعجزت. ولما استقرت ووقفت بعينيها على سقف الحجرة راحت تذكر أم أرتور وتقول: وأنت؟ ما الذي تودين قوله فى موكبى الجنائزى هذا؟ ضحكت أم أرتور واكتسى وجهها بالجدية ثم قالت: ليست لدى أية نصائح نتالى. فقط اريد الوقوف عما تستطيعين فعله. الطبيب والحكيم يمكن لهما وصف الطريق لعلاجك. لكن هل تستطيعين تحمل هذا الطريق؟ أريد معرفة طريقك أنت. كيف خططت صديقتي لعبور هذا النفق؟ لقد صرت تعرفين أدق أعراض مرضك. لو كان كذا لكان كذا. إحاطتك بتلك الدائرة تسمح لك بوقفها فى أى درجة. من جهتى أثق بثقافتك النفسية. أنت نفسانية كبيرة، تستطيع حشد القرائن للوصول إلى ما تريد. وبعدما ارتاحت نتالى ونامت، اصطحبت سوغولين صديقتها وانصرفت.
***
من صديقتها إلى المجتمع كله، تتسع بسوغولين الدائرة . تنظر بأرستقراطيتها كحارس للقيم والأعراف. إنها سليلة الامبراطورية الفرنسية لا هذه الجمهورية الهجين. يهمها صورة مجتمعها أمام العالم، وإن تجاوزتها. فما كانت تلك الأعراف إلا للعامة وهى ليست كذلك. اهتمامها بدفع العنف والظلم جعلها تنخرط فى المجال الاجتماعى. منذ اشتهرت جمعيتها وعلاقتها صارت وطيدة مع السلطة الاجتماعية مجتمعة. هيئات الأمم المتحدة ووزارة الشؤون الاجتماعية والأحزاب والجمعيات الأهلية. ثم تجد أن تلك السلطة باتت كلها فى أيدى العامة. كأن النخبة انسحبت لبروجها العاجية، وتركت المجتمع للدهماء. سوغولين تزفر ملء رئتيها وتخرج للبلكونة. تستنشق هواء نقيا وعيناها تتصفحان الأفق. نوفمبر تجاوز منتصفه وطقسه اليوم صحوا. والأشجار البعيدة التى تنظر إليها فى الظلمة، تبدو كصلوات لليوم الجديد. لقد صارت الرابعة صباحا وما نامت بعد. سهرتها بالجمعية الليلة الفائتة كانت مضنية. مسألتي الطبقة والعرق التى تم نقاشها البارحة عصفت برأسها عصفا. لقد صارت السلطة الاجتماعية مجتمعة بأيدى الطبقة المتوسطة. تلك الطبقة التى تحتاج لمن يقودها ويأخذ بيدها لمستقبلها. تشهق بعمق وتقول فى سرها: كيف لمن لا يعلم الطريق للمستقبل قيادة أمة؟ تتذكر إحدى المحاضرتين وهى تقول بأن ذلك حدث في التاريخ من قبل. وأن علماء الاجتماع يسمونه ثورة الجماهير الغفيرة أو ثورة الدهماء. وأثر ذلك على المجتمع غاية في السوء. تستغرق سوغولين في الحزب الاشتراكي الذى تنتمى إليه. تتذكر الجنرال ابن عامل المخبز؛ فتشعر بالغثيان. تلوم نفسها وتسألها كيف كانت تصدقه؟ تتركه إلى القادة الذين يتوزعون الآن على الحقائب الوزارية. تفتش عن طبقة النبلاء بينهم فلم تجد أحدا. تسأل نفسها: أين ذهب هؤلاء الذين كانوا يشجعونها في وجود والدها؟ لقد انسحبوا الواحد تلو الآخر تاركين الساحة للدهماء. غير أن وجوه اليمين الموجودة في الوزارة ما أثارت حفيظتها كهؤلاء. تتعجب من نفسها وهى تراقب خياراتها مع تطور العمر. كيف نشأت على تفضيل اليسار على اليمين؟ هل كانت تستفزها أملاكهم قبل توجهاتهم؟ ربما تستطيع أن تقول ذلك لو كانت فقيرة. وبعد مونولوج طويل تقر بأنها سقطت فريسة لدراما الفقراء. أعجبتها صور المزارعين الذين ثاروا على الملوك واسقطوهم. أمها كانت تتفنن وهى تقص عليها حكاياتهم. وكثيرا ما كانت تقول عنهم أن ليس لديهم ما يخسرون. ومن كان كذلك تبقى حريته ملك إرادته. ثم تنتقل من قاع المجتمع إلى قمته وتشتبك مع هولاند نفسه. لقد تأكد خروجه من الإليزيه فى غضون أشهر قليلة. ولو ما كان من الدهماء ما انضوى تحت جناح زعيم الماسونية الذى تسبب في إسقاطه وحمل من يأتى بعده. لقد غاب الأرستقراط عن السلطة الاجتماعية والسياسية واقتصر وجودهم على ساحة الفن. تبتسم سوغولين للصبح وتتذكر أمها ولوحاتها الانطباعية. لقد ولدت الرواية الفرنسية فى رواق الأرستقراط. وكذلك الشعر والرسم والفن التشكيلي. تفرد ذراعاها أمامها وتنظر إليها وتقول: إذا كانت أمى حاضنة الفن؛ فكيف لا يعبر الفن عنها؟ وحين يقع بسمعها أزيز سيارة، تسحب ذراعاها وتتحرك قليلا لترى من بعيد. إنه فان سان ومعه رفيقه أمادو. ينزل الأول ويولى الآخر بالسيارة مدبرا. ولما انتبه فان سان لأمه وحياها قبل دخوله من البوابة، عادت تفرد ذراعيها أمامها وتنظر إليها بامتنان.
***
ثمة حتمية مبهمة فى صيرورة الأشياء. الشخص الذى تفكر في الهرب منه وتحاول تجنبه، غالبا ما يغير عادته ويلقاك.. ومن تحبه وتفكر فيه وترف عينك أو تطن أذنك أثناء ذلك، لابد أنه يفكر فيك بالوقت نفسه. ومن رآك مشرقا وسعيدا بأول يومك، غالبا ما يأتيك بآخره يستغيث. طبقا لهذه الفيزياء الخفية عاد أمادو لسوغولين بآخر اليوم وبيده مظلمة. امرأة من ( كوت دى فوار) محتجزة بالمدينة الشرطية، يبغون ترحيلها بعد إقامتها بالمدينة أكثر من عشر سنوات. وما كان ذلك بسبب أوراق الإقامة أو جريمة ارتكبتها، بل لشجارها مع جار لها يعمل بالشرطة السرية. تودد إليها مطولا برغبة في جسدها وما لاقى غير الصد. ولما حاول اغتصابها، انقضت عليه مثل لبؤة وافترسته. بدلت سوغولين ملابسها بسرعة وهاتفت محامى جمعيتها قبل خروجها برفقة أمادو. ثمة رابطة روحية تربطها بافريقيا وخصوصا ( كوت دى فوار). ولادتها بأبدجان ونشأتها الأولى أثر كثيرا على مجرى حياتها دون أن تنتبه. حتى أن أغلب البلدان الإفريقية كانت وجهتها للترفيه والسفر. تركا السيارة عند محطة القطار وركبا ال( ار ار) إلى محطة ( جار دى نورد)، ثم أخذا المترو من هناك إلى المدينة الشرطية. كانت الساعة نحو الثامنة حين التقيا المحامى ودخلوا جميعا. ومن موظف إلى آخر، ظلوا يتنقلون حتى وصلوا للمدير المناوب. كانت سوغولين تتحدث بعصبية واضحة على عكس عادتها. طلبت رؤية الضحية التى يوجهون لها أصابع الاتهام، دون مهادنة للسلطة وأهلها حتى اغتاظ المدير. لقد تحدث المحامى عنها أكثر من حديثه عن المتهمة. كان يحاول لفت نظر المدير المناوب لأهميتها الاجتماعية، كى يخفف من حنقه عليها. وحين بلغ الغيظ من الرجل مبلغه قال لسوغولين: من يسمعك يظن أنك أفريقية. قالت وهي تبلل شفتيها بلسانها: أنا حقا أفريقية. نظر إليها بتواطؤ وراح يقول: هذا غير حقيقى. هذا الجمال الذى أراه لا نظير له بافريقيا. ثم إنك من أهل السلطة، فلم كل هذه العصبية؟ رد المحامى: السيدة مستاءة من الالتباس الواقع. سونيكا كانت تدافع عن نفسها. والسيد جون كلود حاول اغتصابها بالفعل. لكن البلاغ الذى تقدم به حول الضحية إلى جانية. قال المدير: نحن لسنا جهة تحقيق، مهمتنا توقيف المتهمين وعرضهما على النيابة. لكنها فرصة للقاء هذه السيدة الوطنية. نظرت إليه سوغولين نظرة استنكار وهى تضحك وتقول: ومن أخبرك بذلك! الحق أنى لست وطنية بالمرة. دعنا من ذلك الآن سيدى. أريد رؤية سونيكا. لن يغمض لى جفن حتى أراها ولو وصلت لمدير العاصمة أو وزير الداخلية. ربما لا تعلم حقيقة ما جرى، لكن سونيكا صاحبة حق. وهل يضيع الحق في جمهورية هولاند الاشتراكية؟ قال المدير: أرجو تخفيف لهجتك من فضلك، ولا داعى لهذا الموقف السلبي. أما رؤيتك للمتهمة؛ فعلى الرحب والسعة. دقيقتان وتأتى إلى هنا. ولو رغبت عن حضورى، تركت لك المكتب. كان قرار القاضى إبعاد سونيكا عن المدينة لمدة ثلاث سنوات نتيجة إخلالها بالقانون المعمول به، واعتدائها على موظف عمومي وقت تأدية عمله. وما أتت إلى المدينة الشرطية، إلا ليتم اقتيادها إلى معسكر (لارواسي) التابع لمطار ( شارل ديجول). حيث تودع به حتى يدبروا لها مكانا على طائرة بالوثيقة التى استخرجوها لها. ولو رفضت ركوب الطائرة، يقومون بلفها باللصق على ( شيز لونج) وحملها مرابعة إلى الطائرة. جاءت سونيكا وأصرت سوغولين على بقاء المدير. شابة قوية في نحو الخامسة والثلاثين. لديها إقامة بعشر سنوات وتعمل بمخبز وحلوانى. ولها طفلة من شاب أسود هجرها من بطش جون كلود. منذ أتت إلى الحي قبل عامين ورآها بالإسكان الشعبى وهو يتنمر بها ويطاردها. كان يراقبها بأجهزته السرية، ويفاجئها حين تكون وحدها. وكان يهددها كلما تمردت عليه من الطرد من المدينة. نظرت سوغولين للمدير وهى تقول: قصة تتكرر كل يوم. ولو سألت الذكر الأبيض عن سر رغبته ورد عليك بصراحة لقال: هذه امرأة ليست باردة كنسائنا، هذه دافئة ومثيرة. رغبة ذكورية أنانية لا تجدها إلا في أنصاف الرجال. قالت سونيكا: وفى الأشهر الأخيرة ضيق الخناق حتى كتم أنفاسي. كان ينتظرنى مخمورا آخر الليل عند المصعد. يركب معى ولا أستطيع أن أمنعه. وبمجرد حركة المصعد يهجم على ويحتضننى بوحشية. أخبرنى وهو يبكى مرارا، أنه سوف يقتل نفسه إذا لم يضاجعنى. لكنه لن يصنع ذلك حتى يقتلنى ويقتل صموئيل. سأل المدير: ومن صموئيل. قالت: صديقى الذي ترك لى ابنته وهرب بعد تهديدات جون كلود المتواصلة له بالقتل. كان يعيره بجلدته السوداء، ويناديه بالزنجى ويصفه بحيوان الغابة. وكلما رآه كال له من سبابه المستفز. سونيكا كانت تقف مقيدة خلفيا. ذراعاها مشدودان خلف ظهرها وفيهما القيد. متوسطة القامة ممتلئة الجسد في فتوة ظاهرة. وشعرها الخشن وعيناها السوداوان اللامعتان تكسبها مسحة غجرية يعشقها الرجال. سألها المدير: كم عمر ابنتك؟ ردت ثلاث سنوات ونصف السنة. سأل: أين هي الآن؟ قالت: عند جارة لى بالإسكان الشعبى ولا أدرى ما جرى لها من عشرة أيام. نظر للمحامى وهو يقول: هذه وحدها تلغى قرار القاضى. قضية ضم شمل. ثم اقترب من سوغولين وهو يقول: لكن علينا إتمام الإجراءات. سوف تذهب سونيكا للمعسكر سيئ السمعة. تقضى هناك ثلاثة أيام على الأقل. وانا سوف أشهد معك حتى يتم إلغاء القرار، وعودتها إلى ابنتها. ولما رأى المدير علامات الارتياح في وجه سوغولين، أمر بإعادة سونيكا أدراجها، وتنفس الصعداء.
***
بعد أربعة أيام، ألغت المحكمة قرار الإبعاد. لم يكف المحامى عن الحركة حتى أطلق سراح سونيكا. بمجرد شروعه فى إجراءات قضية ضم الشمل ألغت المحكمة قرارها السابق. كانت دفوعه منصبة على الطفلة التي لن تجد من يرعاها بعد اختفاء الأب وغيبة الأم. والتحريات التى تم جمعها عن المتهمة كانت كلها لصالحها. أكثر من عشر سنوات لم ترتكب بحق المدينة حماقة واحدة. تعلمت بالجامعة ودرست علم النفس وحصلت على أوراق إقامة طالب لمدة عام. ولما انتهت من الدراسة وصار لها حق العمل، تقدمت بملف الحصول على إقامة عشر سنوات وما استجابوا لها حتى أنجبت ابنتها. إنها تعمل وتدفع ضرائب وما كانت يوما هدفا للأمن العام حتى ظهر رجل الشرطة السرية فى دربها. لقد لقنته درسا لن ينساه أبدا. ما كان يعلم ببراعتها في رياضة ال ( كونغ فو). وحين عطل المصعد واعتدى عليها، كان في مرماها لضيق الحيز. ظلت سونيكا تناوله بيديها ورجليها حتى سقط يصرخ ويستغيث. لقد ذهب تقريره الطبى أدراج الرياح. والمحضر الذى كتبه بيده بطريقة احترافية لم يشفع له في تحقيق رغبته الحقيرة. أما سوغولين فقد كانت تنتظرها مع ثلة من شباب جمعيتها خارج المعسكر سيئ السمعة. وحين رأتها واطمأنت على سلامتها، حيت الجميع وانصرفت. وحين أتى المساء كانت سوغولين مجهدة وحزينة. كانت تتفكر في حياتها كلها، وكيف أنها لم تتذوق طعم الراحة. كلما ظنت أنها خبرت الحياة بما فيه الكفاية، سارعت لدربها المشكلات. والأسباب لم تأت إلا من هؤلاء الذين تحيا بينهم. وتفكر كيف لها أن تحيا وحيدة حرة وبعيدة عن إيقاع المجتمع التى تطحن العظام. كيف لها النجاة من حظيرة هذا القطيع البشرى المثير للضجر؟ لقد أدركت أن العالم غيرها بدلا من أن تغيره، لكنها لم تصف الآخر بعد بالجحيم. تعلم ما يميزها والنجاحات التى حققتها، لكنها لا تصلح لحظيرة القطيع. وكلما تطرق فكرها للمشكلات التي واجهتها، حملت على المجتمع وسلطته. تريد أن تسير وتسير وترى الأشياء داخلها بطبيعتها كما خلقها الله. لقد تخلصت من صراعها مع زوجها وتاريخها والمجتمع كله، ورغم ذلك ما شعرت بالراحة. غالبا ما تأتى المشكلات من حيث لا تحتسب. سوغولين تعلم أن هذا اللغط سوف يستمر طالما ظل المجتمع والعالم. ترغب فى زوال خيوط العنكبوت التى تعكر جوارحها وتشوش حسها. تريد أن لا ترى سوى الشمس والبحر والطير والنبات. أن تشعر أن داخلها يرفرف مثل ورقة فى شجرة الكون العظيمة.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire
Remarque : Seul un membre de ce blog est autorisé à enregistrer un commentaire.