:"تحت عنوان"وظيفة ثنائية التدوين و المشافهة في شعر جنان الحسين"
ذ. بوزيان موساوي
:مدخل
"أم فرات" كما يلقبها محيطها، هي جنان الحسين، سورية حطت الرحال مؤقتا بتركيا بسبب الوضع المتأزم في بلدها سورية حيث ما عاد لها فيه بيت و لا مال و لا بنون، عدا ذكريات أليمة جدا...رضعت من ثدي اليسار العربي التقدمي، ناشطة حقوقية، و مثقفة متنورة، و شاعرة
تمحورت تيمات و أغراض أغلب نصوصها الشعرية حول شكوى غربة تداوي المهجة، و صرخة من حرقة عن وطن موجوع، و شوق تلتهمه فجيعة الانتظار، و قلب تساوره الهموم ألما، و مرافعات منافحة عن مظلومية شعب حلمه تارة مؤجل و تارة مجهض و موؤود، و عشق على قارعة النبض، و جدران اللهفة، و حوارات الجسد و جمر القصائد و بارحة البوح
تعرفت إليها كشاعرة، قبل أن تصبح أختا و صديقة، كما "أبو فرات" زوجها"، من خلال فيديوهات شاركتها على جدارها بصفحتها على الفيسبوك... تقرأ فيها نصوصها بصوت جهوري يقوم له الجمهور و يقعد.. و كأن الحضور يشارك جماعيا بقيادة الشاعرة في طقوس احتفالية تشبه إلى حد بعيد التراتيل الصوفية الروحانية... (قصيدة رقص صوفي
:و هذا يجعلنا نستحضر مفارقة ندرجها كالتالي
:كتبت الباحثة التونسية نور الهدى باديس
"مثلت ثنائية المشافهة و التدوين مبحثا هاما في معظم الحضارات و الثقافات، و ظل السؤال المطروح دوما هو: ما دوافع الانتقال من ثقافة أساسها الارتجال و التشافه إلى ثقافة عمادها التوثيق و التدوين؟ (من بحثها تحت عنوان: "المشافهة و التدوين: الثابت و المتغير"
و مع الشاعرة جنان الحسين، نقلب معادلة السؤال: ما دوافع الانتقال من النص المكتوب، إلى النص المسموع؟
تجارب سابقة قام بها شعراء قدامى (العصر الجاهلي)، و شعراء العصر الحديث مثل محمود درويش و نزار قباني (على سبيل المثال لا الحصر) أكدت بالملموس أن الشعر المسموع في الملتقيات و الأمسيات قد يوصل الفكرة للمستمع أسرع من الشعر المقروء صمتا، و يكون الإحساس بالأبيات الشعرية أقوى لايصال الذبذبات المطلوبة و المؤثرة، و يبدو معه كاتب (ة) الأبيات أكثر الناس شعورا برنين مخارج أصواته... و نبضات قلبه، و مدى تفاعله و انفعاله
:و سنعتمد في قراءتنا لنماذج من النصوص الشعرية لجنان الحسين على ثلاث ركائز
التأثر الشديد بالموروث الشعري الشعبي السوري، و هيمنة ما يشبه الطقوس الصوفية في ترتيله، بتنويع أساليب الايقاع الداخلي بين الثابت و المتحول
: -1-التأثر الشديد بالموروث الشعري الشعبي السوري
لا يمكن أن تكون سوريا و شاعرا و لا تتأثر بفنون الأدب الشعبي الموروث ك"العتابا"، و "النايل"، و "السويحلي"، و "الميجنا"، و "الموال السبعاوي"... و غيرهم... نسوق أمثلة منها، لا على أساس نفس البناء و التفعيلة و العروض، بل لتأثر الشاعرة بها، و هي تكتب بطريقتها شعرا حديثا متمردا على القواعد التقليدية
: "ـ 1-1 ـ "العتابا
هي من فنون الأدب الشعبي، وله صلة وثيقة بالريف السوري، وهو يعبّر عن العادات والتقاليد اللأصيلة في المجتمع، ويتسم بالأصالة وقوة العاطفة، وهي من أعرق الفنون الشعبية في سوريا وبلاد الشام، ويقوم هذا الشعر على ( علم البديع)، وخصوصاً في (التجانس اللفظي).. نقرأ هذا المقطع من نص لها تحت عنوان: " سوف أضحك
سوف أضحك وأضحك وأضحك
فالبكاء ما عاد يدهشني
ولا عيناك المثخنة بالعبرات
ولا كرم الرذاذ
ولا شح الندى
أو حتى عبق الموت
الطالع من أصابعك المرتعشة
يقول صدى صوتك العائد من تورم الخيبات
لا موت هناك
..."ولا حياة هنا
رائعة هذه البراعة في استخدام التكرار لا على مستوى المفرد " أضحك وأضحك وأضحك"... و لا على مستوى الحرف ا ( حرف الكاف "ك..ك..ك ".. و حرف العين ("الطالع من أصابعك المرتعشة ") و كأن "الضحك الصاخب يدل على فراغ النفس" (كما يقول المثل الانجليزي)...أو كأن السخرية تجترح الضحك من اليأس و القنوط... أو الخوف من المجهول
...و جميلة هذه المحسنات البديعية كالطباق ( "لا كرم الرذاذ... و لا شح الندى" و"لا موت هناك ...ولا حياة هنا"...)... و كأن الوجود و العدم سيان
: "ـ 2-1 ـ "النايـل
"وهو شعر شعبي جميل الأداء، حزين اللحن.. نقرأ في هذا السياق مقطعا من نص لها تحت عنوان "فراشة اللهب
" وحيدةٌ كزهرةِ عبّادِ الشمسِ
على كتفِ السّماءِ ممدّدةْ
مسكونةٌ بالوجعِ والحنينِ
تهدهدُ أنفاسَ العشبِ
قبلَ موعدهِ بغربتَين ومنفى
ومنذُ ألفِ ذكرى وذكرى
تبحثُ عن رئةِ الشّمسِ في عينِ المطرِ
وبمنتصفِ الطّرقاتِ وفمُ اللهبِ
مثقوبةٌ بالتّنهداتِ الطّويلةِ
وظلالِ الراحلين
ملدوغةٌ بسياطِ الدّهشةِ
مشدوهةٌ برعونةِ الصّفعاتِ
..."وما تسَرّبَ من شراهةِ الموتِ
على طول النص كما استنتجنا من هذا المقطع يهمن حقل دلالي واحد ، يصور بيانية و محسنات بديعية متنوعة بعنوان الحزن و الأسى و الألم و الوحدة ("وحدة".. "مسكونة بوجع الألم".. "التنهدات الطويلة".. " ملدوغة بسياط الدهشة".. "ما تسرب من شراهة الموت"
ـ -1-3 ـ "السويحلي
هو من أعذب وأرق الأشعار الشعبية في الجزيرة الفراتية، نظماً ولحناً وغتاءً، وأكثرها شجناً، ينظمه العشاق الذين أضناهم الحب، ويكون غالباً مونولوج داخلي لمناجاة الحبيب أو النفس... نقرأ مقطع من هذا العشق المتمرد لغة و بيانا في نصها بعنوان: "استفاقة الفجر
"ها قدْ استفاقَ الفجر
ليملأَ قنديلَ الليلِ
بشيءٍ منْ نبيذِ النسيانِ المعتقِ
ويطويِ المسافاتِ المعفّرةِ عشقاً
بخيوطِ الألمِ وذراتٍ منَ الحلمِ
انتَ هناكَ
وأنا ما زلتُ أفتشُ في هذا الصقيعِ
...عمنْ يلملمُ شهقاتِ الروحِ المبعثرةِ دونَ جدوى"
: ـ هيمنة ما يشبه الطقوس الصوفية بتنويع أساليب الايقاع الداخلي أثناء ترتيل النصوص
جنان حسين، رغم مواقفها التحررية الجريئة، هي إنسانة جد خجولة (استحياء عفيف كما سلوك بنت شعيب)... لكنها لما تتعدى في قراءتها المسموعة السطر الثاني حتى الثالث.. تندمج كلية في النص.. تنسى الحضور... تتقمص شخصية الذات المتكلمة/ الهامسة / الصارخة / الضاحكة / الباكية / المنددة / الساخطة ... و تشد مسامع الجمهور، كما على خشبة مسرح تراجيدي، كما حركية حلزونية في الخيال بين إسراء و معراج... تنسى عالم الحواس، تنسلخ عن واقعها لتلج ملكوت الشعر، و كأنها تؤدي شطحات بالصوت و الحركة، تحيي بها شعائر و طقوسا صوفية
:كتب الباحث سليمان الطعان في هذا السياق
"تقوم الصيغ بدور العوامل المساعدة على نظم الحديث الايقاعي.. فالشعر الشفوي (المسموع في سياقنا) يتحرك ببطء شديد، قريبا من بؤرة الانتباه، و محتفظا بالكثير مما تناوله من قبل..."
و من بين هذه الصيغ، توظيف "لازمة" (جملة أو عبارة مكررة على رأس كل مقطع من نفس النص)، تفيد حسن التخلص من غرض إلى آخر.. و تستعمل أيضا كتقنية لمحاورة الجمهور بطريقة غير مباشرة: تجعله يسرح تارة.. يغيب.. يغفو.. يستيقظ.. يحزن.. يتألم.. يضحك.. يستلب.. يسقط.. و يقوم
"..و من أجمل الأمثلة التي استعملت فيها الشاعرة هذه التقنية، نقرأ هذا المقطع من نصها تحت عنوان: "تأن قليلا
..تَأَنَّ قَليلًا
وأنتَ تُعِيدُ الرَّصاصَةَ لِسَواقِي الرُّوْحِ
فَلَمْ يَمْتَلِئْ قَلبي دَمْعًا
وَلَمْ يَرْتَو ثَغْرُ القَصِيدَةْ
تَأَنَّ قَليلًا لا لِشَيْءٍ
إلّا لأُحَدِّثَك عَنِ الشموسِ الخَضراءِ
(...)التي تُخبِّئُ من الأحلامِ الكثيرَ
..تأن قليلا
لا لشيء..إلا لأحدثك
عَنِ العَويلِ وخَفْقاتِ القلوبِ الخافِتَةْ
عَنْ المَنادِيلِ المُلَوَّحَةِ في عَينِ الشَّمْس
عَنْ نجوم تاهت في رَماد الأحْلامِ
قليلا تَأَن..َّ أيُّها المَوتُ
وَلا تَقُلْ حان مَوعِدي
لأُخْبِرَك عن قامُوسِ وَيلاتِنا
عَنْ مَراثِيَ لمْ تعُدْ تُلملِمُ جِراحَنا
قليلا تَأَنَّ..
.لأُخْبرَك عَنْ وَطَني
"...آهٍ .. آهٍ يا وطَني
:كتب الباحث أمين يوسف
" تمثل المقامات والأحوال واحدة من ثلاث ركائز يقوم عليها التصوف هي: الشريعة، والطريقة، والحقيقة، ، ولقد ظهر أن أغلب مادة الشعر الصوفي قوامه المقامات والأحوال
عند الشاعرة جنان الحسين، ركيزة الحقيقة هي لب و جوهر رسالة الشعر... و هي جد واعية بأن المقامات المعتمدة سواء في مضامين أشعارها، أو من خلال الايقاعات الداخلية لنصوصها، أو من خلال قراءاتها الجهرية المنفعلة.. تشبه مقامات شعر المتصوفة... في بحثهم عن الحقيقة... و عن "حلول" الشاعرة في النص، و "حلول" القصيدة في كاتبتها، قرأت جنان الحسين النص التالي تحت عنوان "رقص صوفي ، و كأنها في محراب زاهد متصوف تدعوه لعشق من نوع آخر، و منه هذا المقطع
مزق رداء الخجل"
وراقصني كصوفية
تتدثر بك
كي لايفاجئها الفجر
وأخلع عني
ثوب الوقار
وأشعل صمتي
لأعمدك بشال المساء
وبندى الوجد والدهشة
اغف على كتفي
وارسم تفاصيلي
على خد القمر
واجعل رذاذ عطري
"...يهجع بأوردتك
*********
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire
Remarque : Seul un membre de ce blog est autorisé à enregistrer un commentaire.