صغيرا كنت و كان أبي ينسج تذكارات تقليدية للأجانب ، أبيعها بكل اللغات ، لم أعرف متى وكيف تعلمت الفرنسية والاسبانية والإنجليزية ولغات أخرى ، لم ألج مدرسة بعد ومع ذلك ..
أطفال مراكش يتكلمون كل اللغات ، ويتقنون كل اللهجات ، وتبقى ساحة جامع الفنا مدرسة لكل المهمشين ، الضائعين ، الباحثين عن لقمة عيش...
كان هناك اتفاق أو لنقل شبه اتفاق مبدئي ، بيني والوالد ، آخذ بموجبه خمسة دراهم عن كل تذكار أقنع السائح بشرائه . دراهم أبي رغم هزالتها فتحت لي العين على ملذات الحياة ، فصرت لا أميز بين حلالها و حرامها ...
ملحوظة لابد من ذكرها ، أبي كان يحاول ـ من حين لآخر ـ أن يخدعني عند تصفية الحساب ، ظنا منه أني لا أتقن حساب ما فوق الرقمين ... أمثل دور الساذج بإتقان فينهار ويسقط بسهولة في شباكي .
معمل أبي الصغير ، مشيد ـ بشكل كاريكاتوري ـ هندسة لا مثيل لها ، مقارنة بكل أنواع التصاميم في العالم ، إنه أشبه بفطر بري ظهر ذات صباح في هذا الحي الشعبي الموغل في القدم . أمصفح القريب من الولي الصالح سيدي عبد العزيز التباع .
حاولت معرفة أصل التسمية ، لكن دون جدوى ، لا وجود في هذا الكهف الصغير لأي شيء يحفظ كرامتنا ...
كبرت في هذا الفضاء ، و كبر طيشي و معرفتي بأمور كثيرة ، وبدت لي مراكش ، الساحرة ، الفاتنة ، كعاهرة تفتح أبوابها لكل العابرين و الضائعين ...
جنسيات كثيرة مرت من هنا ، و كان أبي سيد زمانه في صنع هذه الهدايا ، من بقايا الخيوط المهملة ، حيث كان يمسك ما فضل من السدى و لخبال ، و يجتهد في جمعها وربط بعضها ببعض ، و تشبيكها لتشكيل لوحة إبداعية رائعة ، و يفتخر كثيرا لكون هذه التذكارات مسجلة باسمه .
الأجانب يقدرون العمل اليدوي ، و يهتمون بهذه التحف ، و التي يتم صنعها أمام أعينهم ، يلتقطون صورا للمنتوج ، وهو قيد التصنيع ثم تكتمل فرحتهم عندما يصبح بين أيديهم ...
أذكر ذات صيف ، حلت عندنا أسرة فرنسية ، المرأة الحامل وزوجها و ابنتهما ، اقتنوا مجموعة مهمة من الهدايا ، كان المكسب كبيرا ، أخذنا صورا تذكارية بجانبهم ، و حتى يعبر أبي عن فرحته و سعادته ، فقد أعد لهم شايا على الطريقة المغربية . تتكلم معي الفرنسية الحامل ، أعجبتها لكنتي ، أعجبني شكل بطنها ، تلمس يدي من حين لآخر، يدها ناعمة وهادئة ، ويدي خشنة و خجولة . كم عشقت وقتها لمس بطنها ، إحساس جميل هذا الذي أشعر به كلما فكرت في الأمر.
أتخيل اليد الخجولة ـ يدي ـ تلامس البطن الناعم ـ بطن الفرنسية ـ و تحدث تلك الدغدغة الغريبة ، أتخيل حركات الجنين و هو ينفلت من ارتعاشات اليد و إحساسه بأن جسما غريبا يقض مضجعه و يعكر صفو إقامته المؤقتة ، فيصير الجنين سمكة ، وبطن الأم بحرا ، و أنا التائه المشتعل والمنشغل ، الباحث عن المحار في أعماق البحار . إحساس أكثر من رائع ...
كل الأجناس البشرية تعرفنا عليها في هذا المعمل الصغير ، وكل كلمات الترحيب والإطراء واحترام الغير ، تعلمناها هنا ، لم نكن في حاجة إلى معلم لغات ، ولا كتب صفراء تعلمنا كيف نتكلم في خمسة عشر يوما ، هي الممارسة فقط و ربما هي الحاجة ...
حتى أبي وفي غيابي ، يتفوه ببعض التعابير الأجنبية ، وبشكل يدعو للضحك ، يتكلم اللغة دون معرفة ماهيتها ، يبيع منتوجه حتى بالإشارات إن اقتضى الحال ، دون الحاجة إلى خدماتي المؤدى عنها سلفا...
يقول أبي ـ والله أعلم ـ أن نبي الله إلياس ، كان نساجا ، ناسكا ، متوحدا وزاهدا في الدنيا ، ذاق لذة اللقاء مع الله ، وعاش في كهف أعلى الجبل ، يلبس جبة صوفية ، كان هو صانعها ، وهي معروضة الان في متحف غربي ، في بلاد بعيدة ،ولا أصدق هذه الرواية لعدة اعتبارات لاداعي لذكرها الان ، وأكتفي بالقول بأن أبي غالبا ما يجمعنا حوله ، ويحكي لنا عن بطولات وملاحم زائفة ، أحيانا كثيرة يكون هو بطلها ، ونبقى مندهشين لطريقة سرده ونسجه حتى يغالبنا النوم دون معرفة أصل وفصل الحكاية ...
فقط يختمها بلازمته المعهودة : ومشات حاجيتي مع الواد الواد و بقينا مع لجواد ...
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire
Remarque : Seul un membre de ce blog est autorisé à enregistrer un commentaire.