dimanche 11 septembre 2022

سلوك القطعان :8 // أحمد البحيري // مصر

 

بينما يبتدئ عمله يرن الهاتف. لم يكد اليوم يبدأ وهو يتجنب المفاجآت خصوصا بأول النهار. وحين لا يتناغم مع وقته ويشعر أنه لم يستغله كما ينبغى، يرد ذلك إلى بدايته السيئة. بعد معاودة طلبه فتح فريدى الخط؛ فإذا بقسم شرطة ( سان جورج). ويسلي ابنه يتصل من هناك. أوقفه البوليس فى المحطة، ولتوه يصل إلى القسم، وهذه المكالمة حقه الذى كفله القانون. ويسلي لم يكن وحده حين تم توقيفه، كان مع رفيقيه البهجة وسليمان فى طريقهم للضاحية المذكورة. نزلوا من المترو وأخذوا القطار دون تذكرة. ولما أوقفهم ال ( كونترول) وسلمهم للشرطة وتم تفتيشهم، وجدوا لدى كل منهم سجائر ملفوفة بالحشيش مما أغاظ أفراد الشرطة الذين أوقفوهم. سألهم أحدهم: هل تشترون الحشيش ولا تشترون التذكرة.؟ رد ويسلي: أولا نحن لا نشترى الحشيش. قاطعته شرطية تحسب نفسها ( فان دام): من أين تحصلون عليه إذن؟ كانت تستعرض قوتها وتضرب على السلاح المربوط على خصرها تارة، والقيد الحديدى المعلق على إليتها تارة أخرى. اقتحمهم البهجة وهو يقول: نحصل عليه من غابات بولونيا، متى تأتى معنا؟ وفى سرعة البرق هجم الشباب الثلاثة على الشرطية وطرحوها أرضا. كانوا يتفانون فى صنع ذلك ولو قتلهم زملاؤها. ولما اجتمع رواد المحطة حولهم على الرصيف، حملوا عليهم بمنتهى العنف، قبل تقييدهم وحملهم إلى القسم. لقد فزع فريدي من مكالمة ولده وحاول موسى أن يطمئنه. خرج من مبنى الشركة يركض خلفه ويرفع صوته حتى يسمعه. ولما ركب سيارته وحاول الركوب معه منعه وهو يقول: ابق أنت هنا لآخر اليوم، وسوف أتصل بك. وهو بالطريق اتصل فريدي بجو فأرسل مدير الشؤون القانونية له على القسم. حياه فريدي حين رآه ودخلا على الشرطية التى وقع عليها الاعتداء. كانت قد أعدت بلاغا بالواقعة، وتودد إليها مدير الشؤون القانونية حتى تتصالح. قال: أنت بعمر ابنتى وتعرفين هؤلاء القطعان. إن لديهم ازدواج فى الشخصية. أغلبهم نتاج لزواج مختلط ومنقسمين على أنفسهم. فرنسيون وأجانب في الوقت نفسه. يتعاملون مع الأجنبى كفرنسيين، ومع الفرنسيين كأجانب. أنت مسؤولة وهؤلاء طلبة جامعة، ولابد أن مستقبلهم يعنيك. قال شرطى كان يتسمع عليه من قريب: أنت تعرف كم يتشاجر هؤلاء معنا كل ليلة بالمدينة؟ قد نتسامح كثيرا من أجل مستقبلهم، لكن القانون يرد إليهم صوابهم. قال فريدي: الشرطى في الشارع لحماية هؤلاء لا للاعتداء عليهم. تنمر السيدة على الأولاد واظهار قوتها هو ما تسبب في ذلك. قالت الشرطية: وكيف لا أصنع ذلك وأنا أرى هيئتهم واشاراتهم وايماءاتهم؟. اللعنة على هؤلاء!! يستفزون أفراد الشرطة التى تحرسهم ويتشاجرون معهم ويخصون منهم النساء. ضحك مدير شركة جو القانونى وربت على كتف الشرطية وهو يقول: اعتذر لك ويعتذر لك والده، وهذا كارت شركتنا لو احتجت أى شىء فى تركيب الأرضيات. والأولاد الثلاثة سوف يعتذرون لك ويقبلون يدك. أنت جميلة كابنتي ولن تردى وساطتى من أجل مستقبل هؤلاء الصغار. وفى آخر السباق احتوى مدير الشؤون القانونية الأمر. وتم تقديم البلاغ والتصالح معا لإدارة القسم. وانتظر الشباب الثلاثة ستة أيام فى الحجز حتى تم عرضهم على القاضى وخرجوا.
***
بمجرد عودة ويسلي للبيت قصد زيارته المهنؤون. الصيدلانية بندكت رأته ينزل من سيارة أبيه؛ فصعدت السلم خلفه. ما كانت إيڤا تعمل بهذا اليوم بل جون ماكين، حيث يتناوبان على مساعدتها على مدار الأسبوع، بالإضافة لعاملتين وثلاثة من الصيادلة الحكوميين. فصيدلية ( مونتري) كبيرة وتأخذ ناصيتين، وتقبل بصرف تذاكر التأمين الصحي ، ومخارج المترو الأربعة بالميدان تفضى إليها. صعدت العجوز إلى الطابق العلوي مستعينه بالسور المعدني، وما كانت إيڤا قد أطلقت ولدها من حضنها بعد. ولما التفت إليها قبل يدها كعادته، وعاونها حتى بلغت الصالون، وذهبت أمه تعد لها عصير الليمون. أخذت الصيدلانية تبسم وهى تقول: منذ كنت رضيعا وانا أحبك أكثر من غيدي وبولا. تعرف ذلك إيڤا وتسمعه أنت لأول مرة. وكلما كبرت فهمت لم أخصك دونهما؟ لكن إن أردت أن تكسب خبرتى، فابق كما أنت ولا تتغير. اصنع ما شئت وقتما شئت، طالما تدرك أنك على حق. وبعد فراغها من عصير الليمون بقى معها حتى عادت أدراجها. ثم حل المساء وجاء غيدي وراشيل تحمل إيڤا الصغيرة. كانت متحفظة على صنيع ويسلي ورفيقيه. ولما رأت والديه وعماه نبهته أن ما صار له يعد سابقة خطيرة في تاريخ العائلة. وهنا صار العم جيرار يتحدث عن الجيل الثالث غير المنضبط وما تتناقل عنه من أخبار. حين تكون المصيبة عامة يصعب معاتبة من وقع بها. والطبيعة لا ترحم من لا يحترم سنتها. هذا الجيل نتاج تناقضات المدينة الصارخة، ولا ينحاز لغير المهمشين. احتجاجهم على السلطة ظاهر في كل شيء، فى الإيماءات والحركات ولغة الجسد. لديهم لغة غير منطوقة تعجز أحيانا عن فهمها. حتى الأزياء التى يرتدونها والأغاني والموسيقى التى يسمعونها. كأنهم يقلدون ما يصير بالمحافل الماسونية كل قطيع على طريقته. ارتفعت عقيرة ويسلي فقهقه بصوت مخنوق، وظل يسعل حتى تنخم في منديل ورقي أخرجه من جيبه على عجل. سأله العم دونى: هل صرت تدخن؟ خلع نظارته الطبية الخفيفة عن عينيه، وفرك وجهه ال ( فوتوجنيك)، بلحيته القصيرة التي حددها بعناية، وأخذ يقول: ليس بعد. لكنى أمضيت ستة أيام بين أناس لا تكف عن التدخين. قال العم دونى: وما الذى جعلك تضحك هكذا كمجنون؟ رد ويسلي: لا شيء لا شيء. عمى جيرار يتحدث عنا كما تحدث القاضى. أنا لا أعرف كيف يصنع الماسونيون في محافلهم. لم أدخل عندهم مرة ولا أحبهم. فكيف أتشبه بهم؟ قال العم جيرار: يا ولدى اسمعنى جيدا. لا أنا ولا أبوك ولا عمك دونى ذهبنا لقسم الشرطة ولو مرة واحدة. لا أريد سماع سفسطة من أى نوع. نحن نعمل فى السوق ولنا سمعتنا. هذه السمعة هى راس مالنا الحقيقى. وعليك المحافظة عليها، على الأقل مادمت تعيش بيننا. تحامل ويسلي على نفسه أمام إجماع العائلة. ظل يسمع ويهز رأسه ولا يتكلم. وكان ينصت كثيرا لما يقوله والده رغم أنه لم يقل الكثير. فلطالما ظل يروح ويجيء فى الرواق الذى رسمه أخوه الكبير. أما إيڤا التى انشغلت مع راشيل بالطعام والشراب، فقد تأخرت بعقلها عن نفسها، لتستمتع بعودة ولدها الغائب.
***
فى صباح اليوم التالي ذهب ويسلي مع أصدقائه إلى متنزه باب الذهب. إنه أغسطس ولم يتسن له ترك المدينة هذا العام. نحو ستة عشر شابا كما هو العرف لأبناء هذا الجيل التقوا عند بوابة المتنزه، وزاروا الأحياء المائية قبل دخوله. هذا المنظر الذي تجده أينما وجهت وجهك بالمدينة هو ما تسبب فى وصفهم بالقطعان. تراهم بالليل يسدون الشارع الذي يمشون به، ويعيقون الحركة. يمشون على الرصيفين وبنهر الشارع ولا يخجلون. منهم من ينظر للخلف ومنهم من ينظر للأمام. وإذا حكى أحدهم نكتة وأعجبت رفيقه، لا مانع لديهم من القهقهة حتى السقوط على الأرض وتعطيل السيارات المارة. فى أيديهم عبوات البيرة الالومنيوم أو لفافة الحشيش، والكلاب التى بحوزتهم من السلالات الشرسة. فربما دارت رؤوسهم واتفقوا على تثبيت من يرغبون بأى وقت ومكان. لقد اجتمعوا احتفاء بحرية الرفاق الثلاثة. والمتنزه من شدة اتساعه يحتاج إلى يومين لتفقده. كل الزهور والورود التى تسمع عنها موجودة هنا على مدار العام. ومن الصيفى فيها ما يبلغ المترين كالقطيفة والكوكيا وست الحسن. ومنه ما يصل الى المتر كالهجينا، ومنه ما لا يزيد عن عشرين سنتمترا كرجلة الزهور. فاختر لنفسك ورفيقتك دغلا تكثر فيه الأزهار. أما البحيرات والطرق المعبدة والجسور والهضاب والصخور والينابيع ؛فهذا أكثر ما يحوز على اهتمام القطعان. إنهم بريون وينتمون للزرع والماء، وحبهم وولاؤهم لبعضهم البعض أقوى من العصبة والعرق. لو أراد ضابط الامن الوطني شيئا عنهم سأل رفيقه لا والده. وبحكم مراهقتهم يستفرغون قوتهم بين تلك الأشجار. يتصرفون كأن المتنزه بيتهم. ولكل منهم ذكرى تتعلق بالنشوة في أحضان الطبيعة الأم. لو فحصت الأشجار السامقة في الغابات والحدائق والمتنزهات، لوجدت عليها الوشم والأثر. وكلما أوغلت فى الخطوط المزروعة بانتظام وهندسة، وجدت شيئا يخص القطعان. عشرات من الواقى الذكرى والسوتيانات وبعض أحذية تختلط بالأوراق الجافة والصفراء في الممشى. الطريف أنهم يمارسون طقوسهم كما يحلو لهم، ولا يقبلون بالشذوذ. عند الصخرة التى ينبع منها الماء بالمتنزه تجمعوا كل واحد ورفيقته. ثمة مغارات بين الحجارة تسترهم حين يقبل بعضهم بعضا ويتعانقون. لا ينظر واحد منهم للآخر، ويتصرفون كما يشاؤون. وبينما هم كذلك صاح أحدهم: هناك أربعة يختبؤون في الحشائش. كانت هذه الجملة كفيلة بأن يترك كل واحد فتاته ويتبع مصدر الصوت. فالحشائش حول النبع عالية وكثيفة، والشمس تجمع ضوءها وتغيب. لقد ركض كل اثنين في جهة حتى أمسكوا بهم. مثليون يتلصصون على عشاق المتنزه بدافع الفضول. سليمان قبض على واحدة خشنة من فصيلة المراة الرجل. ذاك النوع الذي يقوم بدور الرجل فى السحاق. كان معه رفيقه إيفان الذي تعلق بعنقها وراح يسحبها كما يسحب الكلب. والبهجة الذي صاح أولا بسبب ارتفاع حدسه الأمنى، قبض على واحد من فصيلة الرجل المرأة. ذاك الذي يقوم بدور المرأة في اللواط. كان معه رفيقه بيير الذى أشبعه ضربا على إليته. فى حين قبض ويسلي على واحد من فصيلة الرجل الرجل. ذاك الذي يقوم بدور الرجل فى اللواط. رفيقه أرتور وصل إليه قبله. لقد نهض من بين الحشائش وانطلق مثل قوس. لكن أرتور العداء الماهر دهسه حين وصل إليه. أما فان سان ورفيقه أمادو فقد قبضوا على واحدة من فصيلة المراة المرأة. ذاك النوع الذي يقوم بدور المرأة في السحاق. تغيب الشمس والقطيع يتسلط على هؤلاء الذين يضادون الطبيعة الأم. ياخذون من تحت أرجلهم ويضعون على رؤوسهم. ولا صوت يعلو على صوت الضحية. أفراد القطيع لا يتكلمون في حفلات التنكيل. والنسوة تتغامز وتضحك وهى تتسمع علي استغاثاتهم. ولما حان وقت الإغلاق فى الثامنة مساء، بقى الضحايا بين الحشائش لا يستطيعون مجرد النهوض.
***
أتى سبتمبر آخر أيام العطلة الصيفية، وما أخذ القطيع ما يلزمهم من الراحة. كانوا يهتمون بدخول السينما والمسرح، وتعجبهم تلك الأعمال المأخوذة عن نصوص أدبية. وكثيرا ما كانوا حريصين على مسرح ( أوجين يونسكو) بأعماله الغامضة، ومسرح ( لو شاتليه) بأعماله التراثية. إنها الثقافة التى تربوا عليها وتظهر فى النقاش لهم حفلة كل شهر مع قوال أو مطرب تراثي من جنبات هذا الكوكب. يستمتعون بالموسيقى ورونق الأداء وإن كانوا لا يعرفون اللغة. ويفضلون من الكتب الصادرة حديثا النفسي منها وما يتعلق بالديانات الأولية والحضارات القديمة والآثار. كما أنهم يعشقون الرياضة والموسيقي والرقص، ومنهم من برع في ذلك وصار نجما كالعداء أرتور والشاعر فان سان. أنهم غير خاوين كما يتم تصويرهم عبر قنوات الإعلام. بل يمكن القول أن مناخ المثاقفة لديهم يختلف عن الجيلين السابقين. ففى شخصية كل منهم تيار حضارى يختلف عما بالمدينة، وقد يصادمه. إنهم يشبهون هؤلاء الطلاب الذين يتعلمون الفرنسية لتعليمها لغير الناطقين بها. إذ عليهم اتقان لغة البلد التى سوف يذهبون إليه، والأخذ بنصيب من تاريخه وحضارته. الازدواجية المطلوبة لهذا العمل تتوفر بشكل طبيعي في أبناء هذا الجيل. ومن هذه الازدواجية أيضا ينحاز القطعان إلى الضعفاء. فان سان الذي ولد وفى فمه ملعقة من الذهب صار رفيقا لأمادو الذي جاء من أبيدجان. صحيح أنه تعرف عليه بجمعية سوغولين أفريقيا، غير أن روحه الطيبة ما كانت لتفرح حتى يعثر عليه. إنه المسؤول عن إخراجه من مثاليته وطوباويته. منذ عرفه وهو يقص عليه تاريخ المدينة الدموى في إفريقيا. كيف يعيش المستعمر وكيف يقاسي الضحية. عرفه بأشياء لو لم يعرفها ما انخرط في سلوك القطيع. وكلما عاد فان سان إلى الكتب وجد كلام رفيقه صحيحا. فى تلك الأوقات تخفت فى ابن الجنرال الغطرسة والعنجهية، ويزداد حبا للضعفاء. لقد تغيرت نظرته لهؤلاء الشاردين بالمترو جراء أمادو. خرجا من الجامعة معا في الثامنة مساء ونزلا المترو بمحطة ( كلونى لا سوريون). وعلى الرصيف الخالى بهذا الوقت، كانت واحدة من هؤلاء فى حالة غريبة. وجهها المستدير جميل المحيا، وقد حفت شعر رأسها بالموسى، ومن ثيابها البالية تفوح رائحة مزرية. تمشي على حافة الرصيف تكلم نفسها، وكلما رأت عقب سيجارة على الأرض سارعت إليه وأشعلته. مشى إليها فان سان بتخشع وأخرج سيجارة من علبة تبغه ليناولها إياها. لكنها فأجاته بقولها: أشكرك، أنا لا أدخن، وسرعان ما تركته وابتعدت. في هذا الوقت راح أمادو يدمدم ويقهقه مثل طفل. إشارات جسده كانت تقول أنه أخطأ الطريق إليها، شأن أي امرأة ترفض من يغازلها. سأله فان سان: لكن كيف تدخن فى المترو؟ قال أمادو: لا عليك أنت، فالقانون يسمح لها. انظر وتعلم كيف تتعامل أيها الفتى المدلل. أمادو طويل وملامحه الأفريقية عذبة ومريحة. ذهب يمشي مشيتها كأنما يترنح حتى يصطدم بها. انتظر حتى استدارت هناك على آخر الرصيف، وغدا يتحرك بأوله. ذراعاه الطويلتان خلف ظهره معقودتان على حافظة كتبه الجلدية، ويشيح بيسراه بين وقت وآخر لشخص غير موجود. ولما اصطدم بها، سقطت من يده حافظة الكتب؛ فجلس يلتقطها وينظر للمرأة التى راحت تساعده وتعتذر. لاطفها حتى صارت تضحك بغيظ مثل طفلة تخاف عقابا. وما هى سوى بضع دقائق وناولها أمادو السيجارة واشعلها لها. فى أعقاب ذلك قضى فان عدة سنوات يتفقد هؤلاء.ينتظر ليالى وأيام العطلات، ويجوب الساحات والمترو وشاطئ النهر،وإذا لاقى أحدهم ما تركه حتى أهداه علبة تبغ.
***
فى الأسبوع الثاني من سبتمبر ذهب القطيع الذى تكون بحكم العادة إلى بيت ثقافات العالم. أمسية دعا إليها البيت تناقش بعد عقد ونصف، تأثير سقوط يرجى منهاتن على دائرة المال والأعمال. وكان الضيوف الثلاثة، أمريكيان وفرنسية تنتمى لليمين المتطرف. وحولهم في الصفوف الأولى هؤلاء الطلاب الحاصلين على منح دراسية من السفارة الأمريكية في المدينة، وبينهم مولودة إبنة جزر القمر التى تركت الإسلام واعتنقت ديانة لم يتم الكشف عنها بعد. والملابس والتنظيم والشعارات، جعل أفراد القطيع الستة عشر يتهامسون فيما بينهم: أين نحن بحق الجحيم؟ بدأت الأمسية بعرض شريط مصور مدته عشرون دقيقة، ولما شاهده القطيع ارتفع همسهم وصياحهم الساخر. لا يختلف الأمر كثيراً عما يجري في هوليود على أية حال. خمس دقائق منه تقرر أن اقتصاد العالم أصيب بكارثة، وان أمريكا أكبر المتضررين. وبقيته يهتم بشهادات مرسلة لضحايا عن العنف والإرهاب. وإذ يتحدث الأمريكيان التابعان لل CIA، يفوح من حديثهما الانتحال والخبل. من صفات القطعان أن أحدا لا يمكن خداع عقولهم أو إقناعهم بغير ما فيها. وإذا ضاقت عليهم الدائرة واشتد الحصار، لجؤوا للهمز واللمز وتعاملوا بلغتهم غير المنطوقة. لقد هاجوا دون ضجيج واعادوا توزيعهم فى البيت بما في ذلك صفوف الطلاب الذين يجلسون أمامهم. ولما تحدثت مسؤولة حزب القوة الوطنية، وجدوا لسانها أحد من ماري لوبان. فى هذه الأثناء، هجمت عليها خطوط الليزر الحمراء من جنبات القاعة. لم ينبس واحد من الفتية ببنت شفة. فقط وجدوا سليمان والبهجة وويسلي يلعبون فلعبوا. بضع ثوان وتوقفت المراة عن الكلام دون أن تتوقف الخطوط الحمراء التي تحاصرها. وهناك سألت فى ريبة: ماذا هنالك؟ وما الذي تريدون؟ سألت وما سمعت سوى همهمات وأصوات مكتومة غير واضحة. وهنا صرخت وهى تحجب وجهها: ماذا تريدون؟ ردت رفيقة أمادو الأفريقية: نريد خطابا خيرا من هذا. حفظنا تحذيركم من خطورة الإسلام فما الجديد؟ وما الذى ينبغي لمثلكم أن يقولوا؟ أما تستطيعون الوقوف على نكباتكم بمعزل عن الإسلام؟ بدأت رفيقة أمادو وتوقفت الخطوط الحمراء وانقلب البيت رأسا على عقب. لم تنته السيدة من إلقاء دراستها ولم يحن وقت إلقاء الأسئلة، لكن القطيع عجل بها. كانوا يستفهمون ويستدركون ويلقون الأسئلة ولا ينتظرون إجابة. صديقة فان سان وصفت ذكرى سبتمبر بأفول نجم أمريكا رغم قطار العولمة الذى لم يتوقف. وقالت رفيقة العداء أرتور: لقد اعتادت أمريكا الاحتيال على العالم. فى أول سبعينات القرن الماضي احتال نيكسون ونقل لخزائنه ذهب العالم. خدع الناس بما أسماه الغطاء الذهبي للعملة. وقبل نهاية القرن عادوا مع فرض العولمة على البشرية فرضا. والهدف زيادة إفقار الفقير وتضاعف أموال الغنى. لكنهم اليوم يتخبطون، وراياتهم تتنكس فى كل مكان. وكاد التنين الصيني يستحوذ على كرسي شرطى العالم. حاولت المنصة الرد لكن القطيع لم يدعها. كان كل منهم يطلق ما اعتمل بصدره مهما كان خطره. إنهم يعلمون بوجود العين الزرقاء فوقهم، ولا يبغون شخصنة الأمور. يأخذ بعضهم من بعض فى حديثه، والبقية تهيئ له أجواء الاستماع. يقصون الأحاديث الجانبية، ويصنعون بأصواتهم حركات غطيط وشخير. وإذا ران الصمت أطلقوا ما فى صدورهم من شكوك ووساوس. وقالت رفيقة ويسلي: لماذا تظنون أن معدل الجريمة يزداد بين المهاجرين بالمدينة لمجرد وجود المسلمين؟ شريطكم الذى رأيناه يصر على ذلك. لى أربعة من الاصدقاء المسلمين ليس بينهم مجرم واحد. وهنا وقف سليمان وراح ينظر للسيدة التى لم تكمل دراستها ويقول: أنتم تشيطنون الإسلام. لازالت أفكار صاحب الكوميديا الإلهية تحكمكم. أحكامكم المسبقة عن محمد والمحمديين. أليس بينكم ( كارليل) أو ( مايكل هارت) ليثبت له البطولة!!. الإسلام هو الشر المستطير الذى يتربص بالمدينة. وهو المسؤول عن التصنيع النووى وزيادة حرارة باطن الأرض والتغير المناخي. وهنا بدأت القهقهة والضحكات الساخرة تتعالى، واعترض عريف الأمسية بشكل حاد. كان يحاول رد الأمسية إلى ما خطط لها لكن القطيع لم يسمح له بذلك. سرقوا منه الحفل وراحوا يتناوبون دون إذن على الكلام. لم يبق منهم واحد لم يتكلم، ولم تتمكن الدعاية المضادة رغم قوتها من اسكاتهم. ثم تسلطت رفيقة سليمان على مسؤولة اليمين المتطرف وراحت تقول: لماذا لا تتحدثين عن العنف تجاه المرأة إلا إذا وقع على امرأة مسلمة؟ وحين تهاجمين يتوجب عليك مهاجمة الاسلاميست لا المسلمين. أما يقع عنف على امرأة غربية؟ أما تجدين فى المثليين عنفا ومصادمة للطبيعة؟ هل لديك احصاء عن زنا المحارم بعاصمة الأنوار؟ ثم أشعلت ضوء الليزر الأحمر في وجهها وهى تقول: أنت باحثة واعترفت في لقاء تلفزيوني أن والدك اغتصبك عدة مرات. السؤال الان: هل ضعف الإسلام وانحسر جراء هذه ال ( فوبيا) ؟ كيف ذلك والارقام تقول أن عدد المسلمين بأمريكا تضاعف أربع مرات منذ تفجيرات 11 سبتمبر؟ فى هذه اللحظة ظهر صوت ويسلي وسليمان والبهجة وهم يطلقون إيماءات الإنذار. وفي بضع دقائق كان القطيع خارج البيت ونشاطه.
***
هكذا يتصرف القطعان. الصنف الثالث من رجال الحكم يصفهم بجيل القيامة. معركة ( هرمجدون) يمكن لهم جلبها بأى وقت. هؤلاء ال ( فناتيزم) الذين ينتشرون في الكوكب بين يدى الساعة. ويعلل وجهة نظره بالأدلة والأسانيد. غير أن هذا الرأى لا يجد رواجا نظرا لخلفيته ال (ميثولوجية). والمضطهدون والشاردون يجدون فيهم الخلاص. هؤلاء من يرد لنا حقنا ويمنحنا ما سلب منا. وهناك من رد اختلافهم إلى تعقيد النشأة. ينظر هؤلاء من أعلى نقطة على المدينة العلمانية نظرة واحدة. وقد استطاعوا رصد التعدد والتنوع وصراع الحرية الشخصية وحرية الاعتقاد. أغلب المشاكل ترجع لحرية الاعتقاد. المؤمن يجود بروحه راضيا من أجل الله. ثمة مذاهب وجماعات بالمدينة تغتال بعضها بعضا.. لا تتصادم فقط، بل يصل الأمر إلى الإبادة. هذا نتاج صراع الوجود والعدم. مع كل أشكال وجودى لا يسعك إلا أن تكون أو لا تكون. حين تنشأ وبشر لا تعرفهم يتربصون بك، تزداد لديك الإيماءات والرمز ولغة الجسد. هذه العلامات تكونت لدى كل قطيع بحكم العادة. أما رجال الصنف الرابع من أجهزة الحكم؛ فتعرف هذا من ذاك على وجه الدقة. وتقارير الأمن وأطواق مراقبة القطعان تدق نواقيس الخطر على قدر الدرجة. هذا قطيع يسلبه الجنس ومطلبه الشهوات. والآخر جاحد لم يقنع بوجود إله المخلوقات.
والثالث يتحرى الأخلاق ويبغى سلام الكائنات. هى درجات عشر تميز هذا الجيل وأشهرها وأقساها مناكيد المحفل. تلتزم دعاة سلام وتراقبهم حتى تغفل. كم تشهد أرض الأنوار صدامات دامية كل مساء؟ لا تنظر فوق السطح وتزعم أن الناس انسجمت وتعيش بحال رخاء. غول تحت السطح وفى أعلى الآفاق أباطيل وسحابات نفاق. ونزاع يتنامى إذا جن الليل وعربد بجميع الفرقاء. كيد المأفونين ارتفع بتلك الأيام على أهل الإيمان. عرفوا كيف يثيرون حفيظتهم بتلاوين الإجرام. وإذا خبروا ما يردى مشاعرهم راحوا ينتخبوه لتشويه الأفكار. ماذا لو مرت تلك الصور الساخرة لرسام لا يعلم شيئا عن أهل الإسلام؟ لا يعلم زمن رسول الله ولا كيف أقام العهد مع أهل الأديان؟ لو خرج حكيم ليقول بأن الرسام يريد الشهرة وحصاد الأموال. لو وصف الرسم وقال خطوط لا نعرفها ولا تشبهنا؛ فكيف يرد مناكيد الشيطان؟ لو صار الأمر كذلك مات الباطل وارتفع رجال الحق إلى حد الاستنفار. والمأفون انكسر وما وجد سبيلا بين صفاء القلب ورايات الإحسان. ففى الاسبوع الثالث من سبتمبر بدأت أم البهجة والعائلة رفع الهمة فى رمضان. بدأت أيام الخير وكثرت في البيت أناشيد الاستغفار. مرت عدة أيام مثل نسيم لا ينقطع ولا تنقصه تلاوات القران. ثم تعكر نبع الماء وظهر قطيع فى درب السيدة بتلك الآثام. فيها إساءات لا تدركها المرأة وما سألت يوما عن نسبتها إليها. بل حسبت تلك الصور الساخرة لنفر منهم ضاعوا ووقفوا بهذا السوق ينادون عليها. كتمت شكواها وما نقلت فحواها وطلبت ممن تعرفهم من نسوة هذا الحي. تحيتهم حين يمرون عليهم. وبعد ثلاثة أيام جاء قطيع آخر يدعم أهل الشر ويرفع من سقف الاستفزاز. كانوا إذا وجدوا امرأة محتجبة أو منتقبة خصوها بألوان الإيذاء. دخلوا مسامعها بأصوات زاعقة منكرة وكلام تنكره الآذان. وإذا قللت من سوء القول أزاحوا عليها من سوء المنظر. ظهرت إيماءات فاجرة لا يمكن للحرة أن تنظرها وتغفل. أم البهجة تغدو وتروح بسوق الحى وطرقاته وعليها حجاب. ترعى أسرة تتكون من ولدين وبنتين وزوج قد أنهكه المرض من سنوات. وإذا وضعوا القطعان المارقة جميعا فى درب خطاها ما حادت في السعى ولو خطوات. تأمر من يشبهها من نسوان الحى بآداب الصوم وغض الطرف لمنع العثرات. تنصحهم أن الناس جميعا إخوة رغم الظلم وسوء الفعل وتعقيد الأحوال. فإذا لم تلتفت بدرب سبيلك. ما قوى هذا الظلم أن يهزم فيك الإنسان. أم البهجة تطلب ممن يشبهها الصمت عما يجري في الشارع فى حضور الأولاد. فالجامعة ابتدأت ودراستهم أولى من كل صنوف الآفات. هى تنهج ذات النهج من عدة سنوات دون كثير حصاد. تدفع قدر الإمكان ولا ترجو الدعم سوى من رب السموات
***
وفى يوم العيد اجتمع الأولاد جميعا فى شقتها دون حديث يذكر. كانوا على علم ودراية أن الحى اخترق من كهان المحفل. لم تكن المرة الأولى ولا الثانية وقد نام القانون ولم يتدخل. ماذا تصنع كل العربات المنتسبة للشرطة ليل نهار؟ تمشي وسط الناس وأجهزة التصوير تبث مباشرة لرجال القانون دون مداراة. لو وقع الحادث واتصل المرء بأجهزة الشرطة وصلت قبل بلوغ الخمس دقائق. وإذا عزموا أن لا يقع الحادث استبقوه ووقفوا بطريقه. أين كان الحراس بأرض الأنوار وتلك الأوغاد تنابذ أم البهجة؟ طرحتها ظلت طاهرة تمنح من ينظرها هدوء واطمئنانا. فى المترو وفى السوق وحين تسير مع الأسرة أو صحبتها. ما انتقص الرجس وأهل الأوثان ولو خردلة من بهجتها. بل إن لما يضنيها وتكابده بدرب الإيمان كبير جزاء. لو يخلو الدرب من العقبات فمن أين تشم العنبر؟ اجتمع رفاق البهجة عصر العيد وأكلوا وشربوا دون حديث يذكر. المعدة عادت بعد الصوم إلى العمل المتواصل. وعلى صنية أم البهجة: الترمس والحلبة والتمر والفول السودانى والجوز واللوز والبندق وعين الجمل والكعك والبسكويت. تعود القطيع أن يبارك لها عيدها وهو يأكل. كانوا لا يودون الحديث أمامها. ينتظرونها لتخرج من غرفة ولدها وإذا عادت إليها عادوا إلى الهمس والسكوت. قدرتهم على الصمت والتخفى واظهار المخفى وإخفاء الظاهر لا تحتاج شهودا. حتى أن الواحد منهم ورفيقته يمكن لهما إجراء حديث هامس لا يسمعه الجار. ورغم مرور الوقت عليهم ما وصلوا لنذير عقاب يردع أنصار الولهان. بدت البغضاء من السحن الكالحة وفى الاحشاء لديهم تشتعل النيران . والخرقات ازدادت والشرطة تتواطأ والشارع فيه عواصف تستبق الغليان. ثم انتظمت فكرة لازالت تتشكل فى أفق الهمس وتنتظر وضوحا وكمالا. تركوا أم البهجة ونزلوا بعد هدوء السر وإدراك الكتمان.جلسوا على النهر لمدة ساعة ونصف الساعة، واتفقوا على تحصيل خروقات جنود المحفل فى رمضان. لا يمكن أن نتركهم دون عقاب أو يكشف أحد منا بعد مباغتة النيران. هذا الشرط استدعى استدراكات من كل الأولاد وهم يقفون فوق وحول الكرسى الحجري على النهر. . أكثر من ساعة ونصف الساعة وهم جادون وحريصون على رد القهر. ولما اقتنع كل منهم فى داخله بالفكرة، علت النيران بتلك الأسوار وأكلت رجس المحفل.





Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire

Remarque : Seul un membre de ce blog est autorisé à enregistrer un commentaire.