أوشكت فترة حكم هولاند على الانتهاء دون الوفاء بعهوده. فشل ثلاثة من قادة حزبه الكبار من الوصول للبرلمان بينهم الجنرال زوج سوغولين. أحزاب اليمين ويمين الوسط واليمين المتطرف طمعت في الحزب الاشتراكي. استطاع هولاند جمع قادة أوروبا تضامنا معه بعدما أودى الإرهاب بحياة 238 شخصا من شعبه، ورغم ذلك تهاوت شعبيته. مارى لوبان صرحت منذ أيام أنها رئيسة فرنسا المقبلة. أربع سنوات وما تحقق حفظ الأمن وخفض البطالة وتعزيز الاقتصاد الوطنى. باستثناء خفض البطالة نصف في المائة ما صنع هولاند ما يذكر . كما أنه رفع حالة الطوارئ بعد الهجمات الإرهابية، وأدار عمليات عسكرية بمالى وأفريقيا الوسطى مرورا بسوريا والعراق، ظهر معه عجزا فى ميزانية حكومته. تعدد حفيدة عمدة تولوز فى الإخفاق الاجتماعى والاقتصادي والسياسي وتجزم أن رئيس حزبها لن يحكم دورة جديدة. لقد توقفت عن الاهتمام بالحزب ونشاطه كأغلب أصدقائها منذ مدة. ما عاد يشغلها من يحكمها، وإنما الوصول إلى خلاصها الفردى. لقد قرأت الكتب الأربعة وما اهتدت لجواب على السؤال. عاشت على درب الحكمة كل عمرها، فما الذي ينقصها؟ تحاول بلورة المفاهيم التى جادت بها الكتب حتى تفهم ما الذي أضافه الإسلام للبشرية؟ أدركت أن القرآن ليس معنيا بالسلوك الاجتماعي، بل إنه بلاغ إلى الذين يتخذون معايير مغايرة. وتلاحظ أن صورة المرأة فيه تختلف عن صورتها في تشريع الفقهاء. فالقران حقق تقدما يمكن أن تصفه بالثورى حين ساوى بين المرأة والرجل في زمن كنا نفكر فيه هل للمرأة روحا أم لا؟ وحساب الرجل والمرأة بعد الموت سوف يتم بنفس الطريقة. وفى الدنيا وأعمالها، أعطى كل منهما نفس الفرص والحقوق. القرآن لم يترك المرأة عديمة الاستقلالية، ولا فرض عليها وصاية، بل جعل لها فى الميراث نصيبا. تتساءل: إذا كان الأمر كذلك؛ فلماذا يسوء حال المرأة في البلاد ذات الأغلبية المسلمة؟ وهنا تتعلم أم أرتور الدرس الأول فى هذه المتاهة. الفرق بين الإسلام والمسلمين. أما اللغة الجمالية للقرآن فهذا أكثر ما راقها، وجعلها تفكر فى دراسة العربية. أدركت أم أرتور أن قراءة القرآن باعتباره وسيلة لتوصيل معلومات لا يعطى القران حقه. فهو كتاب يتسم بالشعرية ويستغلق على الفهم في كثير من الأحيان، ويحتوى على رسائل يصعب اخبارها بوضوح. كما أنها انبهرت كثيرا بتعدد جوانبه. القصص القديمة التى ذكرها الله لمحمد تجد منها المكررة، وفى كل مرة تجد السرد والتصوير من جانب جديد فى القصة . ربما يمكن إيجاز مقولات القران فى مقال قصير، لكن يبقى ذلك دون أى تأثير. يتعلق الأمر بحب اللغة والافتتان بها. إن أكثر من يستمتع بتلاوة القرآن هم أهل اللغة. والقرآن نفسه أشاد باللغة واعتبرها من أهم الهبات التى حصل عليها الإنسان من الله. فاللغة وسيط المعرفة، والقرآن فى صميمه دعوة للعلم والمعرفة.
*****
فى المساء اتصلت أم أرتور بموسى. وبعدما اطمأنت على يوسف ونداج، سألته أين يمكن لها أن تتعلم العربية الكلاسيكية؟ قال: بالمركز الثقافي المصري بالسان ميشيل. أنت تعرفين المكان. مقابل حديقة لوكسمبورج هل تتذكرينه؟ قالت وهى تضحك نعم نعم. يوم حضرت معكم مناسبة ذكرى شارل ديجول مصر ، الرئيس عبد الناصر ،ورايتك تلقى شعرا. هل تعلم أنه الوحيد الذي كان يسبق اسمه فى الأخبار الرئيس وليس ( لا بريزيدون). قال وهو يضحك: هذه جديدة ما كنت أعلمها. اسألى هناك. لديهم دورة لتعليم العربية الكلاسيكية، وأخرى للدارجة، لكن لماذا؟ قالت وهى لازالت تضحك: حتى أفهم القرآن كما تفهمه. سأل وهو لا يكاد يصدق: كما أفهمه؟ قالت: نعم كما تفهمه. أعرف أن ذلك صعبا لكنه غير مستحيل. لقد أحببت لغة القرآن وموسيقاه وايقاعه. الانسيابية فى ألفاظه وجوه الأدبى الجمالى منقطع النظير. كم تساوى الملاحم والأساطير والأعمال الأدبية الخالدة فى هذا الكتاب؟ لكن لدى تساؤل بخصوص معانيه. فهمت أن له معنيان، واحد قريب يرتبط بالعرب الذين نزل فيهم، وآخر بعيد يواكب المعرفة والعلم في كل زمن، فهل هذا بصحيح؟ قال وهو يحاول تعديل طبقة صوته حتى لا يبدو عليه الانفعال: أنت حقا من الأنفس الأبية التى لا ترضى بغير المعالى. ظهر لك شيخا كنت تحلمين به فى حزنك على جدك وأنت صغيرة. وسمعت القرآن فقط عدة مرات وتقولين ما تقولين. نعم تصورك صحيح. جمال لغة القرآن وبلاغتة كانت تحديا كبيرا لقوم برعوا في الشعر. كانت هناك وقائع وأحداث تنزل على إثرها الآيات على النبى. وهذا ما سماه المفسرون بأسباب النزول. والمعنى البعيد يعنى أن القرآن لازال يتنزل في حياة كل مسلم، لأن أسباب نزوله تبقى سارية، وهذا ما نسميه الإعجاز. أم أرتور تجرأت وسألته سؤالها المعضلة. قالت كثيرا ما أقول: إذا كنت بهذا التكوين الذي تعرفه، فما الذي ينقصنى للفهم؟ رد سريعا: كيف ذلك وأنا أثنى على فهمك؟ قالت: لقد أعجبك اهتمامى باللغة ومبانيها وبلاغتها، لكنى أتحدث عن الإسلام عموما الآن. أقصد الفقه والحديث والأحكام. قال: حسنا فهمت. يجب أن تعرفى أن هذه الأمور ليست سهلة ويشتكى منها المسلمون أنفسهم. يكفى الواحد منهم معرفة أشياء قليلة تجعله يميز الحلال من الحرام. إذ ليس مطلوبا أن يكونوا جميعا من رجال الدين. والله يسر القران للتلاوة لا للفهم. الفهم يأتى من كثرة التلاوة ويتفاوت حسب الثقافة والعقلية. أما عدم فهمك أنت فيرجع لسببين: الاول أفكارك المسبقة، والثانى محاولة الفهم من غير سنة. قاطعته: الاولى أعرفها؛ فماذا تعنى بالثانية؟ قال: السنة هى ما قاله أو فعله أو أجازه النبي. هذه السنة هى ثبت الإسلام. كل التكاليف فى العبادة والتعامل مع الناس يكونها. هى رؤية متكاملة إن شئت تسميتها. وما لم يكن الفعل أو العمل من خلالها لا تنتظري نتيجة. هل فهمت؟ قالت وهى تضحك: قليلا، لا أعرف. يبدو أن الأمر ليس هينا. يجب ان أراك. قال: وقتما يسمح وقتك أنا موجود. قالت: قبلة كبيرة ليوسف ولك. سأل باسما: ونداج؟ قالت بحزم وسط ضحكها المتقطع: دعك منها ولا تقبلها نيابة عني. بيننا لقاء بالعطلة وسوف أقوم بذلك. ليلة سعيدة.
*****
بعد حديثها مع موسي أدركت أم أرتور الدرس الثاني فى خلاصها الفردى: تناغم الأقوال والأفعال مع السنة. لا يهم أن تعرف كل ما جاء بتلك السنة من قوانين وأحكام، لأنها لا تعنى بالأخير سوى الفطرة السليمة. إذا التزم الإنسان بصيانة هذه الفطرة فقد أقام السنة. إن كثرة قراءتها عن الحرية والتنوير فى مكتبة جدها كانت تصطدم دوما بالأديان. التنوير ثمرة الحداثة، بينما الدين يدعو للتخندق والتحزب، بل ما جلب الويلات والحرب للكوكب سوى الدين. وكلما دونت حقيقة وصلت إليها فى دفترها تعجبت حد الذهول. حتى أنها باتت ترى تلك الدعاوى اكلاشيهات فارغة. فى الأسبوع التالى جمعت أم أرتور معلومات عن الشيخ الذي هز كيانها. اتصلت بصديقها الذي يعمل ببلدية (أوبر فيليه) والتقته بمقهى (سارة برنارد) مرتين. كانت تسأله وكلما تشعب حديثه ردته إلى جوهر المسألة. إنها تنتقى أشياء معينة تخصها وتلتصق بها. لا ترغب فى معرفة كل شيء. ويغلب على محاوراتها المنطق الأرسطى المكون من ثلاث خطوات. الأولى الموضوع، وموضوعها الشيخ. هل هذا الرجل شيخا حقا؟ وما يعنى الشيخ بعرف هؤلاء القوم؟ الثانية الحقيقة، هل ما تخبرنى به عنه حقيقيا وليس ظنا أو وهما؟ وما دليلك؟ الثالثة الافادة. هل ما تخبرنى عنه مفيد لى حقا؟ وما الذى يعود على بعد معرفته؟ الشيخ شاذلى من طنجة وهى من عشاق المغرب. عارف وواصل شهد له القريب والبعيد. يعيش بين أحبابه ومريديه بالكرامة، ويخرق الله له الناموس. وبعدما جمعت عنه ما يرضيها شكرت صديقها الذى دعاها للتعرف عليه بمبنى البلدية، وعزمت على السفر إلى طنجة بعطلة رأس العام. فى هذه الأثناء كان العداء أرتور يستعد لخوض سباق ضاحية يبلغ حوالى 3 كم. نقطة الانطلاق من أمام بلدية الحى السادس، ونقطة النهاية في ميدان الجمهورية. ذاك المسار الذى تسيره أغلب المظاهرات سوف يحتضن سباق الشباب الثانوى. أرتور يتدرب هذه الأيام أكثر من ثلاث ساعات . لقد ربح هذا الإنجاز فى العام الماضي ويريد تحقيق رقم قياسي فيه هذا العام. يحمل حقيبته في الخامسة ويذهب عبر المترو إلى منطقة (فان سان) الرياضية. مساحة شاسعة من الملاعب القانونية لكل أنواع الرياضات. ومسارات معلومة للركض بمختلف المساحات. وحمامات ومقاهى وأسيجة نباتية وأزهار. منذ اقترب موعد السباق وأفراد القطيع خلف رفيقهم. إن جسد أرتور يؤهله للفوز على أقرانه. طويل القامة مثل أمه وخطوته واسعة. يستطيع الركض حتى 30 كم متصلة فى غير سباق. وفى العام قبل الماضي قطع مسافة الكيلو مترات الثلاثة فى خمس دقائق وعشرين ثانية. أم أرتور لحقت بهم إلى المنطقة الرياضية ليراها القطيع لأول مرة وهى تركض. أخذوا يشبهونها بالزرافة وهى لا تتبرم ولا تكف عن الضحك. تقول لهم أنها أكثر منهم شبابا رغم اختلاف الأجيال. وان الإنسان يبقي شابا طالما تعامل بتفاهم مع الشباب. لا علاقة للعمر بالأمر. صحيح أنها أتت خلف ولدها ورفاقه، إلا أنها تحتاج التريض فعلا. تريد كل هذه المنطقة الرياضية لها وحدها لتتفرغ للتفكير والتأمل. وتكتب الدرس الثالث فى سفر خلاصها: لا ينبغى التفكير في الإلاهيات دون تريض. لقد اقتربت كثيرا من القطيع فى هذه الأيام وكم أعجبها اختلافهم وتضامنهم. إن وشائج القربى بينهم أقوى من العصبة والعرق. كما تعرفت على أم البهجة وصارت صديقتها. ولما فاز أرتور فى السباق وقطع المسافة فى خمس دقائق وإحدى عشر ثانية، احتفت بهم واغدقت عليهم بكل ما لذ وطاب.
*****
فى عام 2016 وتزامنا مع يوم الإستقلال، شهدت مدينة ( نيس) اعتداء جديدا أثناء الاحتفال بالعيد الوطني راح ضحيته 86 شخصا وجرح 434 آخرين. لقد أصيب الناس بالذعر وكالوا الاتهامات للأمن الوطني ومسؤولى المدينة والرئيس. منذ ارتفعت وتيرة العداء للإسلام ومنظومة الأمن تفشل في منع ال(إسلاميست) من تنفيذ هجماتهم الإرهابية. وبعد كل حادث يزيد الخناق حول الأجانب ويزيد اضطهادهم، ولا يدفع الفاتورة سوى المسلم المعتدل فى المترو يقف رجال ال ( كونترول) والشرطة معا خلف بوابات الدخول ذات القوائم المعدنية، وبمجرد عبوره يتم تفتيشه ومشاهدة تذكرته ومراجعة أوراقه. وفى الجامعة ينتظرونه عند السير الذى يحمل حقيبته دون مراعاة صفير جهاز التفتيش من عدمه. وفى العمل يبقي الزملاء ينظرون إليه بشك وريبة كأنه من قام بالاعتداء. وفى السكن يتعهده أولاد الجيرة اليافعين بالسخرية، ويتنمرون به ويراقبونه، وربما أعدوا له كمينا يؤذيه. كانت أم أرتور وولدها يشاهدون الشاحنة التى دهست الضحايا على التلفزيون فى حالة من الذهول. من الذي يستطيع أن يفعل ذلك وكيف؟ أين رجال الأمن الذين يصدعون رؤوسنا ليل نهار؟ لابد للرئيس أن لا يفكر أصلا في دورة رئاسية جديدة. تسأل ولدها بصوت عال وعينين متسعتين: كيف مر من هذه الحواجز المنصوبة دون تفقد هويته؟. ثم تسارع: حسنا لقد أخذت معلومات الجانى تتكشف. واحد من أولاد الجيل الثالث من أصل عربي وقع بأيدى البغاة. تنظيم داعش الإرهابى تبنى العملية الإجرامية. لقد نشطت ملكات أم أرتور بشكل منقطع النظير. جعلت مما تعرف مصدة فكرية مثل فلتر، وأخذت تتأمل الراشح منها. كيف لمن يؤمن بهذا الكتاب أن يدهس البشر هكذا كما يدهس قفص بطاطا؟ فى هذه اللحظة لحت على خاطرها أم البهجة؛ فاتصلت بها. وبعد جملتين أخبرتها أن الشرطة أوقفت ولدها مع ثلاثة من أصدقائه. سمع أرتور ؛ فتسلل وخرج من الشقة دون أن تشعر به أمه. اتصل بويسلى وأمادو وفان سان وسليمان وسبقهم إلى قسم شرطة ضاحية سان دونى. إن الأمر أسوء مما يتصوره أحد، خصوصا مع صيحات الكراهية من أنصار اليمين المتطرف. قبل ثمانية أشهر فقط تعرضت الضاحية نفسها لاعتداء مماثل، وقسم الشرطة يتعامل مع الموقوفين بعدائية مفرطة. ومناسبة الاستقلال وإفساد فرحة الجماهير، جعلت أفراد الشرطة ينكلون بالشباب دون هوادة. الحادث فى نيس والعقاب فى كل الجمهورية. وصل الشباب الأربعة لأرتور، ودخل الخمسة كالصاعقة لمأمور القسم. بقى عام واحد وينتهى أرتور من دراسة القانون، وحسب أنه يستطيع التعامل مع الشرطة كمحامى. لكن المأمور لم يتحملهم طويلا ثم طردهم. أرتور يعرف مسلك دائرة العدل الإجرائية. الساعة الآن نحو الحادية عشرة، والبهجة سوف يبيت ب ( لا سيتيه)؛ فتركوا الضاحية وعادوا إلى ( لو شاتليه). ركن ويسلى السيارة مقابل البوابة الرئيسية بجوار رصيف الكورنيش، ووقفوا ينتظرون. كل موقوف ينزل من سيارة (أتاري) وذراعيه فى القيد خلفه، وحوله أربعة من الشرطة يحيطون به من كل الجهات. الموقوفون كثر ولم يأت البهجة بعد. يريد الشباب الاطمئنان عليه ورؤيته بأم أعينهم سليما معافى. لو صار له مكروه لا مانع لديهم من التمرد والاحتجاج وتعطيل مصالح الناس. وفى الواحدة صباحا نزل البهجة من السيارة يشتم أحد أفراد الشرطة. حين أوقفوه وقيدوه وحملوه للسيارة لم يجلس هذا بجواره وإنما فوقه شأن إرهابى عتيد. ولما تحرر من قبضته ونزل من السيارة، شتمه وبصق في وجهه. انقض الشباب الخمسة على الشرطى مثل عقارب. كانوا يريدون معاقبته ويبثون إليه رسائل. لا تدفعنا لإضراب نقطع فيه الطرق ونؤذي الناس. لو خرجت خطوتك عن دائرة العدل؛ فلن تبق أبدا بوظيفتك. نحن هنا حتى الظهر، لو ما خرج البهجة كنا نواة الوقفة. ولتتحمل عبء الإغلاق لتلك البوابات جميعا في وجه الناس.
*****
جاء الظهر وما خرج من الموقوفين أحد. حضر إلى مبنى المدينة الشرطية حقوقيون وخلايا يسارية صغيرة ونشطاء سلام. كما أتى مع أهل الموقوفين من يتعاطف معهم ويدعمهم. حتى أن الشاعر فان سان أقنع والده الجنرال المهزوم في الانتخابات البرلمانية؛ فحضر. إنه من قادة الحزب الحاكم رغم أدائه المتواضع بل السقيم. واستطاع أمادو حشد عشرين شابا أفريقيا من جمعية سوغولين، كما صنع سليمان الشيء نفسه مع أصدقائه العرب. واتصل ويسلى بوالده، فأرسل إليه رئيس اللجنة القانونية بشركة ( سان نيكوتيرم). لقد كثرت الناس وما استطاع الشباب إغلاق أبواب المدينة . وبعد الواحدة ظهرا خرج إليهم الجنرال ورئيس الشؤون القانونية كل على حدة ليخبرهم أن هذا إجراء وقائي، وان لا شبهة على رفيقهم، وان كل موقوف سوف يخرج بمجرد إتمام التحقيقات، وفى هذا اليوم أيضا تم تسجيل صحيفة جنائية للبهجة. فيها بصمات الاصابع والصوت، وعدة صور مقطعية من الوجه والجانبين، مع ذكر طوله ووزنه ولون عينيه. كما تم فحص هاتفه واتصالاته ومنشوراته لأكثر من عامين وبسؤاله عن تنظيم داعش لعنه ولعن منفذ العملية كما لعن الشرطى الذى كاد يسبب له عاهة مستديمة. نحو ساعتين من الأسئلة والاستفسارات لم يجد فيها المحقق أي علاقة فعلية للبهجة باعتداء الأمس أو غيره، ومع ذلك لم يخل سبيله. مر أسبوع آخر كثرت فيه جلسات التحقيق وما تغيرت قناعة المحقق وما خرج البهجة. أم أرتور كانت تتابع من بعيد وتتحري الأمر بطريقتها الخاصة. ولما أدركت أن حبس البهجة جاء نكاية بأمه جن جنونها. أخبرتها سوغولين أن الأمبراطورية الفرنسية صاحبة حق ال (فينو ) فى مجلس الأمن صارت كبلدان العالم الثالث. إذا فقدت الشرطة المطلوب أخذت زوجته أو ولده، وإذا أرادت كسر امراة ترعى أربعة أولاد وزوج مريض حبسوا ولدها. كما ذهبت قوانين الإقامة والجنسية فى مهب الريح. صاروا يقصون الجنسية، ويلغون الإقامة، ويأمرون بالطرد لأتفه الأسباب جراء الفوبيا من الإسلام. ما الذى تبقى من مبادئ الثورة؟ هذا قرن الشيطان وامريكا تصطنع الأزمات بين الأمم وتلوم الضحية. تبا للرئيس الضعيف الذى جعل مدينة النور أقل شأنا من أى مدينة أفريقية مثل أبيدجان. مشت أم أرتور للنائب الإشتراكي ( بيير لاكان) عله يساعدها في إطلاق سراح الشاب بعد حبسه احتياطيا لأكثر من شهر. وبعد لقائه أخبرها أنها قضية أمن دولة، ولن يستطيع أحد أن يصنع له شيئا حتى يتركوه.
*****
أوقفت أم أرتور تدوين دروسها المستفادة ودفعت الورقة والقلم. لقد فطنت لنقطة جوهرية فى المسألة. إن فهم الإنسان من عدمه في سعيه ، لن يلغى انخراطه وتفاعله مع كل ما يدور. ومن ثم صارت تتعامل فى أغلب أدوارها بآلية، ولا تفكر إلا قليلا، فقط قبل نومها. وصار سماع القران مادة أساسية عندها. لديها عدة أشرطة بصوت الشيخ عبد الباسط عبد الصمد، فى عقب كل ثلاث آيات ترجمة لها. كما صارت حريصة على المشى كلما وجدت الوقت لذلك. تعرف من تطويحة جسدها وخطوتها طول المسافة التى عزمت عليها من قصرها. وما عادت تقوى على الانخراط بأحاديث المطلقات. حتى مسألة النسوية التى سيطرت عليها والتمكين للمرأة والأدب الاشتراكي، ما عاد له برأسها مكانا. كما أن الأخبار السيئة ما عادت تجلب لها القلق والتوتر. وباتت بعد عقد ونصف أكثر تصديقا أن هذا قرن الشيطان. الفيلم الوثائقي الذى حضرته لبناء نصب بجورجيا أخذت حيثياته المضمرة تظهر للعلن. تخفيض سكان الأرض لنصف مليار بالأوبئة والحروب. هدم قلاع الدين ونشر الإلحاد. نشر الشذوذ وتحلل الأسرة ومحاربة الإنجاب. وإذا وصلت أم أرتور لذلك شعرت بدوار لم يسحبها منه سوى رنين الهاتف. كان الوقت عصرا واليوم جمعة وأرتور واخته بالخارج. سارعت لمكان الهاتف الارضي ورفعت السماعة. إنها أم البهجة التى تثير البهجة حيث حلت. تتحدث بصوت هادئ ولهجة راضية. تشكرها على ما صنعت من أجل ولدها. وتخبرها أنهم أفرجوا عنه، ولتوه وصل إلى البيت. بعد حديثها مع أم البهجة ارتدت ملابسها الرياضية وخرجت بالسيارة إلى ال (بارك). كانت تشعر بحالة من الانشراح لم تجربها من قبل. كأن النفس الذى تتنفسه يسري فى اتساع. تزداد بسريانه خفتها وقدرتها لا على المشى فقط، بل على الطيران. إن لديها مناسبة الليلة وترغب فى الظهور بأفضل حال. مشت مسافة خمسة كيلومترات ورجعتها. ولما مسحت عرقها بفوطتها ومررتها على نصفها العلوى عادت للسيارة. خرجت من ال ( بارك) وراحت تبحث عن أقرب الطرق للبيت. تتنسم الهواء الداخل من الشباك المفتوح ورأسها يفكر في كل ما يقع عليه نظرها. تريد الاستحمام وتغيير ثيابها دون أن تتأخر. نتالى تنتظرها في التاسعة أمام مسرح المدينة قريبا من بيتها. كانت تعاجل الوقت لتصل فى تمام الموعد. كانت نتالى قد دعتها لحضور أمسية طربية تريح الأعصاب. فرقة إنشاد صوفى برعت في الموشحات الأندلسية وصارت حديث المدينة. أم أرتور وافقت من شهرة المسرح دون أن تعرف شيئا عن الفرقة. فشهرة المسرح أتت من تقديم الأعمال التراثية من كل العالم. وهى شغوفة بلون الموشحات من كثرة سماعها للموسيقى الإسبانية. ركنت السيارة فى ال(جراج)، وخرجت من المصعد تركض إلى الشقة. كان كل شيء على حاله كما تركته. نادت على الأولاد وهى تبدل ثيابها، فلم يجب أحد. نظرت لساعتها وهى تهبط بالمصعد؛ فابتسمت وخبطت رأسها في صورته التى عكستها المرآة. لازال أمامها عشرون دقيقة، والمسافة إلى المسرح تحتاج خمسة عشر.
*****
وصلت أم أرتور أمام المسرح وسرعان ما عثرت على نتالى. كان الجمهور غفيرا واغلبه كما توقعت من شباب الجيل الثالث. هؤلاء الذين لا يقوى على ردهم أحد، ويفعلون ما يريدون. وكان المسرح الذى يسع آلفين وأربعمائة شخصا، يشبه مدرج الجامعة، وله طرقتين طوليتين يمكن أن تستوعب ما زاد عن العدد. وبعد نصف ساعة، كان كل شخص فى مقعده الذى تم حجزه مسبقا، واطفئت الأنوار. بضع دقائق أخرى وتم تخفيف الإضاءة على خشبة المسرح مع ظهور العريف، حيث بدت خلفه بضع شمعات مضاءة في شمعدان من الذهب على رأس امرأة أندلسية. تحدث العريف عن فن الموشح من حيث الشعر والموسيقى . وذكر أهم الموشحات التى ذاع صيتها فى الأندلس ولازالت لليوم. ثم راح يثنى على فرقة سلاطين الطرب ويعرف بها. فى الوقت الذى كانت تدخل فيه الفرقة الموسيقية وتجلس فى مكانها وسط التصفيق. وعمال المسرح فى الأسفل راحوا يوزعون الاوراق البلاستيكية المميكنة، وبها كلمات الموشحات التى سيسمعونها بالعربية والفرنسية. ثم بدأت موسيقى شجية تأتى على مهل من بعيد. فيها شجن وذكرى ألم دفين. راح صوت من الجوقة يلقى موشح عبث الشوق ليحى بن عبد الرحمن القرطبى، وذهبت أم أرتور تقرأ معه الأبيات. ( عبث الشوق بقلبي فاشتكى، ألم الوجد قلبت أضلعى، أيها الناس فؤادي شغف، وهو من بغى الهوى لا ينصف، كم أداريه ودمعى يذرف، أيها الشادن من علمك، بسهام اللحظ قتل السبع. بدر تم تحت ليل أغطش، طالع فى غصن بان منتش. أهيف القد بخد أرقش، ساحر الطرف وكم قد فتك. بقلوب زرعت بالأضلع). تنهدت أم أرتور لوقع الكلمات، ومالت عليها نتالى بجذعها حتى نظرت فى عينيها وغدت تقول: لازلت غارقة في الشوق مهما كتمت. كانك لم تكتفي بعلاقتك مع الرجل. بمجرد ذكر النوى والجوى فاضت مهجتك. تبسمت أم أرتور وحضنت وجهها المحمر خجلا وهى تقول: ماذا أقول لك؟ وأشارت لها على الجوقة التى راحت تصدح بالموشح بأصوات متمايزة.. نحو ساعة أو أقل قليلا تشعر أم أرتور بأثر روحى. كأن الجسد بكليته مجذوب إلى مغناطيس غير مرئى. فقدت معه الأين والكيف، وشعرت أنها غير موجودة هنا ولا فى مكان آخر. جراء هذا الأثر ينسجم فيها الروحى والمادى، الروح والجسد. لو ما كانت نتالى معها لبكت حقا. لقد ذابت مع شكوى الشاعر وما صنع عبث الشوق به. وتزداد لديها الرغبة في تعلم العربية. ثم انتقلت الجوقة لموشح لسان الدين بن الخطيب جادك الغيث. وايضا راحت المأخوذة تقرأ معهم الأبيات. فجأة شعرت أن رفيقتها قد أعارتها بعضا من طاقتها السلبية.. حدست بأن وجودها وحدها فى هكذا أمسية كان أجدى. نتالى ليست غامضة، لكن طقوسها فى بعضها مقزز. فهى لا تسكن أبدا. لأنها تتدبر محاورات بوذا واناندو بداع وغير داع. وفى كل مرة تعود بمعان تتوافق مع نفسيتها فى اللحظة ذاتها. صار الأمر لديها مثل ديانة الزن، هناك دوما ظن وإلحاح وتساؤلات متشعبة. وكثيرا ما تتسلط عليها خواطر القتل أو الاغتصاب أو الانتحار. لقد ذهبت للبوذية للتخلص من هذه الكوابيس. قيل لها البوذا سوف يعمل لك تفريغا نفسيا. بعده تعرفين معنى الأنا، وتعثرين على إرادتك وقوتك الذاتية، ومن ثم تحكمين قياد نفسك وتملكين العالم. وبعد سبع سنوات ازداد كدرها، وصار كل يوم جديد في عمرها مصيبة جديدة. وجملة: Je n arrive pas شاعت على لسانها، حتى صارت عبئا على أصدقائها.
*****
كانت الجوقة تنشد الكلمات على مقام واحد. وكلما أعطت الفرصة لصوت منفرد خرج من المقام إلى غيره، حتى مر كل بيت على المقامات الموسيقية كلها. أم أرتور تستجيب لصيحات شباب الجيل الثالث فى طلبهم إعادة بعض الأبيات. كأنها استلهمت روح الشاعر فى بكائيته للأندلس والعز الذى كان. وكم يبدو الحب والوصل في الكلمات رغم البكاء والعويل ولوم الرجال. بينما لم تكف نتالى عن الأسئلة. وقعت تحت تأثير الموسيقى والنغمات الشرقية خصوصا أصوات الآلات الوترية وغاب عنها أثر الكلمات. لم تنظر مرة فى ورقتها المميكنة، وتسأل أم أرتور أسئلة متلاحقة كيفما اتفق. لقد وصلت إلى تلك الحالة التى تسأل فيها ولا تنتظر إجابة. حتى إذا حدقت رفيقتها فى عينيها متسائلة دون كلام واشاحت بيدها إلى المسرح، كتمت صوتها وصارت تهمس لنفسها. لقد انتهى موشح بن الخطيب وبقى موشح ابن زمرك. مدت أم أرتور يدها إلى الكرسي التى تجلس فيه رفيقتها وناولتها ورقتها. أشارت على خشبة المسرح للمنشد الذي يقرأ الكلمات وراحت تقرأ معه. ( أقرأ لغرناطة سلامى/ وصف لها عهدى السليم. فلو رعى طيفها ذمامى/ما بت فى ليلة السليم. كم بت فيها على اقتراح/ أعل من خمرة الرضاب. أدير فيها كؤوس راح/ قد زانها الثغر بالحباب. أختال كالمهر فى جماح/ نشوان في روضة الشباب). كادت أم أرتور تصرخ مع الشباب الذين يصرخون. كانت حرقتهم فى صراخهم تكاد تلهب المسرح. ما كانت على ضياع غرناطة وحدها بل والأندلس جميعا والجزر المتوسطية وفلسطين. أخذ صوت الناى وحده يثير هؤلاء أكثر من غيره من آلات. وكلما أتمت الجوقة بيتا طلبوا إعادته. لقد انتهى الوقت المخصص للحفل حسب إدارة المسرح. الساعات الثلاث نفدت والموشح الثالث لم يبلغ منتصفه. ورغم ذلك تلبى الفرقة رغبة هؤلاء بانتشاء. لقد تدخل عريف الحفل عدة مرات دون جدوى. كان يبتسم رغم ضيقه وهو يخاطب هؤلاء. وفى تدخله الأخيرة سمح بنصف ساعة أخير لا أكثر. فى هذه الدقائق خفتت الأصوات وران صمت. وفور انتهاء الموشح صعد ثلاثة من شباب الجمهور إلى خشبة المسرح. حيوا عريف الحفل وأخذوا منه
مكبر الصوت، كما حيوا الجوقة والموسيقيين. ثم قال أحدهم يخاطب الجمهور: أتصدقون أن من نظم هذا الحفل ملياردير يدفع شيكا سنويا كبيرا لجيش الدفاع الإسرائيلي كما يسميه. استأجر المسرح، واستضاف الفرقة والموسيقيين، ودفع له كل منا خمسون يورو. أم أرتور نهضت وحدها تصفق للشاب بطريقة عجيبة بعدما أصابتها هستيريا الضحك.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire
Remarque : Seul un membre de ce blog est autorisé à enregistrer un commentaire.