dimanche 2 février 2025

نغمة الهجهوج (قصة قصيرة) // محمد بوعمران // المغرب

 

أتعبه الجلوس على الكرسي، تنمّلت قدماه، الأوراق تتحداه ببياضها والقلم يرتجف بين أنامله كما ترتجف العبارات في ذهنه. يكتب جملة ثم يكمش الورقة ويرميها أرضا، تراكمت الأوراق تحت قدميه، لكنه لم يهتد إلى بداية تفك أسر التعبير...
كان يعتقد أن الحالة عابرة، لكن ساعات الانتظار طالت وتحولت إلى أيام وشهور، لفه اليأس، وأصبح يبحث عن حل للتخلص من هذه الرغبة كي يعيش كالآخرين...
تحول من شخص مقبل على الحياة لا تغادر محياه الابتسامة إلى شخص منطو على نفسه، سريع الانفعال. لم يبح بسر معاناته لأحد، وكلما سئل عن حاله اختصر الجواب قائلا: "شيء من التعب" وعاد لصمته...
******
حُفت جوانب فناء المنزل الفسيح بالجالسين، بينما شكّل أفراد الفرقة الموسيقية دائرة في وسطه. لم تكن المناسبة احتفالاً عادياً، بل طقسًا صوفيًا تحييه فرقة "غناوة". فوجئ عمر حين دخل هذا المكان، فلم يكن يتصور أن صديقه حسن سيأتي به إلى هنا. لكنه خضع للأمر الواقع، فهو في حاجة للتغيير...
جلس عمر وصديقه بين الحاضرين، فابتسم حسن وقال له:
-هنا سترتاح، يا أستاذ عمر... ستنسى همومك، وتعود إليك بسمتك.
أحس عمر بقشعريرة تسري في جسده حين ترددت أصوات الحاضرين تصلي على النبي بصوت مرتفع: "اللهم صلِّ على رسول الله"، ثلاث مرات اهتزت لها جدران البيت. كانت هذه الصلاة إعلانًا لبداية "الليلة"...
******
عزف الهجهوج على إيقاع الطبول والقراقب الحديدية، وأناشيد "غناوة" التي تتخللها صرخات عميقة، ودخان البخور المتصاعد الذي يخفي ملامح العازفين المتمايلين مع النغمات، خلق جوًا روحانيًا أخاذًا. بعض الحاضرين اكتفوا بتحريك رؤوسهم، بينما انخرط آخرون في الرقص، أجسادهم ترتجّ مع الإيقاع، تنخفض وتعلو في انسجام تام...
عُرف عمر باتزانه وهدوئه، لكنه هذه الليلة بدا مختلفًا تمامًا. فجأة، أغمض عينيه، خفف من لباسه، نزع حذاءه، واتجه إلى وسط الحلقة، حيث صار يحاور العازفين بلغة الجسد. كان رقصه مثيرًا للإعجاب والدهشة، فقد رفع يده اليمنى، يحركها من اليمين إلى اليسار، وكأنه يكتب بقلم وهمي في الفضاء، يساير الإيقاع كما لو كان هو من يقوده...
تقدم أحد أفراد الفرقة، وضع في يده قلمًا من قصب، وأمامه محبرة وأوراق بيضاء. جلس عمر القرفصاء، غمس القلم في المحبرة، وبدأ يرسم خطوطًا ورموزًا وأشكالًا سوداء على الورق، متناغمًا مع العزف في حركات متزنة. نظر إليه حسن باندهاش، لم يكن يتوقع أن صديقه سيندمج بهذه الطريقة، لكنه أدرك أنها ربما تكون وسيلة لخلاصه من الأرواح الشريرة التي غيرت حاله...
ما لبث عمر أن وقع أرضًا مغمى عليه وسط العازفين، فغطوه بثوب أحمر، ورشوه بماء الزهر، وأحاطوه بالبخور. وبعد أن هدأ المكان وتوقف العزف، استعاد وعيه. نظر حوله بحيرة، ثم نهض واتجه نحو صديقه حسن وسط تهليل الحاضرين...
- ماذا حلَّ بي يا حسن؟ أشعر وكأني استيقظت من نوم عميق...كان الحلم جميلا...
سأله حسن وهو يساعده في ارتداء معطفه:
- وكيف تشعر الآن؟
- أحس وكأني تخلصت من حمل ثقيل...
******
الآن، يجلس عمر كعادته على كرسي مكتبه، واضعًا السماعات على أذنيه، يتمايل مع أنغام الهجهوج، مستعيدًا لحظات الليلة الماضية. كانت الأوراق أمامه مملوءة بالرموز والخطوط، تشبه تلك التي رسمها بالأمس. تأملها، وأدرك أنها تعبيره الصادق، لغته الداخلية التي تفوق الكلمات...
اقتنى عمر هجهوجا...
نغمات الهجهوج اخترقت وجدان الأستاذ عمر، احتضنتها روحه، وصار الهجهوج رفيقه الذي لا يفارقه، كانت "الليلة" التي حضر طقوسها ولادة جديدة لشخص مختلف، مثير للدهشة، وحديث مشوق لسكان حيه، وأقاربه وكل من يعرف الأستاذ عمر...
أزاح عمر المكتب في ركن من أركان الحجرة، أخفى كل ما له علاقة بالكتابة بعيدا عن نظره، فرش أرض الحجرة بزربية مزركشة كتلك التي رآها في فناء البيت التي أقيمت فيه "الليلة الغناوية". صار الأستاذ عمر يقضي معظم أوقاته في هذه الحجرة ممرنا أنامله على العزف على أوتار الهجهوج، مترنما بأنغامه...
كلما اشتاقت روحه للسباحة في عالم أنغام الهجهوج على إيقاعات الطبول والقراقب، دعا بعض العازفين المهرة لحجرته ليسهروا معه حتى آذان الفجر...
******
تعلّم الأستاذ عمر العزف على الهجهوج، وضبط الإيقاعات "الغناوية"، وأصبح حضوره يضفي على الليالي التي تقام في بيوت المدينة طابعا خاصا، كيف لا وهو الأستاذ الكاتب المرموق الذي غير الوجهة وصار عازفا ماهرا على الهجهوج...
لم يعد اسمه الأستاذ عمر، أصبح العازفون على هذه الآلة يسمونه "َلمْعَلّمْ عمر"...
تناقلت الصحف أخباره، نشرت المجلات صوره وهو منهمك في العزف، تسابقت القنوات التلفزية على إجراء لقاءات معه، كان الكل يسأله عن سر هذا التحول، فكان يجيب بقوله "نغمة الهجهوج..."






Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire

Remarque : Seul un membre de ce blog est autorisé à enregistrer un commentaire.