قراءة في "أحيانا
" للشاعر القدير أسيف حسن
أحيانا ..
*****
صُروف الحياة
تأتي محتشدة
فيصافحني التخلي
وتودعني النظرات
من حيث لا أحتسب
على مفترق طرق .
*****
فأجرد ذاتي من ذاتي
أجعلها مُحاوري
خوفا من ارتكاب الثقة
في غير ذاتي
فأكون متهما جاهزا
يحاكَم بجرم كونيتي
****
*****
صُروف الحياة
تأتي محتشدة
فيصافحني التخلي
وتودعني النظرات
من حيث لا أحتسب
على مفترق طرق .
*****
فأجرد ذاتي من ذاتي
أجعلها مُحاوري
خوفا من ارتكاب الثقة
في غير ذاتي
فأكون متهما جاهزا
يحاكَم بجرم كونيتي
****
أبدأ كالعادة هذه
القراءة المتواضعة من العنوان " أحيانا " هذه الكلمة التي أثارت انتباهي
، وأظن أن هذا ماكان يهدف إليه الشاعر ، وهو إثارة انتباه القارئ إلى أن الحالة
الوجدانية التي يعيشها " ليست دائمة " بل مؤقتة تنتابه من حين
لآخر فقط ، ومن خلاله يمكن إسقاطها على الآخرين .
أحيانا تأتي
المشاكل أو صروف الدهر ... دفعة واحدة وكأنها تواعدت عن سبق إصرار وترصد ، تداهمنا
في لحظة من لحظات الحياة ، فنضعف أمام قوتها وجبروتها ،،نحزن ، نتألم ،
نعاني...تختلف قوة ردود أفعالنا حسب قوة الفعل نفسه ...
ما
نتفق فيه هو حاجتنا – في هذه الظروف – إلى ذلك الآخر الذي يساندنا ، يشد بيدنا ،
يؤازرنا ، يدعمنا نفسيا ويقف بجانبنا، يشعرنا بالدفء ، يعيد إلينا الثقة في أنفسنا
وفي الآخر حتى نتجاوز الأزمة لكننا لانجده أحيانا فنركن إلى عزلة قاسية نكابد الآلام ونجتر الخيبات ....
وهنا
وظف الشاعر مصطلحا ساخراironique " يصافحني التخلي " ،
تلك السخرية السوداء التي تعبر عن المرارة ، وعن الجرح الذي ينزف... فالتخلي
لايصافحنا ، بل يذبحنا ، يمزقنا أشلاء....وكلمة " التخلى" قوية في
معناها ، إذ يقتصر استعمالها غالبا على الأقارب ، من قبيل الآباء الذين يتخلون عن
آبنائهم أوالأبناء الذين يتخلون عن آبائهم ...لهذا يكون وقعها أشد لأن"
ظلم ذوي القربى أشد مضاضة " كما قال الشاعر.
"تودعني النظرات " والصورة هنا تصبح معكوسة – وهذا لاحظناه
في قصائد سابقة - النظرات هي التي تودع وليس أصحاب النظرات...يشيحون بوجوههم
في وقت لم يكن يتوقع منهم هذا السلوك وهذا التعامل.
في لحظة الألم هذه تتوقف
الذات الشاعرة ، تغوص في أعماق ذاتها وتتساءل ماالعمل ؟؟؟ فلا تجد أمامها إلا
تجريد الذات من ذاتها ، في عملية قيصرية صعبة ، قاسية مؤلمة ، لكنها ضرورية ولازمة
، ولابديل عنها.
بعد هذا التجريد يتخذ
منها الشاعر محاوره الوحيد لأنها الوحيدة القادرة على استيعابه ، كما يجعل منها
المحور الذي تدور حوله الذات ، في علاقة جدلية بين الذات والذات.
هذا القرار ليس اعتباطيا
، بل يتخذه بكامل وعيه وإرادته ، وعن قناعة ناتجة أساسا عن التخوف في وضع الثقة
مرة أخرى في "غير الذات " الذي لايستحقها ، فيرتكب بذلك جرم ثقته في
الآخر ، ويصبح موضع اتهام باعتناقه لمبادئ وقيم إنسانية كونية ، مما يستدعي
محاكمته ،مجازا طبعا.
أتوقف هنا عند هذا
المصطلح " غير ذاتي" وهو قابل لمعنين : الآخر والغير.
بعض المفكرين يعتبرون
الآخر هو الغير وبعضهم يرى أن كل كلمة تحمل معنى مختلفا عن الأخرى. وهنا يطرح
السؤال : عن أي ذات يتحدث الشاعر؟ أهي الذات الفردية أي الأنا ، أم الذات الجماعية
؟
أهو ذلك الآخر الذي
يشبهني وأتقاطع معه وجدانيا ، فكريا ، سياسيا ، اجتماعيا، لغويا ، عرقيا ، دينيا...
والذي أحتاجه لإثباث
ذاتي ، وهنا تتحول الذات من فردية إلى جماعية ، وتتبنى كوجيطو آخر لديكارت "
مادام يشبهني فأنا موجود"....وكلما كان أقرب إلي كلما كان التماهي معه
أكبر...ويصبح من الصعب فصل الذات عن الآخر
أم هو الغير ، وأقتبس
هنا هذه الفقرة لتحديد مفهوم المصطلح :
يقدم "
لسان العرب " لابن منظور تحديدا لغويا للغير حيث الغير مشتق من التغير، وتغايرت الأشياء أي اختلفت،
تحديد يكرس نفس الفهم المتداول على اعتبار
أن الآخر أو الغير هو المخالف والمباين. أما معجم روبير فهو الأخر يتحدد بكونه " من ليس نفس الشخص
" . غير أن هذا التحديد السلبي للأخر باعتباره
المغاير والمختلف عن الأنا يبقى تحديدا مجردا غير ملموس، لا يشير إلى فرد بعينه أو جماعة معينة حيث يتم
حصر الأخر في الغريب ، المغاير ، البعيد
، الأجنبي وكل من لا يشاركني نفس الهوية، وتتحدد علاقة الذات بالأخر وفق معيار العلاقة القائمة بينهما ونظرة
أحدهما للأخر ، قد تأخذ هذه العلاقة
طابعا صراعيا ( العنف ، السخرية ، الميز العنصري ، التطرف الديني ، التعصب العرقي ، الصراع الاجتماعي ) وقد
تكون العلاقة علاقة تضامن وتعايش مادام
الأخر هو الشبيه والصديق و يؤكد "استراوس "الأخر هو أخ لنا في الإنسانية ."
انتهى
الإقتباس.
إذا الغير
هو ذلك الذي لايشبهني ، والذي يختلف عني إختلافا جزئيا أو كليا في كل ماأتبناه من
أفكار ومبادئ وقيم ، وانطلاقا من هذا الإختلاف تكون علاقتي به إما علاقة اصطدام
أحيانا حين أتبنى فكرا يرفض المختلف ويقصيه ، أو علاقة التحام ،تكامل وتعايش....
أحيانا أخرى حين أومن بمبادئ إنسانية كونية تقدس إنسانية الإنسان قبل كل شيء ،
وتأنسن العلاقات التي تربطنا به ....دون إغفال البحث عن طرق تدبير هذا
الإختلاف.
وقد سبق للشاعر أن أكد
بأنه يتبنى الطرح الثاني ، فالآخر بالنسبة له ليس هو الغير ،هذا الغير الذي سيسعى
إلى اكتشافه مستقبلا.
وبذلك يثبث
مرة أخرى تفكيره في بعده الإنساني و كونيته ، لا ليكون تهمة يحاكم عليها ،
بل ميزة تميزه عن الغير.... وتصنفه في إطار النخبة التي تعطي للندرة قيمتها
وجماليتها.
هذه انطباعات بسيطة عن
هذه الومضة الفلسفية العميقة ، رغم قصر نفسها ، والتي تحتاج إلى نقاش جاد
وحقيقي ، نحدد من خلاله – وبدقة – الدلالات والمفاهيم ، كما نحدد و بوضوح
الإختيارات والمواقف.
إشراقة جميلة أثارتنى
تلك الإثارة المعرفية المحببة ، استفزت قلمي ، وحرضتني على " ارتكاب "
القراءة " ...
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire
Remarque : Seul un membre de ce blog est autorisé à enregistrer un commentaire.