نادرا ما يرفع رأسه ليلقي نظرة سريعة على الشارع من وراء زجاج واجهة الدكان، هذه النظرة الخاطفة تكفيه ليعرف ما يدور بالخارج،فليس لديه وقت للتدقيق في التفاصيل، بمجرد ما يقع بصره على مشهد تتناسل في مخيلته كل الاحتمالات الممكنة ثم يتخلص منها بسرعة ويعود لوضعيته السابقة،فالعمل يتطلب منه الكثير من التركيز والدقة وهو يفصل الثوب أو يخيطه وفق قياسات مضبوطة،وهو شديد الحرص على إتقان عمله إرضاء للزبون ...
القليلون من سكان الحي الذين يعرفون اسمه الحقيقي ويعرفون كذلك أن الخياط هو اسمه العائلي المثبت في أوراق هويته، تداخل اسمه مع اسم مهنته، وغطى لقبه على اسمه الحقيقي، أخذ من المهنة عنوان هويته وأخذت منه المهنة كل حياته،فهو لا يغادر الدكان إلا حين يلاحظ أن الحركة في الشارع هدأت، ويرى الدكاكين المقابلة لدكانه قد أغلقت أبوابها، فيضع ما بيده، وينفض ثيابه من ندف الثوب وقطع الخيط المهملة، ثم يخرج من الدكان و يغلق دفته الخشبية السميكة بقفل معدني ثقيل، ثم يتجه نحو بيته بخطى متثاقلة،مع كل خطوة ينط في ذهنه مشكل من المشاكل التي ظلت عالقة لسنوات تنتظر الحل،لكن المشكل الذي يؤرقه كثيرا هو تراكم الديون،فهو لم يؤد لصاحبة المحل سومة الإيجار مند ثلاث سنوات، أجَّل كل المشاريع المهمة في حياته،وأصبح يشعر بتهديد لمصدر عيشه،والخوف من فقدان الدكان الذي قضى فيه نصف عمره...
صاحبة المحل امرأة استهلكت أكثر من أربعة عقود من عمرها، تقطن بمسكن مقابل لبيته،كلما شعرت بقدومه من الدكان مساء،أطلت من نافذة بيتها المطلة على باب منزله وفاجأته بالتحية مبتسمة طالبة منه التعجيل بأداء ما عليه من دين،فكان يرد عليها التحية في استحياء وخجل وهو يرفع رأسه اتجاهها ليسرق النظرة ويطلب منها بعض الوقت...
طريقة حديثها المرفقة بتلك الابتسامة العريضة أشعرته بأن المرأة تفكر في أمر ما، لكن كان يحاول استبعاد الفكرة، كلما فكر في مشكل مستحقات الكراء المتراكمة تراءت له ابتسامة صاحبة الدكان الأرملة،وأخذ يتأمل تفاصيل محياها في خياله فيبتسم، فهي امرأة غنية تعتني بنفسها كثيرا وتبدو أصغر من سنها الحقيقي، وابتسامتها المشرقة تحمل الكثير من صفات الأنوثة،ثم إنها تعيش وحيدة في بيت فسيح الأرجاء،ولاشك أنها في حاجة لرجل يؤنس وحدتها ويملأ حياتها، لم يعد فكر إبراهيم الخياط مشغولا بأداء ما عليه من دين اتجاه المرأة، بل أصبح يفكر في الارتباط بها برابط الزوجية،حلم شغل ذهنه،وعلق عليه كل آماله...
تشجع إبراهيم الخياط،ودق باب منزل صاحبة الدكان،فأطلت عليه من نافدة المنزل وعلى محياها نفس الابتسامة متسائلة:"أهلا إبراهيم ...وأخيرا أتيت بالنقود ...أقسم أني في حاجة إليها..."
كانت كلمات المرأة تنزل كندف الثلج على رأس إبراهيم، وكان ينظر إليها من أسفل النافذة بعينين جاحظتين، تبعثرت الكلمات على لسانه، وهو يرد عليها قائلا:
-لا ...لا ...أنا لم آت بنقود...أنا...
قاطعته بحزم وشدة
-وماذا تريد مني في هذا الوقت ...؟
وبكل عفوية وتلقائية أجاب إبراهيم وهو يتصبب عرقا:
-أريدك زوجة لي ...
ضحكت المرأة ضحكة هزت أركان إبراهيم،وأشعرته بالخزي، ضحكة كطعنة سكين اخترقت كرامته كرجل ،طأطأ رأسه، وهم بمغادرة المكان في صمت...
كانت صاحبة الدكان تراقبه من النافدة، متأملة ردة فعله، وما كاد يدير المفتاح في قفل باب منزله حتى سمعها تقول:" لا تغضب يا إبراهيم...امنحني وقتا للتفكير في الأمر...لكن ادفع ما عليك من دين أولا..."
جواب فتح عليه باب الحيرة من أمر صاحبة الدكان، وجعل الفوز بقربها أصعب مما تصور...
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire
Remarque : Seul un membre de ce blog est autorisé à enregistrer un commentaire.