هذه قراءة نقدية في نص : الى ابي ، للدكتورة الشاعرة الكبيرة سما سامي بغدادي ،،، التمس من هواة النقد تناول نص/ أمي لنفس الشاعرة ، على اساس تقاسم الخبرة و التجربة و تبرشم نسيج اللغة و الأفكار من تقديم و تأخير و اعتراض و استنتاج ...
نص : الى أبي
اشتاقت احداقي الى محياك ، أبي
حلمت بك ظلا يناغي عتبة القمر
وركناً من سكينة ترتاح فيه خصلات شعري
لم أعد كما كنت ، أبي
طفلة تتعشق بغمرة الياسمين من صباحك الندي
لم أعد تلك الفتاة بجديلة شقراء
تحلم بارتقاء الغيوم
و تحلق على جناح حمامة نحو وادي الشمس
و تنتظر القمر يجيئها على قدميه
و يخرج يديه المخفية
كي يمنحها وعداً وردياً محملاً بهدايا العيد
مضى الزمان أبي
صرت امرأة وحيدة على عتبة فصل بارد
حولي مأتم المرايا
و عزاء التجارب الباهتة
و ترابك المضياف حوّله إشارة من سكينة
تهب الريح تعوي في زقاقنا القديم
و تطوي وصال الأوقات ...
رميت ضفيرة طفولتي
و تفاحة عمري التي قطفتها
دحرجتها الأوهام
أبي مازلت انتظرك
في ضيافة الشمس و العصافير ، فلا تتأخر
عد بي إلى ربى الشعور
إلى حبور الأوقات و ليالي السمر
إلى ركنك المعبأ بالذكر
و عطور المسك في بساط جدتي
إلى صباح بأنسام بكرية
تهب في زقاقنا القديم
باتت سماؤنا مليئة بالضباب يا أبي
عد و خبئني في قعر المحيط عن عيون الشمس
أنا مهزومة كشجرة أنكرت ثمارها ،
خرساء كالصمت في منتصف حديث حب
خاوية أدور في عالم متهالك
عيناي كأعشاش عنقاوات مهجورة
كم كنت عطوفا يا ابي !
كم كنت حنوناً و أنت تغلق مرايا أحداقي .
و أنت تطفىء الشمعدان
آخذاً بيدي إلى زوايا الربيع
كم كان الصمت في حضرتك بهيا بالحبور ؟
أصغي لهمسك البعيد يشدو :
غدا، يا صغيرتي ، سوف نذكر
كيف كنا .. لسنا نعبر
لا نعرف الى ضفة الأمان كيف نعبر ..
غدا سوف يأتي الربيع ليعانق السماء ،
فقط لنؤمن ..وننظر
مواسم الحب
كيف تزهر .
سما سامي بغدادي
1- الإطار العام :
حبلى ثنايا النص الأدبي الطويل ، بالغناء الحزين تمجيداً لدور الأب الذي يملأ الحياة دفء وبهجة ، على بساط ألوان زاهية لا تبلى و ليالي الزمان .
إلى بابا ، تتطلع عيون الفراخ ، فهو الحضن و السند و الحمى ، على يده ندب أولى الخطى ، و سيراً على هديه نتهجى أبجدية الوجود ، له نحمل الأفراح و عليه نشكو الأتراح ،و الاثنين يمزج إبتسامة توقظ العزم ،و تقوي الإرادة و التحدي و الإصرار ، نظرة عميقة خبرت صروف الدهر ، ذي الناب الحاد المسموم ، و المروض على حلم بابا ، نشيدا على مسامع صغاره ، المرددين له لحنا يتفتق ألواناً طروبة تؤنس الترحال حكماً صانعة رجال و نساء الغد .
و في إضافة لما سبق، نود أن نشير، إلى التكامل الوجودي بين الطفل و الأب حسب ما تراه الدراسات النفسية ، فاذا كان الطفل يمنح الأب الأبوة ، فان هذا الأخير يمنح طفله الوجود في الحياة ، فكلاهما مرتبط بالآخر ، و على هذا الأساس يرى علم النفس بأن الطفل أب للرجل .
2- تأثر النص بالعناصر الخارجية :
يرفل هذا النص الادبي ، تأثيرات مختلفة ، متداخلة ، تستحضر أوراق الزمن الغابر ، و الزمن الحديث ، و ما بينهما من تفاعل حضاري كبير .
فأول هذه التأثيرات: مسحة دينية طاهرة تحث الانسان على الاهتداء بها ابتغاء التعايش و العمارة ، و ثانيها التصوف البسيط و ثالثها الأسطورة الخفيفة المشعة عمقا يراعي السياق ، بعيدا عن كل تكليف ثقيل على القارئ . و رابعها التناص الثر ، المتعدد و المفتوح النوافذ على الإبداعات الأدبية الحديثة التي لها تأثيرها القوي في بناء معمار ثقافتنا اليوم ، و أخيرا فن العمارة المحتضنة للذات و الأحلام و ربيع الحياة .
3- المكونات الأساسية البنيوية .
1- شدة الشوق / 1-3
2- تخطيت الطفولة / 4-13
3- السكينة / الأوهام / 14-22
4- انتظار و استرجاع لحظات الأمس /23 -36
5- مزايا و صفات الأب / 37-41
6- غدا و نوافذ الأفق / 42-49
4- مضمون القصيدة :
تجلو القصيدة ، شدة الشوق الى شخص الأب الذي لا يبلى ذكره مع مرور الايام وتقلبات الفصول و التقدم في سلم العمر ، فهو السند ، و هو العون، و إليه تزف المنى ، و بمسحة من يده البيضاء تهون المنعطفات ، و تندمل الجراح ، فهو السكينة و الهدوء ، هو منجم الطاقة و التحدي حيا و ميتا ، على ذكرياته، زاد الأمس ، تتجدد الحياة لدى الخلف و هو يراجع و يفتق براعم أحلى الدروس و أسلسها، فهي سراج من السلف للخلف ، المراعي دوما تمديد و تواجد الأب، فالأب بما أودعه صغاره يبتغي سريان حلقة الزمن ، و الفراخ بدورهم ، و هم يقفون عند كل ما يكسر الغفلة ، يرشون ماء زهر و ورد على أواصر المحبة و العرفان المبجلين لكل نبل و طموح يطمئنان الروح .
5- الايقاع الداخلي لنص .
اهم المكونات الموسيقية و الموازنة الصوتية ، و في مقدمتها الطباق :
لم اعد تلك الفتاة بجديلة شقراء
...
صرت إمرأة و حيدة على عتبة فصل بارد
...
باتت سماؤنا مليئة بالضباب أبي
...
خرساء كالصمت في منتصف حديث حب
خاوية أدور في عالم متهالك
التكرار : أبي.
اشتاقت أحداقي إلى محياك، أبي
...
أبي مازلت أنتظرك
...
كم كنت عطوفاً يا أبي !
التاء الساكنة : اشتاقت – حلمت.
التاء المتحركة : صرت – رميت
لم أعد :
لم أعد كما كنت أبي
...
لم أعد تلك الفتاة بجديلة شقراء
الهاء : يجيئها – يمنحها – قطفتها – دحرجتها
إلى :
عد بي إلى ربى الشعور
إلى حبور الأوقات و ليالي السمر
إلى ركنك المعبأ بالذكر
تهب :
تهب الريح تعوي في زقاقنا القديم
تهب في زقاقنا القديم
الى جانب كلمات مثل سكينة – عتبة – القمر – الشمس – غداً – أحداقي.
التوتر :
اشتاقت أحداقي الى محياك ، أبي
...
مضى الزمان أبي
...
عد و خبئني في قعر المحيط عن عيون الشمس
...
التوازي :
كم كنت عطوفا يا ابي !
كم كنت حنوناً و أنت تغلق مرايا أحداقي
الحوار :
الحلم- الربيع- الحب
أصغي لهمسك البعيد يشدو:
غدا ، يا صغيرتي ، سوف نذكر
كيف كنا ..لسنا نصبر
لا نعرف الى ضفة الأمان كيف نعبر ..
غدا سوف يأتي الربيع ليعانق السماء ،
فقط لنؤمن .. و ننظر
مواسم الحب
كيف تزهر
6-مكونات الصورة الشعرية : المجاز – التشبيه – الاستعارة ، و تقديم رؤية انطباعية تجريدية ، و قراءة مفككة للنص .
الصورة الشعرية ، إحدى اهم المكونات التي عليها تنبني بنية القصيدة لدى الشاعرة ، و في مقدمتها المجاز :
حلمت بك ظلا يناغي عتبة القمر
...
تحلم بارتقاء الغيوم
...
رميت ضفيرة طفولتي
و تفاحة عمري التي قطفتها
...
عد بي الى ربى الشعور
...
إلى ركنك المعبأ بالذكر
- الاستعارة :
إشتاقت أحداقي إلى محياك ، أبي
...
نحو وادي الشمس
...
و تنتظر القمر يجيئها على قدميه
...
و ترابك المضياف حوله إشارة من سكينة
...
في ضيافة الشمس و العصافير فلا تتأخر
...
عد و خبئني في قعر المحيط عن عيون الشمس
...
أخذاً بيدي الى زوايا الربيع .
- التشبيه:
أنا مهزومة كشجرة أنكرت ثمارها ،
خرساء كالصمت في منتصف حديث حب
...
عيناي كأعشاش عنقاوات مهجورة
-قراءة انطباعية للنص:
نلمس من خلال قراءة قصيدة : الى أبي ، على أننا أمام قصيدة إبداعية ثرية بمعمارها الفني و الجمالي النبيلين الرائعين الساعيين إلى تواجد الأب ، عبر استذكار و اعتراف جد مؤثرين ، لا ينال منهما سباق الليل و النهار ، و قد نقشا في أبهى حلل حرف يرعى سحر المبنى و المعنى ، زاد من حسنهما خيال خصب يتزين استعارات بالغة التأثير لدى القارئ ، الباحث عن نص متميز متفرد ، و من الكتابة الأدبية الحديثة، ينهل اثراء للخبرة و التجربة ، متكلمة اختلاف الأنا اضافة نوعية ، ترجح الرصيد الفني تشذيبا يطال الفكرة و اللغة المنفتحتين على جديد الساحة الفكرية ، و ما تحفل به من دراسات تحليلية و تأويلية و تفكيكية و غيرها ، و كلها تروم عمق النص الذي سنعرج عليه قراءة تفكيكية .
-قراءة تفكيكية للنص:
وقفت قراءتنا للنص :إلى أبي ، على كونه بنية من عدة مقاطع مترابطة فيما بينها ، على أساس وحدة كاملة للنص الإبداعي المؤثر ، واجلاء للأثر الغني، نتوقف عند كل مقطع على حدة، في ترابط فيما بين المقاطع وحدة معمارية جد متميزة .
تبتدئ القصيدة في مقطعها الأول / 1-3 ، الشديد التوثر و هي أشد شوقا إلى سكينة محتضنة تهب الاطمئنان الذي كان يجسده الأب و لا يزال، عبر استرجاع شريط الذكريات ، و قد تجدد أثر الشوق و تفجر الحلم : استرسال متوالية لا تخمد و لا تصدأ ، إلى أبي ... إلى أبي
إلى أبي
اشتاقت أحداقي إلى محياك ، أبي
حلمت بك ظلا يناغي عتبة القمر
و ركنا من سكينة ترتاح فيه خصلات شعري .
أما المقطع الثاني /4-13، ففي شجن و أسى عميقين ، يتخلى مرغا عنه ، عن عالم الطفولة البهيج بألوانه و هداياه التي ترحل معنا العمر كله ، و هي الأنس في الوحدة و الزاد في الغربة القارسة ، و الزمن يلج أبوابا أخرى على مسار التيه المراكم للكثير من الأزهار و الأشواك ، أخذا و ردا يصقلان الإرادة و تربة الطموح و التحدي يخصبان في تدرج عمري و علمي وثقافي واجتماعي واكبها تخاتل الزمان و موجه بعيدا انداح و ثناياه أبي تكرار لذيذ، عميق الأثر في النفس و الأذن ، خاصة و ان أبي آخر صدى السطر ، يتقدمها إيقاع مكرر فاتن لم/اعد ... الموحية بالأسى و البعد الحسابي دون النفسي ، و ذلك باعتماد هرس اللغة و هسيسها تلبية شعور دافئ لدى الشاعرة الكبيرة مروضة اللغة تعابير و احاسيس :
لم أعد كما كنت أبي
...
لم أعد تلك الفتاة بجديلة شقراء
...
مضى الزمان أبي .
يتميز المقطع الثالث/ 14-22 ،بتوتر و انفعال قويين ، حتى و الذات تحتمي طالبة السكينة زاوية الأمس ، تجد نفسها من فقد إلى فقد، تلافيف شعور تجلوه أفعال ماضية حسمت جرحها: صرت – رميت - دحرجتها، و أفعال مضارع مسترسل الحزن: تهب – تطوي.
الملفت في المقطع الرابع /23-36، زخم التوتر المفضي إلى الوقوف أمام نافذة الانتظار لارتياد فرح و هناء التواجد ضمن أماكن سرت النفس غاية ما يكون السرور ، المتناوب و ترح الزمان و المكان الفاقدين لمعناهما بعد رحيل حامي الدار و أهلها ، فبرحيل الأب تعرف الحياة رجة قوية ، نحاول أن نتخطاها و نحن نتشبث بصدى الذكر و النقر على أوتار الإبداع ، نسيجا ينثر ثقافة الاعتراف و تخفيف صدمة أفراد المجتمع و هم ينالون من رحيق الأفكار المزهوة لحنا أو لونا ، و الهدف من كل هذا ، الانتصار للحياة التي يجب أن تؤثت إيقاعا مغايرا ، كما هو الحال في المقطع متكلم الأنا و شوق الانتظار ، الذي يرفض التأخر :
في ضيافة الشمس و العصافير فلا تتأخر
و قبلها الكلمة الحلوة ذات النغم السحري: أبي. و كواسطة العقد مرة أخرى يطل فعل : عد بي: يردفه إلى ، إلى ،إلى، طلبا للاشباع و الارتواء و الهروب من أدران العالم و تهافته و ابتذاله .
يتغنى المقطع الخامس/ 37-41 ،مزايا و صفات الأب ، نبرة تعجبية تنفي الشبيه و المثال ، و في نفس الآن الابريت الذي لا يتقادم ، و لا تمل الروح من تكرار سماعه ، الخفيف مخاطب الوجدان رنة رقيقة على أجنحة كم –كم – كنت –كنت و أنت- أنت .عبقة ترفرف و تزقزق استرجاعا يهب القوة و الأمل و أواصر المحبة و الذكرى حبلا متينا تضفر ، في استحضار الروح و تجوال زوايا الذكريات صرة الأمس العطرة .
في هذا المقطع الأخير / غدا و نوافذ الأفق/ 42-49 ،تشرئب عيون الشاعرة الكبيرة سما سامي بغدادي إلى أفق الحلم في حوار صدحت به روح الأب على قيثارة حبيبته مفتقة الكلم ، حيث حلق الاثنان/ الثنائي المرح يدا في يد يسبقان تموج الأثير ، و عيونهما حب كبير و أمل كبير بوهج نظارة الربيع و أزهاره:
غدا يا صغيرتي ، سوف نذكر
...
غدا سوف يأتي الربيع ليعانق السماء
فقط لنؤمن .. و ننظر
مواسم الحب
كيف تزهر
7- توضيح هدف الشاعرة :
تروم الشاعرة الكبيرة سما سامي بغداي ، في قصيدتها الرائعة : إلى أبي : الفراغ النفسي الذي خلفه غياب الأب ، و هو فراغ لم يفت الشاعرة أن تتوقف عند كل ملمح من ملامحه المتعددة و المختلفة ، سواء في الزمان او المكان و ما يحفلان به من مناسبات حفرت أخاديدها العميقة في النفس ، و هو ما يجعلها لا تبلى و لا إليها يتسرب النسيان ، و كيف للنسيان أن يخطو خطوته نحو أب حنون راق ، أشبع الوجدان و العاطفة ؟! مقابل هذا و غيره ، تشدو الشاعرة الرقيقة العرفان و الاحتضان و الحمى و الدفء و ثقافة الاعتراف، أجمل هدية من خير خلف لخير سلف .
8- استنباط النتائج :
يتميز نص : إلى أبي . بشدوه المؤثر جدا ، و المتسرب إلى شغاف القلب منذ اللحظة الأولى ، مخلفا إحساسا يخض المشاعر، سنده في ذلك تموج موسيقى تقطر شجنا و حزنا ، نسجا على توتر للغة شعرية مطواعة ، تنبض ألم الفراق و وحشة الفراغ و قد ملأت الشاعرة المبدعة دوما صداه دفء أوراق الأمس، و شذرات سير ذاتية و حوار يتطلع إلى أبهى نوافذ الغد سبيل الإنسان إلى كل تتفتق جميل ، يهب الحياة الحب و فتنة الربيع .
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire
Remarque : Seul un membre de ce blog est autorisé à enregistrer un commentaire.