منذ طلاقها قبل ثمانية أشهر وهي تواجه التحول الأهم في حياتها. فقد ولدت في أبيدجان بساحل العاج في شهر يناير1952.والدها كان يعمل بال ( جندر ميري) ويخدم بوزارة المستعمرات. كانت فتاة بيضاء طويلة في صف دراسي أغلبه من السود. وعلى الرغم من كونها ليست عنصرية، إلا أنها ما أحبت هؤلاء السود. وفي الجامعة كان أغلب زملائها السود يتجنبونها. كانت تدرس القانون. وفي العام الثالث تسببت في فصل طالبين سبا فرنسا بالجامعة الفرنسية بابدجان أمامها. أخبرت والدها العسكري دون أن تدري أن العقاب سيصل إلى الفصل. ولما تعرضت للاستفزاز والإهانة من زملائها وعادت إليه قال وهو يقف خلف شباك يطل على المدى: هؤلاء العبيد لا يستحقون التعليم. سوغولين تعرف أن هذا الدرس الأول لتعليم العنصرية في حياتها. إنها امرأة أرستقراطية وفي عرف طبقتها ينقسم الناس إلى سادة وعبيد. كما إنها سليلة الامبراطورية الفرنسية بأراضي ما وراء البحار. تلك الامبراطورية التي يديرها وزير المستعمرات. وعلى الرغم من استقلال أغلب المستعمرات الفرنسية بعد الحرب العالمية الثانية، إلا أن النفوذ الفرنسي لازال موجودا في إثني عشرة دولة أفريقية. إنها تعرف أفريقيا بحكم التكوين أكثر من أوروبا. وحين تفكر في هذه تؤكد لديها فكرة السادة والعبيد. في شبابها انتسبت للحزب الاشتراكي، حزب أبيها الذي كان يحكم وقتئذ. ولما تزوجت من صديق والدها تركت أفريقيا وظلت تدعمه حتي صار رئيس شرطة المدينة. في تلك الفترة التي بلغت ثلاثة عقود شربت العنصرية من أجهزة الشرطة السرية. أدركت أن مراقبة الناس بالمدينة تتوقف على أساس واحد، إما من السادة أو من العبيد. يشمل ذلك أبناء المدينة الأصلين والمقيمين بها. ومع ظهور الحزب اليميني المتطرف الذي يتخذ من شعلة النار رمزا له في ثمانينيات القرن الماضي استحدثوا له شعبة خاصة. وبحكم التقلبات السياسية أدركت سوغولين أن بلدها بلد مؤسسات. تعتبر تلك المؤسسات الثورة الفرنسية 1789 أساسا لها. وكلما ابتعدت الحكومة عن مبادئها الثلاثة: الحرية والأخوة والمساواة ، ردتها إليها. وان المشاكل الاجتماعية يتم بلورة حلول لها من الجامعة. الجامعة تبحث وتدرس حتى تصل إلى حلول. وحين يتم لها ذلك ترفع الحلول إلى دوائر السياسية والحكم بالدولة. تقارن سوغولين بين مبادئ الثورة بفترة حكم ساركوزي التي تجاوزت منتصفها فلم تجد وجها للمقارنة. فرئيس الشرطة الذي طلقها قص جنسيات عشرات الأفراد وردهم إلى بلدانهم الاصلية بدعوى الإرهاب. والحرية صارت منقوصة من ال ( ميديا) التى تنصر اسرائيل بالحق والباطل. ولا مساواة في المدينة على الاقل فيما يتعلق بأبنائها المسلمين. ثم تربط سوغولين بين ظهور الحزب اليميني المتطرف والفوبيا من الإسلام. إنها لا تنكر تغلغل اليهود خصوصا في الثقافة والإعلام. وتجد أن إعلامهم صار أقرب ما يكون من الإعلام الرسمي للمدينة. وفي وسائل التواصل يسبقون غيرهم بما لديهم من تكنولوجيا ويستقطبون أغلب السكان في البيوت. سوغولين تفكك كل ما عرفته من أفكار عنصرية وقد تجاوزت الخمسين بعامين. أولادها تخرجوا من الجامعة وشق كل منهم طريقه مثل كل شباب المدينة. بعد الدراسة ينسج كل منهم حياته على هواه. فربما تزوج أو رافق من جنسه أو غير جنسه. في كل الأحوال لا يعود إلى منزل والديه. لقد صارت وحيدة وتركت المدينة إلى ضاحية ( بلامو نيل) ليس معها سوى الخادمة. ابتعدت عن الأضواء بالكلية وعادت لكتب القانون. إنها لا تعرف ماذا تريد من تلك الكتب؟ إن أمر البلاد لا يعنيها أكثر من أمر الأولاد. أما الكتب؛ فربما جعلتها أكثر قربا من روح القانون وهي تكفر عن سيئاتها. أو ربما كانت رغبة دفينة لدراسة شيء ما. إنها لا تعرف على وجه الدقة، ومع ذلك لا تكف عن القراءة.
***
بعد ثمانية أشهر من المجهود الذهني فكرت سوغولين أن تروي حكايتها في كتاب. أسقطت طبقة التجار والحرفين من جمهورية أفلاطون، وتريد أن تحكي عن طبقتي الملوك والحراس. لكن كيف لها أن تفعل وهي تريد أباها وزوجها قبل غيرهما؟ ثم إنها تريد سيرة خاصة وعامة وهذا ما سوف يجلب لها المساءلة والمتاعب. كما أن عائلتها الأرستقراطية لن تسامحها إن كتبت ما تريد. صحيح أن والدها قد مات، لكن له أخ وأخت علي قيد الحياة. كما أن لها أخت وحيدة تصغرها وأخين يكبرانها، ربما قاضوها لو اهتزت لديهم صورة الأب. هذا بخلاف الوزراء والرؤساء الذين ينتمون لطبقة الملوك، ورجال الجيش وال ( جندر ميري) المفوضون في المستعمرات، الذين يمثلون طبقة الحراس. إن لها صديقة تعمل مستشارة بمكتب الملك أو الرئيس الحالي ساركوزي. سوغولين مثل طبقتها لا ترى فرنسا جمهورية اشتراكية وانما مملكة. ساركوزي وشيراك وميتران وشارل ديجول امتداد للويس الثامن والعاشر والرابع عشر. وتعلم من صديقتها ما يحتاج لمجلد ضخم عن سلوك الملك السادي في قصر الإليزيه. هل تستطيع أن تكتب ذلك كله؟ إنها تعيش التحول الأهم في حياتها وربما الأخير. لقد ابتدأت العقد السادس من عامين، وغالبا لا يكتسب الإنسان معارف حياتية مهمة بعد الخمسين وإنما يكمل بالدفع الذاتي. الخبرة التي اكتسبها خمسة عقود تحمله في البقية. تقف سوغولين على حلقات عمرها الخمس. كأن كل حلقة سلبتها عشر سنوات من عمرها. تستطيع أن تربط كل حلقة بانجاز وصورة لملامحها، عدا الحلقة الأخيرة التى ابتدأت بالطلاق. كما تعرض عن فكرة الكتاب التى ارتضتها. إنها مسالمة إلى أبعد حد وتؤثر الهدوء والبعد. لقد جمدت عضويتها بالحزب الإشتراكي وما عادت تشارك بالأنشطة والفعاليات. وجه الجنرال ورجاله المقربين صارت تثير اشمئزازها ولا تريد رؤيتها ولو صدفة. كما قصت كل العلاقات التى كانت مشتركة مع زوجها السابق. وقد انقطعت أخبارها تماما إلا عن حفنة من الأصدقاء المقربين. ثم يأتي عليها الفجر كأنما بعد طول غياب. إنها في حالة نفسية سيئة تحجبها عن أصدقائها المقربين. لا تريد لأحد أن يشعر بضعفها. لكن وجهها الأبيض المشرب بالحمرة لا يقول ذلك أبدا. مهما ساءت حالتها النفسية لا يبدو ذلك في صفحة وجهها. الصفاء الخالي من أي رهبة وصوتها الخفيض الدافئ يوحي لمن لا يعرفها أنها مؤمنة، وهي لادينية. أم أرتور أول من وقفت على تلك الحقيقة. كانت تقارن بينها وبين موسي نصار. فالمؤمن الوحيد الذي تعرفه لا يبلغ وجهه الصفاء إلا قليلا. وهي الأرستقراطية اللادينية يدوم بوجهها الصفاء. أتى الفجر وسوغولين في ملابس الرياضة تتطلع إلى إتجاه محطة القطار. كلبها ال ( دوبر مان) ينبح ويوقظها. منذ طارت مجموعة من الشباب السود بكلبها عند المحطة، وكلما نبح نظرت إلى هناك. كانت تتريض به ليلا وأخذها إلى هناك. كان ثلاثة من الشباب السود يقفون بكلابهم خارج المحطة. وكلما خرج أحد الركاب أطلقوا عليه كلبا، ليقف في مستوى عضوه التناسلي فاغرا فمه. أنيابه الطويلة ولسانه الأحمر المتدلي من فمه تثير الرعب. ولا نجاة لراكب حتي يلقي بحافظته لهم. سوغولين البيضاء صافية الوجه دوما طاردت بكلبها الكلاب الثلاثة، وما انصرفت حتي أتي ال ( بوليس). إنها سليلة الامبراطورية الفرنسية. وحين تراها في زي الرياضة وعلي رأسها ال ( كاب) لا تظن أبدا أنها إمرأة. شعرها الذي لا يجاوز كتفيها يختفي تحت ال ( كاب)، وعودها الطويل المشدود يشبه الفرسان. كانت تقف في طابق ال ( فيلا) الثاني وتنظر ل ( بوكس) الكلب. وكانت تصرخ وتناديه حتي يسمع صوتها، لكن الكلب الذي يسمعها لم يكف عن النباح. ولما تناولت قهوتها، نزلت إليه وفكت وثاقه وذهبت به إلى المحطة.
***
مع خيوط الضوء الأولى عادت سوغولين بالصيد. لقد صدق حدس الكلب. منذ خرج من البوابة ولا قصد له سوى المحطة. أخذ الطريق الذي يحادي منطقة ال ( فلل) وتحده مساحة كبيرة من الغدير حتى انتهى منها. كل ( فيلا) مكونه من ثلاث طوابق وسط ألف متر من الأشجار والأزهار وتقع بآخر الوادي. ثم صار يقطع منطقة العمارات ويسلك الطريق الهابط من المحطة. ذاك الطريق الذي تحفه النباتات والورود والأزهار من حوله في أصص ومكرميات. ورغم أن المسافة تزيد على أربعة كيلومترات ؛ فقد قطعها الكلب في أقل من عشرين دقيقة. كان يزداد ركضا كلما تقدم صوب المحطة. ونباحه غير المنتظم لا يتوقف في كل مرة حتى يسمع صوت صاحبته وهي تشجعه وتزداد ركضا إلى جواره. كانت المحطة في ذلك الوقت خالية تماما من الركاب على الأرصفة وبالخارج. والموظفان المناوبان نائمان، والأطر الحديدية التي لا تفتح للداخل والخارج إلا بتمرير التذكرة مفتوحة. وثمة شابان أسودان يقفان خارجها بكلبين ضخمين وينتظران قطار ال ( ار ار) القادم بعد عشر دقائق. وقفت سوغولين بكلبها بعيدا بين دغل الزهور المتنامي وهي تشير للكلب بالصمت. ولما جاء القطار وصعد ثلاثة رجال لاغير من الرصيف عبر السلم المتحرك وخرجوا من الأطر الحديدية المفتوحة وتعرض لهم الشابين خرج كلب سوغولين من الدغل مثل أسد. كان يصارع الكلبين بينما تصارع صاحبته الشابين. ولما صرع كل منهما غريمه، عادت سوغولين بالشابين والكلبين إلي البيت. كان قرص الشمس لازال يتثائب في احمراره شرق الأفق. وبعدما أعدت الخادمة الفطور للشابين اصطحبتهما لغرفة بالطابق الأرضي بجوار السلم. لقد استسلم الشابان ولم يسألا عن مصيرهما بعدما ابتعدت فرضية تسليمهما للشرطة. فلو كانت تريد ذلك لانتهي الأمر عند المحطة. أما سوغولين التي تتعرض للتحول الأهم في حياتها؛ فقد وجدت ما يمكن أن تصنعه. تريد أن تقدم خدمة تتصالح بها مع تكوينها بافريقيا، وهذان الشابان نواة لها. وفي خلال اسبوع واحد أنشأت جمعية أهلية لمساعدة الأفارقة المشردين بالمدينة وضواحيها. لقد تلقت عائلتها الأرستقراطية وأولادها وأصدقاؤها هذا الخبر بالاستحسان. المكالمات التي وردت إليها تعدت هؤلاء إلى العديد من الشخصيات العامة بما فيها الجنرال الذي لا تطيقه. لقد أتت الانتخابات البرلمانية الأخيرة بحكومة اشتراكية تمهيدا لرئيس اشتراكي، حصل فيها الجنرال على حقيبة الداخلية. وصديقاتها المطلقات اللواتي يحطن بأم أرتور يطالبنها بالعودة لأنشطة الحزب. لقد أخذت الجمعية الناشئة بعض وقتها، لكنها لازالت لم تعثر ليومها على نسق. بعد أقل من شهر صار لديها أربعون شابا وشابة من القارة السمراء. مشاكلهم تتفاوت بين الحاجة لأوراق الإقامة، وعدم وجود عمل، والحاجة للأموال ،للطعام والشراب، والحماية من مطاردة البوليس. وكلما جاءها من ساحل العاج أحد اهتمت به أكثر من غيره. لقد أحيت بعض علاقات قديمة مع دوائر وزارة الداخلية إضافة إلى وزارتي الشباب والتأمينات. بل صار بيتها وحدة شؤون اجتماعية، بما يرد عليه ليل نهار. الضعفاء والمحتاجون بالمدينة كثر ويبحثون دوما عن أم أو أب رؤوم.
***
ومع إنجاز جمعيتها الأول دعت سوغولين ام أرتور ونتالي إلى بيتها. كانت سعيدة بقبول الجامعة لشابين إفريقيين أحدهما من أبدجان والآخر من نيامي ببنين. كان كل منهما قد حصل على إجازة في القانون من بلده، ويريد اكمال دراسته، لكن عدم وجود أوراق الإقامة يمنع الجامعة من قبوله. لقد قطعت سوغولين جولات ماراثونية حتى تقبل الجامعة. وفي كل جولة كانت تذكر البلاد التي أتي منها هؤلاء وما قدمته لوطنها. ولما استسلم رئيس الجامعة لدفوعاتها قالت وهي تشكره: ربما صار أحدهما سفيرا أو وزيرا. وقبل الغروب بقليل خرجت سوغولين بالسيارة لحمل أم أرتور ونتالي من محطة القطار. وبعد الأحضان والقبلات والتحسر على الدنيا والرجال، انطلقت بهما عائدة. أثنت الضيفتان على أشجار الورد الممدودة مع طول الطريق الهابط للوادي. وخلبتهم البصيلات الزهرية، والأسبتة المعلقة علي الاقواس المعدنية . ثم قالت نتالي: لو ما كان من سكان بالحي، لزعمت أنك من صنع كل هذا الجمال. هذه أجواء تستجلب التوحد والوجد. نظرت سوغولين لأم أرتور في المرآة وكلاهما يضحك وقالت: أرأيت الإحالات ! نتالي غارقة في التأمل، ونحن هنا بالريف والطبيعة لا تقاوم. بماذا أوحى الطريق لك أنت بزينته وتناسق زهوره وأشجاره؟. قالت أم أرتور وهي لازالت تضحك: تصورت أنه أعد خصيصا لعروسين كما كان يصنع الملوك في قصر فرساي. سكان الحي هنا يعيشون أفضل من ساركوزي. قالت نتالي: دعينا من ساركوزي، أمازال لديك رغبة في الرجل؟ أمازلت تفكرين في الجنس؟ في هذه الآونة نزلت سوغولين بالسيارة الى الطريق المؤدي لبيتها والذي يحفه الغدير. ولما دخلت بالسيارة، كان هناك في آخر السور المسيج بالنباتات الخادمة تشوي اللحم علي الفحم وحولها ستة شباب أفارقة بينهم الشابين المقبولين بالجامعة. وبعد نحو ساعتين انصرف الشباب، وراحت النسوة الثلاث تشرب وتتسامر. أما الخادمة فقد باتت تجلب لهن ما أردن. كانت تجلس بعيدا تتسمع على إيقاع الكلام وتسارعه. الكلام لا يعنيها إبتداء، وإنما نبرته وايماءاته. تعرف أن سيدتها تنشط بعد الكأس الأول في ذاكرتها، فتبدو مبتهجة بما تقول. وبعد الكأس الثانية تجمع شعرها الذي لا يجاوز كتفيها للخلف وتخنقه بشريط أسود. أما بعد الكأس الثالثة فتشتد عقيرتها، ويخفت صوتها، وتبدو في أفق أعلى من العقل يأتي الكلام فيه من فلك بعيد. الخادمة تجلب لها ما تحتاج دون أن تطلب. إنها سميرتها الدائمة من زمن قديم. ولا تجلب لصاحبتيها الإ ما تطلبانه. هي الآن تخنق شعرها وتفرد جذعها في الكرسي وتقول: دعوني اتكلم بحرية عن الأشياء التي تساعدني على الحياة. ثم نظرت لنتالي وهي تقول: دعينا من أناندا تلميذ بوذا اليقظ. لا تهمني محاوراتهما ولا ترتيل التلميذ لوصايا الأستاذ باول مجلس بوذي بعد رحيله ليؤكد عبقريته. كما نظرت لأم أرتور وقالت: كذلك لا تهمني الرؤية النسوية للعالم والعودة في التاريخ لحكم المرأة. قضيتي الوقوف بوجه العنف بكل أشكاله. ما الذي يجب تغييره؟ ما الذي ننتظر من دراسة الأخلاق؟ أن نكون بشرا أصلح؟ نحن نفشل في ذلك على أكثر من صعيد. يمكن أن تكون تلك الدراسة جوهرية لو تغير شكلها. لو صارت الاخلاق والأخلاق التطبيقية مثلا شيئا واحدا. وان تبدأ الدراسة بقضايا حياتية واقعية لا افتراضية. ولا نعزل النظريات التاريخية الأخلاقية عن قضايا اليوم، ولا تطبق تعسفيا عليها. قالت نتالي: مالذي تنتظرين من فلسفة الأخلاق؟ البحث عن ماهية الفضيلة، أم تخريج جيل من المواطنين الصالحين؟ ردت سوغولين: بل الكشف عن ماهية الفضيلة وكم هي مفيدة للمجتمع. قاطعتها نتالي: هكذا خالفت أرسطو في علم الأخلاق. ولو ظل كذلك فهمك، لا فائدة ترجى من بحثك. ينبغي من دراسة علم الأخلاق أن نصير بشرا أفضل. قالت أم أرتور: وهل لو شاع علم الأخلاق ابتعدت الناس عن العنف؟ شخصيا لا أظن. الفترات التي ارتفعت فيها الأخلاق في التاريخ لدينا ولدى غيرنا كانت فترات رخاء، وإنسان اليوم مأزوم. يجب عليك أولا إخراجه من أزمته. ثم قالت وهي تضحك وترشف من كأسها: وهذه تحتاج طبيبا نفسيا لكل مواطن. وجدان الناس لابد أن يتغير. ورغباتهم يجب أن تتحرر وتجافي المنحرف والشاذ. أي لابد من رد الإنسان لسويته أولا قبل أن نعلمه الأخلاق.
***
احتست سوغولين كأسها الثالثة وخفت صوتها وهبط لديها إيقاع الكلام. قالت وهي تنظر للأفق الكابي كأنما ترقب شيئا هناك: أستطيع ان أقول مع سارتر أن الحياة ثلاث مراحل. الأولى اعتقادي أني سوف أغير الدنيا. الثانية إيماني بأني لن أغيرها. الثالثة تأكدي أنها قد غيرتني. وأنا اليوم قد وصلت المرحلة الأخيرة بسبب العنف. في المرحلة الأولي كنت بابدجان. كنت صغيرة وساذجة. ما كان يحبني الناس هناك بسبب قوميتي، ومع ذلك كان لي منهم أصدقاء. وفي الثالثة عشرة هزني حادث اغتصاب. ( إيريكا) صديقتي ابنة قنصل ساحل العاج بالمدينة أغتصبت من قبل عسكري فرنسي. كانت قوية وناهضة كأبناء الأرض المحرقة. شفتاها ممتلئتان وكبيرتان، وصدرها أكبر من صدري. لازلت أحمل لها برأسي صورة تؤلمني. ساءت هيئتها وذبلت ورغم ذلك لم تكرهني. العنف النفسي يأتي بعد الجسدي مباشرة. ولا أفهم لم يسود العنف ضد المرأة بالعالم حتي في البلدان التي تعتمد الدين؟ دعك من هذا وذاك. لقد قضيت ثلاثين عاما مع الرجل الذي يمنعني اليوم عن أنشطة الحزب. في خلال تلك الفترة عرفت عنف الدولة. سألت أم أرتور يعجب: كيف؟ ردت سوغولين: هل تذكرين الرجل الصوفي الذي زرتيني من أجله؟ قالت: نعم، موسى نصار. قالت سوغولين: خذيه مثلا لفهم المعاملة الأمنية للأجانب. لقد قرأت ملفه الأمني. من سوء حظه أنه كان هنا قبل تفجيرات سبتمبر2001 بنيويورك، وكان ينتقد اليهود بكل موضع يمشي إليه. من وقتها وهو تحت المنظار. الشرطة السرية التي تلاحق الأجانب لها عشرة أطواق. سألت نتالي: ماذا تعني؟ ردت سوغولين: أناس ترافقهم بالشارع والعمل والمواصلات. لكل طوق رسالة يبغي توصيلها للأجنبي. الأول يبغي ازعاجه، والثاني يذكره بما كان بليله، والثالث يقول له أين هو ذاهب، .....، والثامن يهدده بالترحيل، والتاسع يهدده بالقتل، والعاشر يجلب له الكوابيس في النوم. سألت أم أرتور: ويخترقون إرسال تلفزيونه وهاتفه؟ أومأت سوغولين برأسها إيجابا. قالت أم أرتور: كم حدثني موسى عن ذلك ولم أفهمه. سألت نتالي: إذا كان هذا حال العابر للمدينة فكيف حال المقيم؟ إني احب البحث عن الحقيقة لا تقديس من يكتشفوها. ضحكت سوغولين بجنون وراحت تقول: لا حاجة لي في التقديس من أحد، بوذا أولي لك بالتقديس. ومع ذلك فحال المقيم أكثر سوء من حال العابر. سألت أم أرتور: كيف؟ ردت سوغولين: انظري مثلا لبيتك وحيك. هل استطيع دخول بيتك دون معرفة كوده؟ قالت لا. سألت سوغولين: أليس لكل بيت كوده المختلف عن غيره؟ قالت نعم. قالت سوغولين: ورغم ذلك تجدين بكل قسم شرطة مفتاح مخصوص يفتح كل الحي. أي أن سكان المدينة الأصلين يعيشون بين جدر مغلقة. ويمكن أن يلتقطهم البوليس بأي وقت. صرخت الضيفتان عجبا مما قالت صاحبة النزل. كانت نبرة الهدوء والثقة في صوتها تجبرهما على التصديق. المدينة التي تحترم القانون وتتسم بالحرية يمكن لشرطتها دخول البيوت في غيبة أصحابها. من الذي يصدق ذلك؟ في تلك الأثناء امتنعت النسوة عن الشراب. ما عادت لديهن قدرة علي احتساء المزيد، ولا قول المزيد. ثم ران صمت ثقيل وموحش نهضت على إثره الخادمة لتنظيف الطاولة. ولما تبدل الأفق الكابي وظهرت فيه أول خيوط الضوء، حملت سوغولين صديقتيها إلى محطة القطار.
***
سوغولين صارت معروفة بالحي بتلك الفترة القصيرة. زيارة أولادها وأقاربها وأصدقائها، والأفارقة الذين يتوافدون عليها طيلة الوقت لفت الناس إليها. أغلب الجيران تعرف عليها وقت تريضها. لديهم الكلاب الشرسة والأفراس والخيول، والنجيلة الخضراء التي أحالت أرض الوادي إلى مرعى كبير جعلتهم يقتربون منها ويحيونها. إنها ودودة بطبعها، ووجهها الصافي دوما، ونبرة صوتها الشجية تجذب إليها الرجال.
تعودت أن لا تبادر أحدا بالكلام، ومع ذلك إذا سلمت لم تسحب كفها حتى يفعل من بادرها بالسلام. تتفقد مربعات الوادي يوميا كأنها من جهاز البيئة. أسيجة من أشجار سامقة يبلغ ارتفاعها أربعة أمتار تحدد كل مربع. طولها مثل عرضها 2 كيلو متر. وثمة أحواض تشتمل على نباتات وبصيلات زهرية شتوية وصيفية ومستديمة الخضرة. تتعهد الطيور كبيرة الأجنحة التي تتردد عليها. تحاول التميز بين أصواتها ودائما ما تفشل. لو وجدت في تفقدها خرطوم التنقيط بعيدا عن جذر شجرة جذبته لمكانه. ولو رأت حصاة على نبتة ضعيفة زاحتها
عنها. سوغولين تعرف رائحة الحشيش ولا تدخنه. تشرب كثيرا لكن رغبتها في التدخين إجمالا ضعيفة. علبة السجائر من النوع الخفيف تكفيها ثلاثة أيام. تعودت أن تشم رائحة الحشيش في دخان بعض الشباب الذين يتربصون حولها بالخيول. وذات مرة شعرت في أنفها بتغير الرائحة. تعرف أن الشم هو أقوى حاسة لديها. وتستطيع الوقوف على الحدود الدقيقة التى تفصل بين العطور المتقاربة. كانت أمها هكذا، وهي أرستقراطية بالوراثة. دارت حول الشباب الثلاثة ووقفت باتجاه الريح. هكذا باتت مرمى للدخان الخارج من لفافات الشباب. ولما تأكدت من ظنها سألت أقربهم إليها: ما هذا الذي تدخنوه؟ سألت وما أجابها أحد. راح ينظر كل منهم للآخر كمتهم يبغي الإنكار. لقد فاجأتهم بهذا الكلام. كل هذا المدة وهي تعرف ما يدخنونه دونما تلميح أو بيان. ولما أدركت حيرتهم وارتباكهم أشعلت سيجارة على عجل وهي تضحك وتعاود السؤال. رد أحدهم: حشيش، رائحة حشيش. قالت: أبدا. تعجب الشباب منها أكثر وعلا غضبهم وقال أحدهم بغيظ: هذا روث خيل. حين لا يكون معنا أي حشيش ندخن روث الخيل. نخلطه بالتبغ جيدا بعد تجفيفه ونعد اللفافة. سألت: وهل تصلون إلى نفس الحالة من الروث؟ قال: ليس تماما، لكنه أفضل من تدخين التبغ وحده. في هذا اليوم تأكدت أن أنفها لا يخونها فامسكته بيدها وشكرته.
***
في الأيام التالية راحت سوغولين تتدبر أحوال المدينة. هذه العادة لزمتها منذ عرفت الوعي. كم مرة صنعت ذلك؟, لا تدري. غير أنها تفعل أمام كل استحقاق ذاتي أو موضوعي. كم يقارب توقعها وتخمينها ما يحدث؟، يقاربه إلى حد كبير. ولها أماكن بالمدينة لازالت تثير لديها الدهشة. تحتويها بحنو أي وقت متى أرادت كشف حساب. وترى أن الرئيس الذي سقط من عين شعبه لا يمكن أن يبقي بالاليزيه. الملك السادي ما عادت تكتم أسراره الجدران. ولو غفر له الشعب سيئاته كلها، لا يمكن أن يسامحه في مؤامرة وصوله للحكم. لما استمالته مخابرات ليبيا أثناء حملته الانتخابية حتي التقى سرا الرئيس الليبي. والاتفاق الذي تم بين الرجلين دعمه وحمله إلى الإليزيه. حصل بموجبه على خمسين مليون يورو مقابل دعم سياسة طاغية. لقد اكتشف الشعب المؤامرة منذ أقل من شهر. من وقتها انهارت شعبيته وبات منبوذا حتى في مكتبه الصغير. الشعوب لا ترحم. هكذا تهيأ الوضع لفرانسوا هولاند. تتساءل سوغولين: لكن كيف يوافق رئيس فرنسا أن يشتريه طاغية؟ حتي لو كان شريفا، كيف يسمح لنفسه بذلك؟ أي أخلاق تلك؟ وإذا كان الرئيس اليميني قد فعلها، فهل يفعلها اليساري؟ تبا لهؤلاء الذين لا يؤمنون بالامبراطورية الفرنسية. سوغولين تتمنى لو تطير. لو ترتفع بقدر معقول عن كل التفاصيل.و تعود إلى الأماكن التى لازالت صالحة لإثارة دهشتها. تعود إلى حي ( مونمارت) وكنيسة القلب المقدس الأثرية. خطوتها تتلمس البلاط الأسود القديم بشغف. تنظر بوجوه الرسامين الذين يرسمون البورتريه من كل العالم. ترفع أنفها الدقيق الطويل كأنما تتشمم العبق. تبتسم لهؤلاء الأجانب الذين يجلسون أمام الرسامين وتتذكر كم فعلت ذلك . تزور متحف سلفادور دالي ثم تزور الكنيسة. اللوحات المعروضة على الجدر العتيقة تذكرها بأصلها الأرستقراطي لا بالمسيح والأسرة المقدسة. سوغولين ترى نفسها روحا قديما منذ كانت الدنيا. وصلت إليها قبل المسيح بل قبل آدم ونوح. تنزل الدرج بعد زيارتها وتميل يمينا وتجلس على كرسي حجري تحت شجرة. تأخذ شهيقا عميقا وتخرجه ببطء وعلى دفعات. وتلوح أمامها المدينة كلها مثل صبية رومانية ممسوخة الوجه ممزقة الثياب. سوغولين تجلس وحيدة دون هاتف. هكذا تصنع في تلك الأوقات. تتصفح مباني العلم الشاخصة نحوها كشموس. تقف على مقبرة العظماء والجامعة التي درست بها. وتشير على برج ( ايفل) ومكتبة جورج بومبيدو ومبنى اليونسكو. ولما تدور برأسها يسارا وتنظر في القريب تقف على الأماكن التي يسهر فيها الكفر للصباح. الطاحونة الحمراء وحي ( بيجال) الذي خصصته السلطات للإباحية، وغواني (سان دوني). ثم تهب عليها نفحة خلاص فلسفية. إنها لم تدرس الفلسفة لكنها تتجاوزها أحيانا . قبل أيام دعيت من مكتب الأمم المتحدة لمؤتمر عن العنف باليونيسكو وما وجدت غير قوانين وافكار تخلو من قيمة لا ذكر فيها للفضيلة أوالأخلاق. سوغولين تضع كل ما تعرف في قارورة واحدة وترجها رجا. عار عليها أن ترى مدينتها ممزقة وجريحة وتبقى ساكتة. إن لديها القدرة على رفع صوتها باي مكان أرادت لكنها لم تفعل أبدا. تجمع خليط الأفكار والبشر في سلة واحدة. هذا النثار اللامتآلف كيف سيبدو في المستقبل؟ ومتى تتحقق مبادئ الثورة ليعود للمدينة وجهها الأرستقراطي؟ إنها متحررة من الأعراف الاجتماعية لكنها لا تحب لها أن تنهار.
***
ربما كانت مشكلتها موضوعية حيث لا شيء معين ينقصها. كانت ترغب في بقاء البيت والزوج والأولاد، لكن أصابها مصاب المدينة. فالأيديولوجيا المتبعة وضعت أفراد كل أسرة في جزر مهجورة. والتكنولوجيا الحديثة حملت عن الأسر المتحللة عبء المكان. وحدهم الكاثوليك والمسلمون لازالوا ينجبون. أعرافهم وتعاملهم تعتمد كثيرا على الدين. لم تر في جلستها على الصخرة قريبا من الدرج العتيق سوى عائلات محتشمة. كاثوليكية تدفع العربة أمامها بطفلين وحولها ثلاثة. على رأسها إيشارب مشجر براق يجذب النظر. والرجل الذي يسير جوارها ويعتني بالأطفال يكاد يكون سعيدا. أما المسلمة التى لازالت تضع الحجاب رغم التشريعات التي منعته في الأماكن العامة؛ فتبدو أكثر بهجة. تحض أطفالها على الفرجة وتتفرج معهم. ولو كانت معهم في الحديقة وراحوا يتزحلقون على الجازون الأخضر تزحلقت معهم. وتتساءل سوغولين: لكن لماذا يتصرف ساركوزي وكان هؤلاء ليسوا هنا؟ صحيح أن المدينة عاصمة الصليب الأحمر، وحملاتها القديمة على الشرق معروفة. لكن لا أحد يستطيع العيش وحده خصوصا بالألفية الجديدة. التاريخ أمم ورجال، دفع وتدافع، وحتى نقف بوجه العنف ونبلغ ثورتنا لابد من الاندماج والانصهار. تخلع سوغولين نظارتها والشمس تلملم طيفها لتغيب. تضع الكاب على شعرها بعدما امتلأت بالحياة وذكرياتها. تمشي الهويني بأروقة المدينة القديمة وتلقي نظرة على المنجزات الحديثة التي شيدها الإنسان.وقبل وصولها لسيارتها التي خبأتها في مكان لا يعرفه أحد، ناداها من خلفها مناد فوقفت. استدارت تنظر إليه فإذا به شخص تبدو عليه سيماء الوفرة والكياسة. سلم عليها مبتسما وناولها كارت (بوستال). ولما أخرجته من المظروف وجدته دعوة من الإليزيه لحضور معرض سيارات رؤساء الدولة منذ اختراع السيارات.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire
Remarque : Seul un membre de ce blog est autorisé à enregistrer un commentaire.