lundi 20 juin 2022

نداج روبير (5) // أحمد البحيري // مصر


لم يخطر ببالها أبدا أن تكون محلا للبلوى. مثل غرائب كثيرة تقر بوجودها بندرة، لكن أن يختارها القدر لهذا الدور؛ فهذا ما صيرها قديسة. نداج جاءت من بلدية ( سان نازير) بإقليم (بريتاني) التاريخي. في تلك البلدية الأطلسية قلاع تاريخية تربو على الحصر. ويأخذ أهلها سمت وصفات البريطانيين لا الفرنسين. نداج قصيرة وجميلة وعيناها الخضراوان تلمعان بالذكاء. كانت الأولى على دفعتها في سنوات الجامعة. ولما انتهت من الدراسات العليا وحصلت على الدكتوراه في التاريخ الأوروبي بالقرون الوسطى، عملت بجامعة ( جرونابل). تبدو جادة حيث نشأت في بيئة صارمة لا عبث فيها. ومن يعاشرها مسافة قصيرة يدرك أنها مسؤولة ومتفائلة. والدها (روبير شاراك) مزارع لديه أرض تفاح تبلغ مساحتها ألفي هكتار، بها مصنع صغير لإعداد الخمور. وهو رجل قصير البنية مدكوك الجسد، بلغ التسعين وصحته جيدة. وامها فلاحة كاثوليكية محافظة أنجبت ولدين واربع بنات، لم يبق منهم معها أحد. نشأت نداج على حب الفقراء والمحتاجين. وإذ تجد نفسها في مادية لينين وعدمية نيتشه، بعدما تثقفت من مكتبة أبيها، تتبع المنهج الماركسي في دراستها للتاريخ ورؤيتها للحياة. أصبحت تؤمن بالفكرة الشيوعية وتعرف مقوضاتها. من كل على قدر طاقته ولكل على قدر حاجته. وان تكون عملية التصنيع ومستلزمات الإنتاج ملك للدولة. ولا مانع من دولة غنية وشعب فقير. وتقول بأن آفة الشيوعية المثالية. وتضرب مثلا بالشجرة فيها الثمر، وعلى المواطن أخذ واحدة حتى يترك البقية للغير. لكن النفس البشرية لا تتصرف أبدا هكذا. قرأت تروتيسكي وآمنت بثوريته في التجربة، كما شبت علي قراءة شمس الشعر الروسي الكلاسيكي بوشكين، وروائع تولستوي وديستوفسكي ومكسبم جوركي وأنطوان تشيكوف. كانت تريد لحياتها أن تمضي بلا زواج. وان تصير مفكرة من قامة ( روزا لوكسمبورج) تلميذه ( جورج لوكاتش). وكانت تخطط للعمل بالمركز الوطني للعلوم والثقافة ( C. N.A.R.S). وفي اللحظات التي يخطر فيها الزواج ببالها، تستهجن الزواج المختلط، كمن يبحث عن صفاء النوع. اليهودي يتزوج يهودية، والكاثوليكي كاثوليكية والمسلم مسلمة. وهذا العرف غير فاش في المدينة، وإنما العكس. عمليات التهجين تجري بها على قدم وساق. البيولوجيا غيرت شفرة المدينة الوراثية. وتعيش نداج بسلام مع المثليين. لا تنفر منهم ولا يعكرها وجودهم. وترد على من يحمل عليهم بأن الله خلقهم كذلك، وما ذلك بصحيح. ومهما علمت أن العوامل الوراثية كانت نسبتها أقل من 003' % في الأبحاث العلمية التي درستهم، تغض الطرف وتدافع عنهم. تقول بآخر المطاف هم كائنات هشة غير مؤذية. وإن كان يؤذي بعضهم بعضا؛ فهم لا يؤذون أحد. حتى في الحرب لا تجدهم يحاربون. ثمانية وعشرون عاما عاشتها كما أرادت حتى وقعت في الحب. كانت تخالل وتخرج وتسهر، لكنها لم تحب. كان الحب لديها معضلة. وتبخل دوما بنفسها على أي رجل. تريد حالة غرامية تغلبها لتصنع ذلك. حالة غرامية وانسان نبيل. لديها علامات تظهر قبل ورود الحب، تود أولا أن تراها. حين تجد من تديم إليه النظر، وتستعذب حديثه، ويدق قلبها وتندهش حين رؤيته. فكرة رومانسيه مثالية تنسجم مع طبيعتها الرقيقة النقية. كانت إذا وجدت من يطلب حبها ولا تريده، تصرفه عنها بكلمات بسيطة لينة وحاسمة. ومن اشتهاها في خياله وعلمت ذلك من قوله، قاطعته ولو بقي أمامها أغلب الوقت. لديها قدرة عجيبة على تجاهل الناس. ولما التقت موسى شعرت بأكثر مما توقعت. شعرت باضطراب داخلي، وصارت تستمع إليه وتصدقه، حتى إذا مشى، فقدت القدرة على مغادرة المكان. وظلت تقول لنفسها: والله ما هذه ( كاريزما), هذا إنسان عمران من الداخل.
***
إنه الرجل الوحيد الذي لم تخف على نفسها معه. عامان تنصب له الشباك وينجو. تعرف أن كل شيء يأتي مرة واحدة، الإعجاب والصداقة والحب والموت. لا شيء يتكرر سوى الوهم. في بادئ الأمر ظنت أنه يتصنع. كان لتوه مقلعا عن الشراب وكانت تشرب. يدخلان المقهى معا؛ فيطلب القهوة وتطلب ( دومي). كان يجذبها وتشده، حتى إذا استقرت صارت تطلب القهوة مثله. تنتظر حتى يطلب من النادل؛ فتقول بعدما تنظر إليه باسمة: اثنان. وفي كل مرة تترك فيها المدينة إلى ( جرونابل)، تعرفه على إمرأة جديدة. تدعوها للبيت في وجوده, وتسأله عنها فيما بعد. وفي كل مرة ينجو من الشرك، حتى انهارت كل دفاعاتها الذاتية؛ فاعترفت له وتزوجته. وهنا عاشت تجربة الحب بشروط الحب لا بشروطها. ما عادت تخطط ولا تبرمج بعدما حلت بقلبها الثقة. وجدت معه أشياء، ما كانت تظن بوجودها في البشر. أشياء غريبة تتعلق بنواميس الكون. حتى إنه كان يقول لها بأشياء سوف تحدث وتحدث. ويكلم القطط والكلاب فتفهم عليه ولا تتذمر. افتقدته ذات ليلة، وراحت تتفقد الحديقة وتخرج إلى رصيف قناة (جينول), قبل أن ينتقلا إلى ضاحية ( سيرجي بونطواز). كانت الساعة نحو الثانية صباحا، والأفق البارد تستبد به العتمة. وكان يجلس وأمامه مجموعة من الكلاب الضالة، ومعه الخبز والحساء ليطعمها. وكان من بين الكلاب واحدا أعرج. كلما رمى الخبز أغارت الكلاب الصحيحة والتقطته؛ فرد خائبا خجلا ينظر إلى موسى . ولما تكرر الأمر مرات، نادي على الكلاب الصحيحة وضربها على صدغها واحدا واحدا؛ فأنت ونظرت للكلب الأعرج. ثم طلب منها أن تحمل الخبز إليه، ففعلوا دون نباح. وقفت نداج غير مصدقة ما رأت. تقول له: ما هذا التناغم، وكيف لا يعصوك؟ ولما امتدت معه العشرة، رأت أشياء أقوى وأشد. تسأله؛ فيجيب ولا يجيب. لم يشف مرة غليللها بالفهم. كان يعول على فطنتها وقوتها في الملاحظة. إنه من تكوين يختلف عنها تماما. ومهما كانت إجادته للغتها، ثمة أشياء تبقى في اللغة الأم. يريد لها أن تمر إليها وعبثا لا تمر. لازالت نداج تذكر، ذاك الإحساس الذى غمرها حين قرأ لها القران. كيف نست هذه وقد جادت بأول التعلق؟. كان يوما شتويا باردا، والتقته عند برج ( إيفل). كانت تلبس كفين أسودين، و كبوت المعطف يغطى أذنيها وشعرها. وكان كفاها في جيوب المعطف، والحقيبة معلقة في كتفها الأيمن. سلمت عليه بصدغيها دون أن تخرج كفيها من الدفء. في هذا الوقت أشرقت الشمس فجأة وحمت. وبدت حالة من النشوة في جنبات المكان. الجازون والنجيل الأخضر صار يتنفس. ونسمة الهواء التي هبت كنست ال ( نياج) عن الأشجار. في هذا الوقت راح موسى يطالع أحواض الزهور التي ينظرها كلما أتى إلى هنا وهي معه. يفتش فيها ويذكر أنواعها ويدل على نموات جرت في غيبته. ولما وصل لمكان جاف وجلس على أحد الكراسي الحجرية، جلست تقول: منذ عرفتك وأنت تجاور كتب الفلسفة والديانات. ما الذي استفدت من تلك الكتب القديمة؟. سألها: هل تريدين شيئا معينا؟ قالت نعم. قال: هاتي. قالت: مشكلة تحدث معي بين وقت وآخر، وحدثت البارحة. قال وما هي؟ قالت: أكون في الشقة وحدي وأشعر أني لست وحدي. خربشات ودمدمات تصدر من الأشياء من حولى كالسرير أو ال ( ساون) أو الثلاجة أو دولاب الملابس. وأشعر أن هناك من يمشي كلما مشيت. وأحيانا أشم نفسه كأنه يقف عند أنفي. قال وهو ينظر في خضرة عينيها: تذكري جيدا الظروف التي يحدث فيها ذلك. سألت: ماذا تعني؟ رد: أعني حالك، وانت وحدك تحديدا. قالت: حقا أكون على حريتي تماما. أشرب كأس، أو أدخن لفافة، واكون وقتها نصف عارية، أرقص بعنف على صوت الموسيقى الصاخب، وربما أمام المرآة. قال وهو يربت على كتفها ويضحك: هذا شيطان. أنت تصنعين كل ما يستوجب حضوره. قال ونظر لوقع كلامه عليها؛ فوجدها لم تندهش أو تتفاجأ كأنما كانت تنتظر ما قال. وسرعان ما ركبا المترو وذهبا إلى البيت. كانت المرة الأولى التي تستقبل فيها رجلا في بيتها. عاشت بأفكار أبيها في الصداقة وزملاء العمل، صاحبي وصاحبك على المقهى. في هذا اليوم فتحت كل أبواب شقتها ونوافذها، واستمعت للقران للمرة الأولى في حياتها. يومها لا تدري ما الذي صار لها. ظلت تسمع مليا حتى غابت عن الوعى. كانت تجلس على الأرض ورأسها على حافة السرير. ولما غابت سقط رأسها في حجرها رغما عنها. يسنده موسى حتى إذا أوشك أن يصل الأرض؛ فيرفعه بغتة إلى حيث كان. تفيق نداج وتفتح عينيها؛ فيطلب منها أن تغمضهما. وترى نافورة من النور تنفهق وتسري داخلها بخدر لذيذ. كلما تغلغلت في عضو من جسدها زادته حياة. ثم شعرت بصفاء ذهني كانت تفتقده في سنواتها الأخيرة. النور المتغلغل في أنوية الخلايا يريحها حيث مر. تشعر به يسري ويتشعب كالدماء والماء. ويعود إليها ما غاب من نفسها عند الناس والأماكن. ليلتها تخلت نداج عما خططته لحياتها دون أن تدري ورضيت الاقتران بهذا الغريب.
***
تغوص نداج في نفسها كما لم تصنع من قبل.. كيف كانت وكيف أصبحت؟ وما حالها مع اللامبالاة في مختلف الصروف والأحداث؟حين يصير الأمر فوق احتمالها تتركه راضية. تقطع معه حتى على مستوى العقل والتفكير. كانت كمن تنشد الفضيلة بنبذ شؤون الدنيا حتى الصغيرة منها. الناس تركض لتحب وتتزوج، وتكد وتتعب لتجمع الثروة، وترغب في المنصب لتظهر أهميتها، وهي ترغب عن كل ذلك. حتى الأمومة لم تعطها ما يكفيها من التفكير كغريزة تستبد بها بين وقت وآخر. شأن الأنفس الأبية التى تزهد فى السهل وتروم المعالى . هذا كيانها المحدود ولا شيء خارجه. وفي بعض الأحيان تصير الذات والطبيعة شيئا واحدا. الطريف أنها وصلت لذلك دون تفكير في الله. لقد فهمت قلق نيتشه وتوتره واضطرابه على خير وجه. فهمته وتجنبت مصيره. لازالت تأسف على مرضه الذي مات به. كانت قد أدركت أنه أطلق تصوراته والإنسان فى عدم. قبل أن يخلقه الله ويخلق له الأشياء. لذلك لم يؤمن بأن هناك عالما آخر. وكل مبادئ الأخلاق من أفلاطون إلى كانط انهال عليها بالمعول. وأدركت أن العدم عند نيتشه كان سببا لا نتيجه. نظرته للإنسان كانت من جانب واحد. استأثر بالجسد ولذاته وترك الروح لعدم إيمانه بوجودها. أدركت ذلك من الشذرات التى وعتها فيما بعد من موسى. ورأت أن نيتشه كان قاسيا في تأييد حكم الإعدام لسقراط بتجرعه السم. ولم يكن على حق حين أيد التهمة التي نسبت إليه بإتلاف الشباب. أما كيف كانت أفكار سقراط سببا في إتلاف شباب أثينا، فهذا ما يجعلها فى عمق وحدتها تضحك! ثم تقر أنها صارت ماضوية جراء عشرتها لموسى. كانت حين تفكر وتتأمل لا تفارق أبدا الحاضر. دراستها للتاريخ علمتها ذلك. لكن هذا الذي يصر على المعنى الحرفى للنص، تكثر في خطابه الغايات، ويربط الأزل بالأبد، كان الزمن جميعه وحدة واحدة. باتت تفهم نظرته وتساميها على اعتقاد الجماعة, ومن أين له بذلك التناغم مع الظواهر الكونية؟ نداج معنية من أول الوعي بالفرد لا بالجماعة. درست العصور الوسطى بالقارة العجوز وتعرف ما صار للفرد من مآسى وويلات. وتابعت هلاك الإنسان بالحربين العالميتين وما تلاها من حركات الاستعمار. وإذ يتصالح المؤرخون الجدد بالمدينة مع تاريخهم الدموي، ويعتذر الحكام للشعوب التي أهلكوها، تقول وهى تتثاءب: وهل يكفى الاعتذار؟ ولما ينام طفلها الغريب وتطمئن عليه، تضجع وتنام.
***
لقد صار يوسف كل حياتها. كلما نظرت إليه وتدبرت ما كان منها، وجدت كأن الأقدار كانت تؤهلها لهذا الابتلاء. لما لاحظت عدم بكائه عند ولادته، ظنت أنه ولد ميتا. ولما عادت للبيت وحملته أدركت أنه يختلف كثيرا عن الاطفال. يوسف يكبر في اليوم خمسة أيام. يسمع ولا يتحدث. وياكل وينام مع الحيوان بأريحية تامة. عمره اليوم ثلاثة أعوام، وجسده لمراهق في الخامسة عشر. يعرف بعض الناس بأصواتهم ويميزها. ورغم عدم وجود موانع طبيعية بحنجرته ولسانه، لا يتكلم. لو تركته نداج على هواه، لأمضى الوقت مع الفرسة أو الكلاب الثلاثة، أو بين أشجار الحدائق والمتنزهات. ولو افتقدته قليلا تعرف أين تلقاه. هناك زوايا فى المرج المقابل بها جحور للثعالب، يتعقبها ليصطادها. يمشي إلى تلك الجحور كمن يشمها. وأحيانا يعد لها الأكمنة ويأسرها. فى يوليو وأغسطس تكثر الثعالب في المرج، وتقنص أحيانا الطيور من البيوت. ويظهر يوسف مثل المقاومة البيولوجية، يرغب في أكل الثعالب. يضع شرائح اللحم في الخبز، ويعلقها عاليا في الغرفة الأرضية المبنية للفرسة. والحبل الرفيع الذى ربطه فى الباب، يبقى طرفه فى يده. رائحة اللحم تجذب الثعلب؛ فيدخل الغرفة ويشب بعزمه على الجدر. والفرسة تضربه بخطمها ويداها إن استطاعت. ينتظر موسى وهو يتسمع على ما يصير بالداخل. ولا يدخل حتى يسمع نباح الثعلب على أربع أو خمس مقاطع. فى هذا الوقت ورغم ظلام الحجرة، يهوى على الثعلب ويقبض عليه. أحيانا يمكر عليه الثعلب ويروم خداعه دون جدوى. ينام تحت ضربات الفرسة ويتظاهر بالموت. ثم ينفخ بطنه ويطلق رائحة نتنة كأنه صار رميما، ولا يحله موسى من قبضته. وحدها نداج تستطيع إخراجه من إرادته إلى إرادتها. يتعايش موسى مع كل ما يدب على الأرض، مثل حارس على توازن المخلوقات البيولوجي، ويصاحب ويآزر كل الكائنات ، من وحيدة الخلية حتى الإنسان. لا يحمل إلا على من يجور عليه أو حوله. كما أن لديه ميزة أدركتها نداج مع وحدة العلاج الطبيعي بالمستشفى وتتعلق بطبقات الأرض. يوسف يشعر بما في بطن الأرض وهو يمر عليها. التمرين الذي إقترحته الوحدة كان يعتمد على الركض. ساعة كاملة وكل مرة في مكان يختلف عن سابقه. يوسف حقا يحب الركض. لا يتسق مع نفسه فى بعض الأحيان إلا به. قوته النفسية عالية والركض عنده غريزة. وبعد أربعين يوما وجدوا أن سرعة الركض للمسافة ذاتها ليست ثابتة. وأنه كان يشعر فى أكثر من موضع أنه يخوض في الطين. ويشير على بحيرات وغدران مسجورة. طمستها عوامل التعرية، وصيرتها أودية جافة تحت الأرض. يوسف صار أيقونة نداج للحياة. تتحلى وتتزين بها، وتكتشف فى ثمرة بطنها الوحيد كل يوم جديد.
***
وثمة فترات ينتكس فيها يوسف ويعتل. تخمد فيه الحواس ولا يقبل على شيء أو أحد. فى تلك الفترات التي تبلغ ثلاثة أسابيع أحيانا ينتظم فى الأكل مع والديه على المائدة، ولا يهتم بالفرسة ولا الكلاب ولا الموسيقى، ويشعر فى بدنه بثقل. لقد صار يرضع من أمه حتى تساوي معها في الطول. نداج متوسطة القامة، ساواها قبل بلوغ الثانية. وكلما ضحكت وتمنعت طلب منها موسى أن ترسل له ثديها. وسواء أكان نشطا أو خاملا، يبقي وجهه بدرا بمختلف الفصول. فى تلك الفترات تبقى حواسه وجوارحه حبيسة الصمت. مثل راهب يقبع في الدير مختلط الذات والعالم. لو عرض عليه أمرا فكر فيه، والإ فالصمت والشتات. كما يصير جسده كما مهملا، ثقيلا ولا يشعر به البتة. أما روحه المتوثبة فتتعلق بالأسطح العالية. ويظل فى صعود وهبوط للدرج بقلق غير ملحوظ، رافضا أن يصطحبه أحد. عقله يوافق إحساسه في تلك الفترات ويغيب، لا ينظر حوله إلا إذا ذكر الموت بجواره من أحد. أما إذا أصاب الموت أحدا من الجيران أو أصدقاء العائلة فى تلك الفترات؛ تراه حاضرا مهتما، كأن المصاب مصابه. يبدو وقتها كآدم في الجنة حين أخذته بطنه وأراد أن يتغوط. ينظر الغدران وشواطئ الجنان، ويبحث عن مكان. ويبقى ينظر للأعلى حتى سماع الهاتف. يا آدم أين؟ ما هاهنا تقضي حاجتك. اهبط للأودية الجافة فى بطن الأرض وهناك تجد التراب وبغيتك. نداج لا تستطيع احتواءه ها هنا وانما موسى. قبل شهرين ماتت ( فلورا) إبنة الجيران وكان يحبها، ليلتها بقى معهم حتى الساعات الأولى من الصباح. ماتت دون السادسة بمرض غامض، وحزن عليها أكثر من أهلها. لا علاقة للحزن بوجه يوسف. مهما كان شعوره؛ فسيماه ثابتة. ليلتها أذاق موسى الأمرين. فلورا كانت تتعامل معه في سنه الحقيقي. لم تغتر بجسده الذي يزداد بسرعة كنبات ذرة، ولم يقص عليها حكايته أحد. وحين منعها عنه أهلها، كانت تتسرب منهم خلسة وتمشى إليه. فى تلك الليلة قضى موسى الليل مع يوسف على سطح فيلا الجيران. كان قلقلا فى صعوده وهبوطه السلم، كأنما من غير داع. وبين الصعود والهبوط يدخل كل طابق على حده كمن يفتش عن شيء فقده.. ولا عمل لموسى سوى حراسته وتأمين ممشاه. كان إذا دخل طابقا جلس حيث كانت تجلس. ولو صادفه غرض من أغراضها لمسه وتشممه. حتى أدرك موسى أن ثمة علاقة معقدة كانت تربطه بها. ودون وعى سقط فى براثن التفكير في الموت. ليس الموت بمعناه المعنوى وإنما المكاني. قد يموت ولده بأية لحظة. وإدارة المدينة لم تخصص لليوم أرضا لمقابر للمسلمين. يحتضنه من خلفه بذراعيه بقوة ليجبره على المشى بعدما انفض عزاء فلورا. ولما عاد به إلى نداج، كان ظاهره يبسم، وباطنه يتلوى من العذاب.
***
لم يهجم على يوسف حاله دفعة واحدة، بل هناك استعار يسبقها. فقبل خلوده للتاريخ الطبيعي وانحيازه للحيوان، يطرق مليا للموسيقى الخفيفة، ويبقى فى حال خمول واسترخاء. وقبل استغراقه فى الموت ومواساته واكله مع والديه على المائدة، يتوحد أياما ويزهد فى كل شىء. وحدة العلاج الطبيعي تقول: أن بجسده انزيمات وهرمونات خاصة، تساعده على التحول البطيء أمام الصروف والأحداث. الانزيمات تساعد الجسد والهرمونات تعتنى بالمزاج. يجدون فيه ما يجدوه فى الممالك الثلاث، النبات والإنسان والحيوان. ويدركون كثيرا أهميته. حالة إنسانية نادرة لا تتكرر. تحدث فى زمان ما ومكان ما، ربما، لكن بكيفية أخرى. خلل وراثي أدى إلى تدمير للشفرة الوراثية، نتج عنها هذا الكيان الخاص جدا. تتكون الوحدة من خمسة أشخاص وثلاثة تخصصات. اثنان تخصص وراثة وجيولجي واثنان فى علم تاريخ الإنسان. ولعل موسى ونداج أكثر من يعرف أهميته. صارت حياتهما مرهونة به إلا قليلا. كلما تقدم فى العمر ازدادا به تعلقا . ومهما أصابهما من تعب واجهاد، تريحهم نظرة من وجهه الجميل. الليلة عصف براس موسى سؤال. كان يوسف لتوه نائما، ونداج فى المطبخ تعد القهوة. قال وهو يتناول من يدها الفنجان: ترى لو حلت عقد لسانه وتكلم، ماذا يقول؟ أشاحت بيدها وقالت: لا أعرف. لكنى مقتنعة، أن هذا أفضل له ولنا. ربما تسعى وحدة العلاج الطبيعي لذلك،. وان كنت أشفق عليه منهم.. نحن لا نفكر فيه كغيرنا، لا تشغلنا إلا عذاباته. اطمئن موسى لنومه وأغلق عليه بابه، ثم حمل قهوته وخرج أمامها. هبط من الطابق العلوى إلى الأرض وراح يترجل بعيدا. كل شيء بعد نوم يوسف يبقى هادئا. الفرسة فى حظيرتها لا تصهل ولا تدمدم ولا حاجة لها في الطعام. مربوطة فى حلقة المذود وجالسة تهش الذباب بذيلها دون تبرم. والكلاب الثلاثة تلهو معا دون نباح. حمل موسى كرسيين من كراسى الشاطئ بعدما كسى الفيء الجهة الشرقية من السياج النباتي وراح يجلس هناك. قال وهو يشير لزوجته: أردت أن أقول مهما كانت معرفة المرء بالله والطبيعة والإنسان يبقى عاجزا عن إدراك الحكمة من بعض صروفه . كيف أساعد الناس وأعجز مع ولدى؟ وما كل هذا الفقد الذى يلهب الحشا لتسخو النفس وتعرف الترقى؟ بل لماذا خلق الله الإنسان معقدا إلى هذه الدرجة؟ وإذا كانت العلاقة مع الله علاقة حب، فلم كل هذا القدر من الفقد؟ أعرف أن الابتلاء دليل عافية ولا أنازع. وأن حسنات الأبرار سيئات المقربين وأيضا لا أنازع. لكني مسكين وضعيف وعاجز . لا تعنى عدم شكايتى أنى لا أتألم. دعينا من هؤلاء الذين يساعدونا؛ فما الذي يمكن أن يقدموه؟ محنننا لا يجيرنا منها إلا الله. قالت وهي تميل على الطاولة بجذعها القصير وتربت على كتفه. لا تحمل نفسك فوق طاقتها. لقد تعودنا حقا عليه. لو ما كان في حياتنا، لا أدري كيف كان لها أن تكون؟ ربما خطأ جينى كما قالوا أو غير ذلك، النتيجة أنه يوسف يا موسى. ثم أنظر كيف يحبه الجميع؟ فريدى وجد فيه ضالته. وديديه يعزف له على الجيتار وتغنى راشيل كلما أتوا. وام أرتور ونتالى وسوغولين ينازعوننا ملكيته. ليس هؤلاء وحدهم بل كل من رآه. ترى لو كان طبيعيا، هل كان يحوز على كل هذا الاهتمام؟
***
نظر موسى لزوجته شاردا ولم يجد ما يقول. ولما نهضت بعدما طغى الظل أوان الغروب، ظل يرمقها صامتا وهى تتحرك أمامه. لقد تغير جسدها كثيرا منذ لامس ثمرة بطنها أديم الأرض. ترهلت أردافها وكبر صدرها حتى باتت لا تلتزم بحمالته طالما فى البيت. يوسف اعتاد على صدرها كوسادة. فحين يكون متسقا مع الخلق يجلس أمامها ويركن رأسه عليه. ولو حلت بعين زوجها في ذاك الوقت، شعرا أنه يفهم ولن يتنازل عن وسادته باي حال. ثم لاحظ أن ال ( شورت) الذى ترتديه ينزل قليلا عن جسدها فى الإقبال والإدبار. بينما يصعد ال ( تي شيرت) قليلا فى الوقت نفسه. ولأن لباسها أسود اللون، يجعل بياض جسدها مضاعفا كالحليب. نداج تزداد جمالا مع الأعوام. كانت تشتكى من وزن جسدها الثابت. طولها متر وستون سنتمتر، وظل وزنها ستون كيلو لسنوات. كانت ضعيفة وجميلة. عنقها كان دقيقا وبلوريا كالعاج. وكانت ترتدى وقتئذ ملابس برقبة تخطف الاضواء. من نظر إليها سرته نظرتها وشعر كأنها لوحة عصية على النسيان. كانت غفلا وقتها واليوم صارت امرأة. وعت فتنتها وسبرت أغوار أنوثتها وصارت تشاغل موسى وقتما أرادت. لم يقطعها هم يوسف عن ممارسة الجنس. لم تزهد فيه بل زهدت في الأولاد. قالت بعدما وقفت أمام الكرسى البلاستيك الابيض الذى يجلس عليه: انهض واحملني كما كنت تحملني قديما. ضحك وحاول سحب سيجارة من علبته؛ فمنعته. مال برأسه ينظر الجازون تحت أقدامهما، فرفعت رأسه ونزلت بصدرها على صدره. ولما حضنت رأسه بين كفيها وراحت تنظر فى عينيه السمراوين الساكنتين، قبل شفتها وحملها دون أن ينهض. قالت لا ليس كذلك، انهض وهذه أنا. نهض طائعا ووقف خلفها. وجعل ذراعيها الامام بعدما وضعت كفاها
مشبوكتين خلف رأسها. ثم قبض على زنديها ورفعها عن الأرض، ضاغطا ظهرها على صدره. فى هذه اللحظة طقطقت فقراتها. و فى هذا الوقت أيضا صهلت الفرسة فى حظيرتها؛ فالتفتا ضاحكين إليها. نهضا معا يعدان الطعام لها وللكلاب الثلاثة. وسرعان ما سبقته نداج في صعود الدرج. ولما اطمأنا لإستغراق يوسف فى النوم. ابتعدت بموسى وأخذته إلى الغريق
***
بعد عصر الجمعة، تراجع نداج الرزنامة، وترجو أن تسير الأمور على أحسن حال. ثمة أدوية وعقاقير جديدة تحددها الوحدة مع بداية كل فصل. صحيح أنه يرفض أغلبها، غير أنها دوما موجودة. كما أن هناك الكثير من العروض المسرحية، منها الكوميدي. و عروض موسيقية، ثقيلة وخفيفة. وبعض زيارات للأحياء المائية وحديقة الحيوان. أما الحدائق والغابات؛ فحبذا لو أمضى أغلب الوقت فيها. ذلك بخلاف مواعيد المتابعة الطبية والأشعة بأنواعها حسب الجدول. حياة كاملة تحياها معه نداج. كما أنها فى الفترة الأخيرة صارت تهتم بالنبات. كلما تفقدت حديقة أو ( بارك) أو غابة تعرفت على المختلف فيه. سواء فى البنايات والمعمار والتقسيم والمشايات والتماثيل، أو في تعدد النباتات وتنوعها. والمدينة الجميلة تساعدتها دوما في ذلك لوفرة الحدائق والمتنزهات. من قبل يوسف ونداج كائن بري ينحاز للماء والنبات. موسى كان دليلها لذلك فى أيام الحب الاولى. حدثها عن المملكة النباتية والحيوانية كثيرا. وقتما كان يتدبر تطور الكائنات.. وكثيرا ما كان يقف على نبات الهيدرا. ولما جاء يوسف كان يشبهه بهذا النبات الفريد. هو أول مملكة الحيوان وفيه من النبات البلاستيدات الخضراء.. بعده تأتي الأميبا وهي كائن حى أحادى الخلية. ثم البراميسيم وهو كائن ثنائى الخلية. حشرة سوداء ضعيفة لها جناحان تطير بهما لمسافة قصيرة. يظهر في الحر بالمناطق عالية الرطوبة. وانقسامه وتكاثره
رهيب. الحشرة تصير اثنان، والاثنان أربعة، والأربعة ستة عشر، وهكذا. إن حشرة واحدة من البراميسيم لو أخذت راحتها في التكاثر لغطت سطح الكوكب فى أربع وعشرين ساعة. لكن أشعة الشمس والرياح تسحقها وتمنعها من التمدد.. واليوم صارت نداج خبيرة فى شؤون النبات والحيوان. باتت تشتري الكتب وتتابع المواد العلمية، وتعاونها مع وحدة العلاج الطبيعي أفادها في ذلك. إن لديها زيارة لتلك الوحدة الإثنين المقبل. وصل لعنصري الانثروبولوجي تمرين جديد يمكن له تعزيز علاقة يوسف بالأرض. فالوحدة تقول بأنه لا يخضع فى كثير من أحواله للجاذبية، مما سيسبب له تسهيل الشيخوخة المبكرة. وربما عرفوا من التمرين الجديد الذى ابتكروه: كيف يشعر بالأرض تميد تحت قدميه؟ وإذا مشى فوق جزيرة كيف يشعر أنها تتحرك. أما المدن والبلدان المطلة على البحر باستطالة مثل إيطاليا وشبه الجزيرة الإيبيرية؛ فلماذا يقول بانزلاقها وغرقها في البحر؟ لقدازاد الاهتمام بيوسف فى الرزنامة الجديدة. كل حركاته وسكناته صارت تحت المجهر. كما ازداد الإعتماد على وجهه ونظراته واشاراته. وعلى نداج أن تبقى جاهزة دوما للترجمة.





Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire

Remarque : Seul un membre de ce blog est autorisé à enregistrer un commentaire.