حين تفتش في سكان المدينة، قلما تجد بينهم من السكان الأصليين أحد. يؤكد ذلك أن البشرية كلها من أصل واحد. كما يكذب أيضا أغلب نظريات العرق المبثوثة في كتب التاريخ. حتى أن نداج أستاذة التاريخ باتت لا تصدق بالحقيقة التاريخية. فالصراع الموجود بين البشر يشبه طفلين يصفع كل منهما الآخر. الكبير يصفع الصغير، ليأتي أكبر منه ويصفعه. هكذا بدأت الدنيا وهكذا سوف تستمر. إلا أن الصفع مهما علت وتيرته يبقي له أسبابه الاقتصادية قبل أي شيء، كما أن له دعاية مغرضة من المعتدي. فتراه يبرر ما يصنع بحج وأباطيل ما أنزل الله بها من سلطان. يذكر الدين والأخلاق مرة، ويذكر التقدم والمدنية أخرى، وهو في الواقع ينهب الخيرات والثروات. هكذا تستعر الحرب في جنبات الأرض بين القوى والضعيف. فريدي يهودي من مواليد المدينة. فرت عائلته من ألمانيا خوفا من المحرقة. كانت أمه في السابعة من عمرها وقتئذ. ومنذ جاؤوا المدينة وهم يسكنون حي ( مونتري). تزوجت أمه وأنجبت ثلاثة أولاد وبنت وحيدة. ( جيرار) الكبير، و( فريدي) الأوسط، و( دوني) الصغير. أما البنت الوحيدة فقد أسمتها ( مونكا) على اسمها.. فريدي لم يأخذ من العلم كفايته. كان أخوه الذي يكبره بالجامعة لما مات والده؛ فترك المدرسة. بدأ بالعمل مشرفا بشركة ( سان نيكوتيرم) المتخصصة في العمارة والهندسة. ولما توقفت علاقته بصاحبها البولوني ( جو), تخصص في لصق الأرضيات بعدما أعد ( ستاج) لذلك. ومع بداية العام 2000 استخرج فريدي كارت ( أرتيزان) وأنشأ شركة تخصه، اعتمد فيها على شركة جو. تعرف عليه موسى نصار في أيامه الأولى بالمدينة بمقهي أمام مترو ( بورت مونتري) وعمل معه مساعد صانع. ولما تعلم تركيب الموكيت والبلاستيك، صار يأخذ الشغل منه لحسابه دون عقد أو شرط. فريدي على عتبات الستين ويصعب أن تعرف إن كان ملحدا أو علمانيا. لو سألته عن الله لأشار مثل طفل للسماء وقال: أي إنسان يعرف ذلك. إلا أنه لا يذهب إلى المعبد ولا يصلي. يعتقد أن المتدين لابد أن يكون ملتزما وهو لا يضمن الالتزام وربما لا يقبل به. حجته في عدم الذهاب للمعبد عدم معرفته بالعبرية لغة الصلوات. كما أنه لا يحمل أي احترام للحاخامات ولا كل رجال الدين. ويروي عنهم قصصا سمعها من أمه تجعلهم فسقة أو مغفلين. هذا القصير المكير لا وسط لديه بحياته. كأن شعاره، إما كل شيء أو لاشيء. واكثر ما يزعجه من الحاخامات المغفلين قصص الجنس. إنه لا يطيق أي وصايا أو نصائح تحد من حيوانيته. ولما سمع أن أحد الحاخامات كان يضع بطانية بينه وبين زوجته حين يضاجعها تحشما، تنخم وتفل على الأرض.
***
فريدي متزوج من إيفا التي تعمل بالصيدلة الموجودة بجوار بيته. إمرأة خولاسية قوية الشكيمة صاحبة صوت فيه بحة مثيرة. لها نظرة اعتراض لم يرها حتى يرهبها. أنجبت له ( غيدي) و ( ويسلي) و( بولا). تزوج الأول قبل نحو عام، والآخران يعيشان معه، ولا يؤرقه سوى البنت التى تشبهه في الهيئة وتشبه أمها في الطباع. فريدي لا يهتم بغير عمله والجنس عنده على سبيل المكافأة. كلما انتهى مما يتوجب عليه سريعا ركب سيارته ودار بها ليلا حتي عثر على بغيته. ورغم ذلك أحب موسى نصار واتخذه صديقا. منذ عمل معه ووجده يهتم بأمر اللغة والقراءة، وهو يقول عنه أنه عربي عصري. لقد عمل معه كثيرا من العرب، لكن هذا لا يشبههم أبدا. ولما فهم نزعته للعلم والفن وتردده على الجامعة، عرفه على (ديديه) ابن أخته الموسيقي. ثم امتد الحبل وصار موسى يعرف كل عائلته. أدرك فريدي أن موسى ينجز أعمالا ثلاثة يدعم بعضها بعضا. يتعلم بالجامعة، ويكتب للصحافة، ويعمل بشركته. أما طريقته للعيش ونظرته للحياة؛ فهذا ما يزعجه. في السنوات الأولي كان يبقي معه أغلب الوقت بالسيارة. ولو تركه قليلا عاد ليجد مؤشر السيارة على إذاعة عربية تبث الأخبار. فريدي لا يعرف العربية لكنه يعرف كلمة إسرائيل. وكلما تسمع قليلا مع موسى وجد هذه الكلمة تتكرر مرات. إنه يعلم بما هنالك من احتلال وإرهاب وقتل وتشريد وينحاز لإسرائيل دون تفكير. وكلما سمع من موسى أوشك أن يجد الحق معه. موسى يحضه علي التدبر حضا. يقول متهكما: وهل تقوى على مخالفة إيفا؟ أنت تعيش في جو محكم الدعاية. لا يكون اليهودي يهوديا إلا بأمه. يهوديتك لا تعنيك إلا فيما يخص إسرائيل. هل تعرف أن أمك العجوز أكثر منك وعيا ودراية وكذلك ( ديديه)؟ رد فريدي: لدى كل منهما ما يجعله يكره إسرائيل. أمي تذكر في طفولتها أن جارة مسلمة لهم آوتهم وقت المحرقة قبل أن يفروا ، لذلك أراها تسعد بالحديث معك كانك ابن تلك السيدة، كما تحزن مما يجري للفلسطينين. و( ديديه) أحب إسرائيلية كانت تزور المدينة، ولما تزوجها وانجبت بنتا، حملتها سرا وذهبت بها لإسرائيل. قال موسى: لكنك تخاف حقا من إيفا. رد فريدي: وهل تخاف أنت من نداج؟ قال وهو يشعل سيجارة: واين نداج الآن؟ إنها تبقى خارج المدينة أغلب العام. لكن ايفا موجودة دائما وتجلب لك من الصيدلية كل وسائل المساعدة، وضرب على كتفه وهو يضحك. قال فريدي ساخرا: لا أفهم لماذا أعطاك الله هذا_ وأشار على عضوه_ هل لتبول به فقط؟ قال وهو يضحك أنت تفكر طيلة الوقت في ذلك حتى انحرف مزاجك. لا تدرك لذة اللقاء بعد قطيعة، ولم تعرف معنى الإخلاص. أنت لست صهيونيا وتتعاطف مع صهاينة فقط لأن إيفا تتعاطف معهم. قال فريدي بعدما لاحت مباني الشركة: ترى لو انتهت مشكلتكم مع إسرائيل وعشتم بسلام ، ما الذي سوف تقولونه في نشرات الأخبار؟
***
في صيف2009 توفت والدة فريدي. واساه موسى وحل محله طيلة اليوم وعاد علي ( بورت مونتري). لقد تم الدفن ولم يعرف موسى كيفيته. كان يود حضوره حتى يري لكن فريدي طلب منه أن ينوب عنه بالشركة. ولما وصل العزاء ورأى الحزن والانكسار، سلم على إخوة فريدي وجلس إلى جواره. كانت عيناه تنظران في كل جهة لمتابعة المشهد. ويتذكر المرأة التى كان يودها منذ رآها تشبه جدته لأمه. كانت ترفل في رداء أسود محنية الظهر تفوح منها رائحة طفل وليد. يتذكر موسى كم كانت توصى ابنها به؛ فيبكي. يراه كل من ( دوني) و( ديديه)، فيتعجب الأول ولا يتعجب الآخر. وفي آخر العزاء لم يبق سوى نفر قليل. هنا اقترب منه عجوز وذكر الراحلة بسيرتها الطيبة. وبينما يتحدث موسى عنها قال بالعربية دون وعي: الله يرحمها. كان العجوز أخ المتوفاة ولم يره موسى من قبل. وبينما يتابع حديثه قاطعه وعيناه تلمعان : الله يرحمها!, أنت إنسان مهذب. لقد قال نصف الجملة بالعربية. موسى ظل مشدوها والعجوز تبدو عليه علامات الهدوء والراحة.. أخبره فريدي بعد ذلك أن خاله هذا رجل دين وأنه لا يحبه. شهران وأكثر وفريدي لا يحلق لحيته ولا يشرب ولا يدور بسيارته في الشوارع ليلا. كان يحب في موسى العزيمة والإصرار. أمضى أمامه ثلاث سنوات كاملة يشرب ويدخن الحشيش ثم أقلع دون جهد يذكر. ولما يتذكر أنه يصغره بعقدين ويستطيع فعل ما يريد يتحسر على نفسه. لكنه بعد وفاة أمه بدا أكبر من عمره بسنوات. إنه لا يعرف ما الذي ينتظره هناك. وعدم معرفته جلبت لرأسه الكوابيس والوساوس. حتى إذا حاول موسى التخفيف عنه طلب منه السكوت كمن لا يريد أن يعرف. في تلك الفترة كان فريدي يعيش في فراغ سحيق. قلة علمه وعقله عصفت به وما قوي على ترتيب الركام؛ فبدا كمن انكسر داخله. ترك الشركة لأخيه ( دوني) ، وصار ( غيدي) يتردد عليه كل يوم. وكلما طلبت منه إيفا حلق لحيته ومغادرة المنزل لم يعرها أدنى اهتمام. وذات مساء اتصل فريدي بموسى وطلب منه أن يمر على جو في السادسة صباحا. كانت ثمة امرأة تريد تغيير أرضية مكتبها الباركيه إلى موكيت. في تمام الموعد كان موسى يركن سيارته ويترجل. وكان جو العجوز يمشي محني الظهر وفي يده كومة كبيرة من المفاتيح يمر بها علي المخازن. فتش موسى عن واحد من الحراس فلم يجد. وقف يراقب جو قليلا وهو يطالع بنظره الشحيح كل ورقه في مفتاحها قبل دسه في الباب، ثم جاءه من خلفه يمزح ويتندر عليه. كان جو استاذ فريدي في المسخرة. كلما رأى موسى مزح معه بالضرب على عضوه قبل السؤال عن أخباره. قال موسى وهو يتقهقر أمامه: كله تمام. قال جو وهو يقف أمام الباب المفتوح: ارفع طرف الموكيت هذا لسيارتك. ولما فعل موسى سبقه إلى باب آخر وهو يقول: خذ ثلاث شكارات أسمنت أبيض من هنا. وأخرج له ثلاث جالونات من الكلة من باب ثالث. حتى إذا وضعها بالسيارة، مشيا معا إلى المكتب. ناوله واحدة ( كرواسون) مع القهوة وانشغل عنه قليلا. ثم سحب ورقة من أمامه وكتب عليها عنوانين وناوله إياها. قال وموسى يطالعها: السيدة تسكن في الأول، والشغل في الثاني. يجب ان تمر عليها أولا. كان يتوجب على فريدي أن يذهب للسيدة، لكنك تعلم مصابه.
***
بعد بضعة أيام أخر، خرج فريدي من عزلته. ثمة حدثان دفعاه لذلك دفعا. لقد ظهرت نتيجة الباكالوريا وحصل ويسلي على مجموع كبير يؤهله لكلية الهندسة. بقي فريدى ثلاثة أيام يضحك ولا يصدق. الولد الشقي الذي لا يصاحب إلا العرب في صفه وكان مدعاة للسخرية من أمه طيلة الوقت سوف يصير مهندسا. أما الثانية فتتعلق بولده غيدي. مر على زواجه أكثر من عام ولم تحمل زوجته بعد. وتحت ضغط سؤال إيفا كشف أن أموره تسير على غير ما يرام. تتحدث إيفا معه كصديقة لا كأم. تستدرجه ليخرج من صمته ويبوح. عيناها السمراوان البرقتان تتعكران من الغضب. وبحة صوتها المثير تتلاشى منه تارة، وتظهر أخرى بإيقاع ثخين. تعرض ما يقوله الولد على كل من تعرفه. وقبل أن تعطيه الدهانات والأدوية الجنسية كما تصنع كلما اشتكى، حضن وجهه براحتيه وراح يبكي. تركته حتى انتهى وأخذت تربت على كتفه قليلا؛ فسكت ولم ينطق. أشعلت إيفا سيجارة بيضاء طويلة من دخانها الخفيف وابتعدت بها عن ولدها. وقفت بأول الصالون قريبا من الشباك وقالت: لماذا تدفع الأدوية؟ ماذا تريد أن تقول؟ مسح غيدي عيناه المحمرتان وهو يكاد يصرخ: المشكلة أنى صرت أخاف من راشيل. أداعبها حتى أقترب من القذف. أنا لست بحاجة لأدويتك. لكن حين أدخل السرير ينطفئ كل شيء. راشيل تتحول فى السرير. واحيانا أراها بغير ملامحها. واحيانا أرى فى النوم من يتوعدني لو اقتربت منها. راشيل طيبة وتحبني، لكن ماذا أصنع؟. في مساء ذلك اليوم ذكرت إيفا لفريدي أن ولده وقع تحت تأثير السحر. وطلبت منه الاتصال بخاله رجل الدين وإخباره بالأمر. وفي السابعة إلا ربع من صباح اليوم التالي، كان فريدي بالمقهى بعدما حف لحيته وصفف شعره، يقف بعوده القصير الممتلئ أمام ال( كونتوار)، وأمامه كاس (بيرة 16/64) التى يفضلها، وينتظر موسي نصار.
***
فريدى يحيا بحي يكثر به العرب والأفارقة ولا يكره أحدا. له طريقة عبقرية في التعامل تجعله يربح دائما. وبحكم يهوديته، يتسم بالغيرة في عمله. يفكر دوما فيما سيؤول إليه الأمر ويتعقبه .ولو وجد في درب سبيله شخصان يمكن أن يتحدا ضده، تآمر عليهما عن طيب خاطر. لم يتعلم كثيرا لكنه أمهر صانع يضرب الشفرة المعكوفة في طرف الموكيت بشركة ( سان نيكوتيرم). ومهما كان اتساع المبنى، حين يضع طرفي الموكيت فوق بعضهما، ويزحف بظهره متعقبا المسطرة الحديدية التي يقص عليها ال( جوان)، لا يخطئ قيد أنملة. حتى أن الزبون يشك أنه طرف موكيت واحد. وفي الحسابات يفهم أكثر من أهم محاسب دون كمبيوتر. ومن بخله لا يخرج من جيبه ( يورو) واحد حتى يدخله أولا أي مبلغ من المال. فريدي يشرب ولا يدخن، وقليلة هي المرات التي فرط فيها. يذكرها جيدا إذا اشتهى الشراب حتى لا يقع في الخطأ. وإذا أفرط في الشراب أفرط في الطعام وظهر له كرش كابنته بولا. نظر لموسى نظرة خاطفة وهو إلى جواره بسيارته وقال: هل تؤمن بالسحر؟. ضحك موسى ضحكة شاحبة وأخرج عينيه من الشباك نصف المفتوح وهو يقول: دعك مما يمكن أن أقول أنا، هل تؤمن به أنت؟ سكت فريدي وصار ينتبه للطريق حتى احمرت الإشارة. وقف أمام خط عبور المشاة مباشرة حتى ينتظر عبورهم. في مثل هذه الأوقات يتسلق بعينيه كل امرأة تمر وهو يذكر غزواته وشططه. لكنه هذه المرة ظل صامتا محدقا في الإشارة ينتظر العبور. فى تلك اللحظة مرت واحدة تشبه إيفا قليلا، فأشار له موسى وهي تقطع. قال فريدي: هذه يهودية. سأله موسى: كيف عرفت؟. اكتفى فريدي بلمس أنفه بسبابته. وفي مكتب جو الذي رحب بعودته، جاء الجميع وسلم عليه. واسوه وأكثروا حتى تجددت أحزانه. ولما اختلى بصديقه العجوز، بكى كالاطفال أمامه. لقد ذكر له ما قالته إيفا بالمساء. وطلب منه الاتصال بخاله بدلا عنه. وهنا مسح جو وجهه بكفيه حتى بان بياض وجهه المتغضن مضاعفا وأخذ يقول: لا داعى لخالك. تعرف من الذي سوف ينقذ غيدي؟. سأل فريدي: من؟ قال: صديقك المصري. الشاب الذي تحبه. أما قلت أنه يحب الشرع و الدين، وأنه مؤمن؟. قال فريدي: نعم، لكني لا أفهم هذه الأشياء. هو كثيرا ما يحدثني عنها ولا أكترث. ومع ذلك أصدق ما يقول. قال جو: أرسله لي، اصطحبه حتى يجلس، ثم اتركنا وحدنا. وفي الثامنة مساء، كان موسى مع جو وفريدي في شقة غيدي وراشيل. في مثل هذه الأوقات، لا تخل حافظة موسى من دائرة شيخه. كان أعد نفسه للأمر جيدا. فهؤلاء يهود، والسحر صنعتهم ومنهم المناكيد. عليه أن يحفظ نفسه جيدا. ومهما كان الأمر، يقينه أن الله مؤيده. جو قابل الأمر بوجه من الهزل وأخذ يستفز راشيل وغيدي ويضحك. ثم طلب منهما أن يسمعا كلام الشيخ. راشيل شابة جميلة اكتملت فيها المعايير. درست علم نفس وكانت تذهب للمعبد. سألت: يعني السيد شيخ. رد موسى: نعم. قالت: وماذا تصنع؟. قال: أقرأ القرآن. انكمشت الجميلة قليلا وقالت: يا الهي، القرآن؟ نظرت لغيدي الذي بقي مبتسما متسع العينين، فاغر الفم ،لا يكاد يصدق. ولما وافقا، ذهب وتوضأ أمامهما حتى صنعا. ودخل معهما غرفة نومهما، وجو وفريدي خلفهما. أغلق باب وشباك الحجرة. وطلب من راشيل الجلوس علي الارض أمام السرير، وان تركن رأسها للحائط. وطلب من غيدي الجلوس في مواجهتها. وأن يمسك بخنصري يدها بقوة. وأمرهما أن يجلسا متربعين. ثم أشار بكتابة بعض حروف بقلم على الجبهة والكفين والقدمين وهو يتمتم في سره. ولما فرغ من ذلك. قال الآن، أغمضوا أعينكم واسترخوا كأنكم وحدكم. وانا سوف أقرأ لمدة ثلاثة أرباع الساعة. لا أريد أي حركة، لاحس ولا نفس. في الربع ساعة الأولى بدت راشيل متشنجة. ارتخت شفتها السفلى وارتفعت العليا، وبدا تنفسها كغطيط نائم. كانت تبدو كمن يهرب من رائحة يكرهها. ثم أخذ أنفها يرتفع وتتفزع. وكلما حاولت التفلت، أشار موسى للزوج أن يضغط على أصابعها أكثر.. وفي الربع ساعة الثانية حاولت مرارا سد أذنها وأخذت تصرخ. وكلما علا صراخها ضرب موسى طرف سبابته بين عينيها وهو يرفع صوته بجملة سوريانية ما حتى تسكت. ثم راحت تتلوى وتحاول لمس بطنها بيدها دون أن تستطيع. كانت تبدو مشمئزة وتشعر بالغثيان. وفي الربع ساعة الأخيرة خمدت الحركة في جسدها تماما، وتوقفت مقاومتها، واستسلمت للنوم. في هذه الأثناء خفت صوت موسى الذي صار ينز عرقا رغم البرد، وطلب من زوجها أن يترك خنصريها.ولما ختم وأنهى الجلسة احتاجت راشيل ربع ساعة أخرى حتى تفيق.
***
لم تتفاءل إيفا بما صنع موسى لابنها وزوجته. كانت تطمئن عليهما هاتفيا ولازالت أمورهما سيئة. وكم تشاجرت مع فريدي جراء ما جرى. ثلاثة أيام وراشيل لا تغادر الفراش. كان جسدها متعبا وتشعر كأن جدارا سقط عليه، ولا تطلب من غيدي سوى تدليكه. تعاود إيفا الكلام مع الصيدلانية (بندكت)، فتسخر منها العجوز. ومن فرط إلحاحها أخبرتها أن عقلها يرفض ذلك. تعرف تشريح الجسد وكل علله، وتستطيع تركيب الأدوية إذا لزم الأمر، ولا تؤمن بهذا الخبل. وأوصتها أن تلجأ إلى طبيب نفسي معروف وأعطتها هاتفه وعنوانه. فريدي ما عاد يتشاجر معها بعدما تعب. قال حانقا: إبنك كان أمامك عاما كاملا؛ فلم الآن؟ أما يهمك أمر إنجابه؟ لماذا لم تعالجي الأمر وحدك دون علمي
كما يحدث في أغلب الأمور؟ أنت تستبطنين الكراهية لموسى. هو يشعر بذلك ولم يتأخر لما عرض عليه جو الأمر. لقد صنع لنا معروفا وعاوننا بكل ما يعرف. انفعلت إيفا وهبت واقفة تسحب سيجارة بيضاء من دخانها الخفيف، ولما وصلت المكان الذي لا تدخن إلإ فيه طالما كانت بالشقة، حيث تيار الهواء العابر من المنور إلى البلكونة، أشعلتها وهي تقول: ولم أكرهه؟ لكن كلامه معي يكثر فيه الغمز واللمز. كأنه يريد أن يقول شيئا صريحا، وفي كل مرة يعتريه الغموض. ثم إنه منذ ترك لحيته والأطفال يخافون منه ويبكون. قال فريدي: أي أطفال؟ قالت: آخر مرة دخل هنا كانت ( جزلين) حفيدة أختك مع أمها. أنت كنت بالبلكونة ومر بيننا حتي يصل إليك. ألقى التحية دون أن ينظر إلينا. وبينما يمر اعترضت الطفلة طريقه. جلس أمامها يداعبها ويشير لها علينا، حتى خافت وأقبلت نحونا تركض وتبكي. نهض فريدي ينظر في ساعته ويشيح لها بذراعه. سألته بحزم: نازل؟ قال: نعم،عندي شغل. قالت: وما العمل؟ قال بعدما فتح الباب: فقط لا عليك أنت، وسيمضي كل شيء على ما يرام. نزل فريدي على المقهى، فهناك من ينتظره. اليوم نهاية الأسبوع، وحساب كل من يعمل معه جاهزا. أعطى العمال الذين يعملون معه بشكل رسمي ( شيكات)، والذين يعملون بشكل غير رسمي أعطاهم أوراقا نقدية. لقد صار خبيرا بالقوانين، وشرطة العمل لم تحرر ضده أي محضر، رغم أن أغلب عماله لا يحملون أوراق الإقامة وبالتالي لا يحق لهم العمل. وهؤلاء تقل أجورهم عن المأذون لهم بالعمل أكثر من النصف. وإذا أعطاهم أوراقا نقدية، غابت أسماؤهم عن التدوين في السجلات. بعد أقل من نصف ساعة، ركب فريدي سيارته وراح يمشي دون هدف. كانت الساعة تقترب من الثامنة مساء، ووسط المدينة متزينا لليلة العطلة. نظر فريدي على حانة ( جيبسي)، ولما رآها مفتوحة، حاول أن يرصف سيارته وينزل. أخذ يروح ويجيء حتى وجد مكانا فارغا، وبينما يقترب منه يأخذه غيره. أشاح بذراعه غضبا من شباك السيارة وتحرك. ترك نفسه على رسلها تذهب أنا شاءت. ومن شارع إلى آخر وجد نفسه عند محطة مترو ( جورس)، حيث يسكن غيدي وراشيل. مال يسارا وقطع الجسر أمام المحطة ودخل شارع ( جان جورس)، ووقف أمام البيت قليلا ثم مضى. عاد للطريق المحاذي للمترو من جديد، وخطر بباله خاله رجل الدين والمعبد. فريدى لم يستطع دفع الخاطر وقد وجد نفسه أمام المعبد في حي ( بلفيل). معبد صغير في مبنى قديم يكاد يكون أثريا. وقف أمامه بالسيارة وذهب ينظر إليه. كم مر من هنا دون أن يعيره أدنى التفاتة. وما رأى من أصحاب الطواقى الشبكية وظن أنه على خير. لقد لان للمكان ورواده ولم يقو على دخوله. مجرد احتمال وجود خاله بالداخل منعه ذلك. ولما تعب ولم يجد أين يذهب، مشى لمقبرة ( بير لاشيز) ليزور أمه.
***
انطلقت الانتخابات الرئاسية وارتفعت وتيرة الكراهية للمسلمين بالمدينة. في هذا الموسم تجد المزايدة والتسلط من كافة ألوان الطيف السياسي. ومنذ ورثت ( ماري لوبان) شعلة النار من أبيها، بقيت الأعلى صوتا وعنصرية. المستقلون ومرشحو الأحزاب الصغيرة
قرنوا الإسلام بالإرهاب وانتهى الأمر. ومرشحو يمين الوسط واليسار بدا خطابهم أقل صدامية، وإن اتفق مع البقية في التوجه والهدف. قناة التلفزيون الرسمية الثانية، أكثر القنوات عنصرية، وبرامجها الأكثر انتشارا ورواجا بين سكان المدينة. فقط ( تفبرك) الاصطلاح وتجده في الغد على ألسنة الناس بالشارع. إيفا تجلس أمام برامج ال( تك شو) أغلب الوقت لتتابع. لقد اطمأنت على راشيل لكن وعيها أبدا لم يتغير. دخل زوجها مرحلة جديدة منذ ماتت أمه، وما تركته بحاله. اثنان وثلاثون عاما من الإزعاج المنظم والطاقة السلبية. نظرتها التى يهرب منها لازالت تدمر كيانه. ولما أخبرها أن أمور ابنها وزوجته مضت على النحو الذي أخبر به موسى، سألته: كيف؟ قال: اطلبي جو. ردت: كيف وأنت أمامي!! تكلم من فضلك. قال فريدي:بعدما أنهى جلسة القرآن وخرجنا، سأله جو في السيارة. آه لو تعرفين كيف كان يناديه؟ قالت: كيف؟ قال: كان يقول له يا كبير، يا سيدي الشيخ، يا سيدي الإمام. صرخت بصوت أقرب للنشيج، يا إلهي، واتسعت حدقتاها بعدما وقفت وراحت ترفع صوت التلفزيون وتنظر إليه. وإذ تشعر بجفاف ريقها وقلة تنفسها تهرع للمطبخ وتشرب. حتى إذا عادت وقالت مستنكرة: جو كان يناديه هكذا؟ قال فريدي: نعم، أخبرنا منذ البداية أن الأمر يحتاج ثلاثة أسابيع أو شهر. وان جسد راشيل سوف يعتل في البداية. وأن تأثير القرآن على السحر كتأثير المضاد الحيوي مع المرض. نحتاج إلى الوقت لينتهي الشد والجذب. وكلما مر يوم شعرت بنزول الألم، وتحرك مزاجها صوب الاعتدال. ونصح غيدي أن يبقى معها طيلة الوقت. ولو رأى بوجهها ما رأى أثناء الجلسة يتصل به. كما نصحه أن تبقى شقته نظيفة ويطلق فيها الروائح الطيبة والعطر. لا شراب ولا كحول ولا حشيش ولا سجائر. ولما أخبرت راشيل جو أنها صارت بخير، حرر له شيكا رفض أن يأخذه. فما كان من العجوز سوى تقبيله من أعلى جبهته برهبة وامتنان.
***
بعد أيام وصل هولاند وساركوزي إلى الجولة الثانية في الانتخابات الرئاسية، والمرشح الأقرب بعدهما كانت ماري لوبان. الحزب اليميني المتطرف ازدادت شعبيته في السنوات الأخيرة. وساركوزي الذي سقط من عين شعبه وجد من يدعمه. قطاع المال والاعمال والليبرالية المتوحشة. أمه من أصل يهودي وأغلب اليهود بمن حولهم يدعموه. يهود المدينة أقل من مليون، وبمن حولهم نحو عشرة ملايين. لديهم الشركات والأعمال، ومن يدفع يحكم. جو كان يسوق له في الشركة وخارجها، لكن فريدي دعم هولاند. بات مثل ثائر يرفع عن نفسه الوصاية ويختار ما يحب. لقد بدأ عامه الستين والدنيا علمته ما فيه الكفاية. لا يصح من اليوم أن يكون تابعا لأحد. لم يكف عن دورانه بسيارته ليلا، لكنه ما عاد يلاحق النساء. وربما حمل معه واحدة فقط ليعطيها الأموال. لقد تخلص من شح نفسه وما عادت تضنيه الأهوال. فريدي تخفف من بشريته كثيرا وصار قليل الكلام. بات كطفل يريد الهدوء يريد السلام. كأن الزمان الذي عاشه لم يمر به. وكل الذي كان منه بهذا الزمان خيال. يردد في الصمت كل الحكايا التى تسكن الوجد حينا، وحينا يقول بها في الزحام. يدور كديك يراوغ سكين صاحبه كي يذوق الوئام. يدور بتلك المدينة يبحث عن عمره كيف مر؟ وكيف استجاب لزوجته كالصغير الأغر. تشاغله وقت يفضي إليها وتسأله بالسؤال الأمر. أنا جئت من بطن عهد قديم، فمن أنت حتى تروم المقر؟ لماذا أتيت ولم يحرقوك، وتطوي المدينة بالليل طيا. تتوق إلى الجنس كل مساء، وأبقى هنا شأن بحر وبر. أشم الخيانة فيك أموت، ولا ترعو أو تعيف المضار. يروغ عن الدرب ينظرها من خلال البصائر.. يسائلها كيف جارت عليه بقدرة مارد؟ ويدرك وكأنه يدور الدروب بحلة عابد. يتساءل هل ثمة ما يثبت أن الجسد بعد تحلله يعود؟ كم يبلغ سمعه كل صباح أن الناس تموت. يبغي لو عرف الموجود وراء الموت بمفرده دون رجال الدين. المعبد في خاطره منذ صباه بيت شياطين. لولا هجاء الأم لخاله حتى ماتت لانفلت إليه وما هال وعزم على الترميم. ويقر بأن الظاهر في دنياه لا يكفيه إذا أغرق في التفكير.. فهناك بلايا تطال الجسد ولا يعرفها الطب. لو ما وقع السحر لولده ما صدقه، ورد بليته إلى الجنس أو الحب. ثم انصرف مع البشر إلى سطح النهر وسحب الأفق البيضاء. وقف بسيارته على الكورنيش أمام أناس ترقص وتغني دون عناء.. وفد جاء من الأرياف بنزهة يوم الأحد على ضفة نهر السين. معهم ما يلزمهم من كل طعام وشراب، واللحن الراشح منهم ذكره ب( ديديه). يرتفع ببطء ثم يثور على إيقاع الرقص؛ فتنتعش الأبدان من القدم إلى ما فوق العين. وهو الجالس فوق الوفد على الحافة يرجو نسيم النهر. لا يشغله الرقص ولا الألحان، بل دنياه وما فيها من قهر. ماذا لو كان لرجل غير أبيه؟ لو كانت أمه قد بقيت ببلاد الألمان؟ هل كان سيحمل هذا الإسم ونفس الدين ويصبح ذاك الإنسان ؟
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire
Remarque : Seul un membre de ce blog est autorisé à enregistrer un commentaire.