lundi 23 mai 2022

موسى نصار(2) // أحمد البحيري // مصر


بين النوم واليقظة يشعر بالسقوط، كأنه يهوي من أعلى سماء. وفي جسده تهديد لا يدري من أين يأتيه ويبدو كمن يخشى اللقاء. كل الذي يفهمه أنه ما عاد حرا. ما عاد رجلا سلما لرجل. والمشاهد التي تحيط به في أيامه الأخيرة جعلته يخاف. ميله الطبيعي للأنثى بات بغير قطاف. الشركاء المتشاكسون بجسده جاؤوا بعادات جديدة مزعجة. ما كان يعير الأنثى البشعة ولو نظرة جامدة واليوم يلتفت إليها رغما عنه. وفي الشارع كأنما لا يري غير ما يهرب منه. العرجاء التي تظهر عند محطة المترو ما عادت وحدها. صار منها نسخة طبق الأصل عند محل ( لا كلير). وفي نادي الأصدقاء أربع نسخ منها، تنتظر وصوله للباب الذي يفتح وحده كلما اقترب منه أحد وتحجل بضمير. أي استنساخ هذا الذي يودي براحته؟ بخلاف العميان الذين صاروا يدخلون الشقة في غياب زوجته. كان قد تعرف على أحدهم بالمقهي وصار يصطحب معه واحدا منهم كلما أتى إليه. والشوارع التي تعود عليها، صار هناك من يدفعه لاستبدالها إذا فرط عليه. كل ذلك لا يساوي شيئا مما يشعر به الآن. ثمة خوف ينتشر في أحشائه، يتزايد حتى يحتار. ويرى أشياء لا يعقلها في ترديه وانزلاقه. يمر عليها بين لحظة وأخرى، فيفكر في مجموع حياته. هذا الجسد المتكور الخالي من أي عصب، ترى أين يهبط؟ لو صادفته الأحجار فكيف له أن يصمد؟ ربما صار العرج عليه قليل. وربما أصابه العمي أو بقي الرأس بلا تدبير. أنفاسه المتلاحقة يتعالي صداها في داخله كشيء أجوف. هذا الجلد المشدود عليه بعناية ليس بداخله غير خواء. مثل بالون ضخم منفوخ حتي آخره. وبعد وقت لا يدريه انتبه وشعر بأنامله. في الصباح أحس أنه على غير ما يرام. تفكر مليا فيما صار له ولم يخلد لمنام. لقد أغرق في الاغتراب. ما عادت غربة مألوفة تبلغ بضع سنين لتحسين الأحوال. لقد انخرط رغما عنه في صراع الأضداد. وفكرة المؤامرة ما عادت تستهويه بأي مجال. كانت تعجبه في بعض مراحل دربه بشواهدها ووقائعها، والآن يقر بسخافتها وتهافتها. لا يمكن لبشر مهما كانت قدرته أن يصنع ما يراه. والالتباس الذي أرداه عليلا لا يدري كيف يتوخاه؟. أسبوعان كاملان لا يخرج من شقته. لا يبغي رؤية أحد وخصوصا هؤلاء الذين يعرفوه. أغلق الهاتف وما عاد يفتح إذا سمع جرس الباب. حتى الحديقة المواجهة للبيت الذي يسكنه غابت من باله. يريد أن يعود كما كان دون جدوى. وبعد جهد مضن فتح الهاتف واتصل بأم أرتور. كان يوم سبت. وصديقته المطلقة التي ضحك عند سماع اسمها أول مرة تبقى مشغولة كل اليوم بالمطلقات. تعمل مهندسة بالبلدية وعضو بارز بالحزب الاشتراكي وتهوى الفن. ولما رفضت الجامعة تأجيل دراسته للمرة الثالثة وظهرت مشكلة الإقامة، ذهبت به إلى النائب أنطوان بيسي وقالت له: أريد أن يبقى هذا الشاب هنا ولا يرحل. كان بينهما صراع يخفت قليلا قليلا كلما امتدت العشرة. أخرج النائب دليلا وراح يطالعه بعدما فهم القصة. وقال بعد وقت: له الحق في إقامة فنية، وعليك الذهاب به لمكتب وزير الثقافة. كانت أم أرتور عرابته وملاكه الحارس رغم اختلافهما بالكلية. منذ تعرفت عليه وهي لا تتواني عن مساعدته. وثمة جملة ترددها علي مسامعه دوما: يجب أن تستمر هكذا. لقد لامته على ما اقترف بحق نفسه، ثم دعته لبيتها في التاسعة مساء.
***
في الثامنة مساء خرج من الباب الموصود بشكل كامل منذ أسبوعين. كان ميدان (بيير جيتير) يكاد يكون فارغا. والحديقة المواجهة خالية من البشر بعد إغلاقها قبل ربع ساعة. وزينة رأس العام تتلألأ حول أشجار ( الاروكاريا) في كل موضع. شد كابوت المعطف على رأسه وترجل للمترو. المسافة ليست كبيرة ليصل إلى ميدان ( الشاتليه). وبعدما تفقد النافورة التى تتراقص على أنغام الموسيقى، حاز مقهى ( سارة برنارد) وسلك الشارع الذي تسكنه أم أرتور. بضع دقائق وبدأ يتوتر. إنه يمشي في حي أغلب قاطنيه من المثليين. ويلوح لعينيه المقهى الذي يتفادي النظر إليه. منذ تقيأ عند رؤيته لأول مرة وسط تعجب زوجته نداج وأم أرتور وهو يتحاشى النظر إليه. حتى أنه يترك الرصيف الذي يشغلونه إلى الآخر المقابل إذا مر عليه. ولما وصل المنزل رقم 53 دلف وأخذ المصعد للطابق الرابع. رن الجرس وتنحى عن الباب كعادته. قالت أم أرتور وهي تحضنه بصدغيها وتضحك: لماذا تختفي بعدما ترن الجرس؟ قال وهو يمشي خلفها إلى الصالون: مرة أخرى حضرتك؟! انتظرت حتى خلع المعطف وجلس على الكنبة التي لا يجلس على غيرها، وسحبت كرسيا صغيرا كتلك التي أعدت للشاطئ وجلست أمامه. لقد بدت أدنى منه رغم طولها الذي يفوقه. رأسها كان يوازي بطنه بالكاد. كانت ترتدي (شورت) قصير لفوق الركبة، و(تي شيرت) بلا أكمام. وتدفئة الشقة مضبوطة على درجة حرارة الجسم العادية ومغلقة الأبواب والنوافذ. وكان ثدياها الكبيران بارزان كحبتي مانجو. نظرت إليه كأنما من تحت لفوق، ولصقت أصابع كفيها مضمومة، ثم أخذت تنظر إليها وتقول: واضح أنك عليى غير ما يرام. لقد صرت أفكر كثيرا فيما يصير لك. أنت حقا غريب الأطوار. أنا لا أنفي ما تقول به من تضييق واضطهاد. لكنني اليوم لا استطيع أن أصنع صنيعك. ثم إني كما تعرف أنحاز للمرأة ولا أقيم وزنا للرجل. وأرى أن خلف كل امرأة مجنونة رجل. أطفأ السيجارة ليشعل غيرها ويقول: انظري إلي بتركيز من فضلك. هل تجدين أي شيء غريب؟. تأملته جيدا ثم قالت له قف، فوقف. حدقت بعينيه واقتربت منه أكثر من اللازم حتى شعر بنفسها. سألت متى تأتي نداج من ( جرونابل). قال بعد أسبوعين، بعطلة ( التيرم). قالت نعم بك شيء غريب، لقد تركتك طويلا. عفوا، أردت أن أقول أن كل ما فيك غريب. اجلس أيها الغريب الذي وقع في قرعتي!! منذ تعرفت عليك بواسطة زوجتك، لم تنادني باسمي بدعوى الجنس. قلت أن له فحوى جنسي في لغتك. ولما عرفت أن له نفس المعنى في لغتي لم تتنازل وتنطقه، هل تعلم أني أحب اسمي؟ وان أي كنية أو وظيفة لا تغني عن ذكره؟ تعيش بمدينة تعج بالمثليين ولا تراهم. تقصهم من صفحة بالك بالتمرين الذهني. وإذا ذكرتهم في أي حديث حملت عليهم. لازلت أذكر غضبك من قرارات حكومة ( ليونيل جوسبان) التي كرست حقوقهم. أما أقول لك كم أنت غريب. حتى زواجك ومزاجك وتعذيبك لنفسك. هل تعرف أني أعرف نداج قبلك بأربعة عشرة سنة؟ نفس المدة الزمنية التي تفصلني عنك، ومع ذلك لا أشعر أني أكبرك بيوم واحد. كانت لتوها قادمة من ( سان نازار) وتدرس التاريخ. كانت معي في صف واحد رغم أنها تصغرني بعقدين. ليتني تعرفت عليك وقتها. ربما تشبهت بك وصرت أخلاقية. انتظر حتى نهضت واسترخى في جلسته. غابت قليلا وعادت بصينية عليها كأس نبيذ أحمر وفنجان قهوة. سألته بعدما رشفت من كأسها: كيف تصبر على ممارسة الجنس في غيبة نداج؟. قال وهو يحدق في شعرها الأسود القصير هذا ما يشغلك؟ احمر وجهها خجلا وأشاحت بذراعها: نعم هذا ما يشغلني. قال ولم لم تسأليها؟ قالت وهي تمسح شفتيها: سألتها، وردت كما ترد. قالت صحيح أنه صعب، لكنه يمر. والآن أخبرني عما يشغلك أنت. نظر داخل الصالون وأشار على كرسي بعيد خلفه (تابلوه) على الحائط وهو يقول: حتي لا تقاطعيني.
***
قال: بالورقة والقلم، مسيو أماس. ذاك الذي يسكن مقابل حديقة القديس الميت. قبل سنوات عطل دراستي، واليوم يهددني بالطرد من المدينة. نهضت وتناولت بالونا جلديا من فوق خزانة الكتب، ووضعته على ( باركيه) الأرضية، وقالت وهي تتقوس بظهرها عليه: الطرد!! سارع ووقف عند رأسها وراح يقول: الطرد والخطف والقتل والتشريد. لقد بلغ الصراع آخره وما عدت أتحمل. وراعي الفرق بين ما تقوله الشرطة وما يحدث على الأرض. ثمانية آلاف شاب تأكلهم الموتورات السريعة كل عام بالمدينة. من شهر واحد رموا بشاب عربي من فوق سطح معهد العالم العربي. لي صديق فلسطيني يقترح تغيير اسم هذا المنتدى إلى معهد العالم العبري. "ضاق خلقي" وصرت أرى كوابيس في نومي. ثلاث سنوات ونصف. نداج يمكن أن تصف لك. يتم اختراق ارسال التلفزيون العادي الذي يصل بيتي. أماس يبث لي رسائل. والهاتف المحمول ( فرانس تليكوم) يفتح ويغلق بمزاجه. وصار الموتور الذي يناوشني علي حافة الشارع ، يصعد خلفي على الرصيف. اكتملت الدائرة. رفعت جذعها بفزع ونهضت واقفة. أخذت خطوة بظهرها للخلف جهة الحائط وهي تقول: أنت بالفعل في خطر. لكن كيف تعيش، وزوجتك بعيدة. أنت تتوحش في غيبتها. تنتظر حتى ترحل، وتدير المشاكل. المهم الآن أنك بخير. يجب أن تتعافى أولا. اعتن بأكلك وصحتك، وخفف السجائر والقهوة. لكن أخبرني، ما الذي يريده منك هذا الاستاذ بالتحديد. قال وهو يمشي للكنبة التي لم يجلس على غيرها: بالتحديد بالتحديد. قالت وهي تلحقه شاردة نعم. قال يريد مني أن أكفر. قالت رائع، مثل فاوست (جوته) والرجل الذي باع نفسه للشيطان, وانت مؤمن ومتصوف, فهمت. لكن هل للأرواح والسحر دور في القصة؟ قال هي لب القصة. الموضوع كله في الخفاء. في الماوراء. مهما كنت وحيدا في الظاهر, فلست وحدي. ولئن قتلت بأي لحظة فأنا شهيد. قالت وهو تفرك وجهها وتنثر شعرها الأسود القصير: صدقني، سيكون عمرك طويلا. أنت إنسان كل شيء لديه واضح. لكن عدني أن لا تعتدي على شيء أو أحد بهذا العالم المادي، حتى أبقى معك. قال أعدك، قالت أنت رائع حقا. لقد صنعت معروفا بخروجك من بيتك.. لا تعلم مدى ثقتي بك. وإذا كان هذا بخصوص مسيو أماس، فماذا عن الأرواح؟ كيف تؤثر عليك بشكل سلبي؟ ولما رأته يرفع فنجان القهوة ويمتص آخر ما به، سارعت للمطبخ وهو خلفها يقول: لقد بات الأمر عندي أشبه بالتمثيل. كائنات مسخ ألتقيها هنا وهناك تبغي تضليلي. خذي مثلا. قبل أن أنكص وألزم البيت بنحو أسبوع. كنت خارجا من المسجد بعد صلاة العشاء وإذا بواحد من الشاردين يسب ويلعن لا أحد بالرصيف المقابل. قرأت له في سري فصار يقول: أمسك عما تقول ودعني أعمل وراح يمشي مسرعا. بالطبع لم أتوقف وصرت أوازيه بالشارع. ثم رحت أركض وهو يفعل وأجهر بالقراءة. ولما دخل أول مقهى صادفه، وقفت أنظر إليه بين أواني الخمور التي يصب منها النادل وأهدده بيدي. احمر وجهها عجبا وناولته القهوة بعدما عادا للصالون. ولما رأته يشعل سيجارة جديدة قالت: لابد أنك تعرف أندريه جيد. هز رأسه إيجابا. قالت: لقد وقف في منطقة وسطى بين رينيه جينو الذي تحبه وألبير كامو. أشعر أن هذا موقفي الآن. أصدقك وأغبطك وأدرك أني لن أستطيع بلوغ ما تقول. لقد فات الميعاد. أما كامو الذي ادعى الأخلاق ما كان كذلك أبدا. لا هو ولا سارتر ولا السورياليون ولا جماعة الكتابة الجديدة في ستينيات القرن الماضي، ولا أبي. ولا زوجي ولا أي رجل. كل هؤلاء الرجال منافقون. لو تأملت كل واحد منهم لوجدته انسانا ساديا. أما أنت فتذكرني ب ( بلزاك) الذي تحول بيته اليوم إلى متحف. عاداتك كثيرا ما تشبه عاداته، وبخاصة في القهوة والجنس والدخان. وبعد أربع ساعات مرت خاطفة، نهض وتناول معطفه وهي تقول. نلتقي مثل اليوم بالموعد نفسه دون اتصال. هز رأسه وشكرها وهو يخرج من الباب مسرعا حتى لا يفوته المترو الأخير. ولم تكف عن الكلام معه أمام الشقة حتى أغلق المصعد بابيه.
***
في اليوم التالي عاد إلى عمله. لم يتفاجأ فريدي من اتصاله المتأخر وانتظره في السابعة. ولما رجع في الخامسة، شعر أن شكله ما عاد يروقه. ثمة أشياء لازالت تزعجه ولا يعرفها. كلما رأى زحاما من البشر صار يستوحشهم ويبتعد. وعاداته الأصيلة كأنما توارت في مكان ما داخله وغابت. ودون تفكير نهض ودخل الحمام بماكينة الحلاقة. حلق رأسه ( زيرو)، وأزال شعر الإبطين والعانة. وبعدما قص أظافره واغتسل ،نظر بمرآة الحمام الطولية ورأى لحيته التي تركها ثلاثة أسابيع تذكر مسيو أماس. ذاك الأستاذ ب (السوربون ) وال(كولج دي فرانس)، ومستشرق يتبع وزارة الخارجية، ورئيس نادي الأصدقاء. تذكره وقتما تعرف عليه بمكتبة معهد العالم العربي .عرفه عليه صديقه الجزائري أمين المكتبة. قال له وقتها: هذا روائي وصحفي مجتهد. وبعد عشر دقائق قال مسيو أماس: هذا لا كاتب ولا صحفي، هذا أخ مسلم بلا لحية. شذب لحيته للمرة الأولى بحياته أمام المرآة، ولبس ملابس الرياضة وخرج. دخل الحديقة المواجهة وركض حتى سور الياسمين على حافة قناة (جينول). تلك القناة التي تربط بين تفريعتين من تفريعات نهر السين الكثيرة. لا زهور بيضاء بالياسمين، لكن رائحته تفوح من أوراقه. تركه وهبط للحافة ال (باطون) وراح يركض. نحو ثلاثة كيلومترات والعودة. وبين وقت وآخر يغمض عينيه بضع ثوان. كم يتمرن على هذه العادة منذ سكن بهذا المكان؟ كلما أراد زيادة تركيزه صنع ذلك. لو أخطأت قدمه الحافة التى لا يزيد عرضها عن ثلاثين سنتمترا، لسقط في البحيرة. ولأنه لم يفكر في السقوط أبدا لم يسقط أبدا. بعد وقت فتح عينيه ولم يغلقهما. هناك من يركض بموازاته. يرتدي ملابسه نفسها، بما في ذلك نوعية الحذاء. نظر إليه قليلا، فإذا به يرفع رجله اليسرى بين وقت وآخر رغما عنه. ترك الحافة وركض خلفه. أقل من خمس دقائق وغاب المأفون عن ناظره. لقد ظل يركض نحو ساعتين حتى غطاه العرق. وإذا عاد البيت أحس ببعض الراحة. في اليوم التالي، وبمجرد خروجه من المترو، اجتمع عليه نحو عشرة أشخاص وما تركوه إلا جثة هامدة. لكموه بأيديهم، وركلوه بأرجلهم، وداسوا على رأسه، وما تركوا خلفهم أي أثر. كل ذلك تم في لمح البصر. أمضى الليل بطوله يهذي ويتوجع. وفي الصباح أفاق في المستشفى على وجه نداج وأم أرتور والمحقق. إنه لم يوجه الاتهام لأحد. كانت عصابة طبية على رأسه تعوقه عن الرؤية. يراهم كأنما في حلم. وفراغ الحجرة التي ينام علي سريرها غير متماسك. ثمة فرجات في الغلاف الجوي يظهر منها ثقوب سوداء. وقدرته على الكلام صارت بطيئة. أربعة أيام والتأمت سجحات جسده ورضوضه ،لكن رؤيتة صارت مشوشة. ولما اطمأنت نداج علي الأشعة، رضخت لرغبته بالعودة للبيت. لم يكد يصل ويستريح حتى اتصل به مسيو أماس عن طريق نائبه. فالنادي الذي ينشط مرتين شهريا في أيام السبت، سوف يقيم أمسية عن البرق. ومسيو أماس يدعوه ويرغب أن يعرف قبوله الدعوة من عدمه. ولما أخبره بقبولها، شعرت نداج بالخوف. كانت تفكر في كل الاشياء المخيفة التي وقعت له. وجهها الأبيض المشرب بحمرة بهت مرة واحدة. وعيناها الخضراوان التي تكشف له ما بداخلها متى نظر بها، صارت ضيقة وساكنة. في هذه الليلة وقف على رجليه بجهد جهيد. تحامل حتى دخل الحمام وتوضأ. وغاب كثيرا بين أوراق ( فوتو كوبيه), وأخرى بخط يده. نداج لم تسأله ماذا يصنع؟ تعرف أنها لو سألت ما أجابها. لكنها خمنت أنه يريد الصلاة. كان قمر السماء بدرا ترافقه بعض سحب. وشباك (البلكونة) المفتوح جعل الصالة منيرة رغم لمبة الكهرباء المطفأة. ولما فرد سجادة الصلاة، تركته ولزمت ( البلكونة). نحو نصف ساعة وخرج إليها بالهاتف. جلس على الكرسي الذي يقابلها ووضع الهاتف على الطاولة أمامه، وقبل أن تتحدث رن جرس الهاتف. نظر إلى الشاشة وأشار لها؛ فردت وفتحت ال( إسبيكر), وضغطت على زر تسجيل المكالمة. كان نائب نادي الأصدقاء يجلس مع مسيو أماس في البيت المقابل لحديقة القديس الميت. سأل عنه؛ فأخبرته بنومه قال أعرف أنه ليس كذلك. عموما، أخبريه أن يتوقف عما يفعل. ولو كانت لديه مشكلة نستطيع حلها. ولو احتاج أموالا، نضخ له في حسابه. أما إذا لم يتوقف؛ فهناك شيء اسمه السجن. قالت نداج: أنا لم أفهم شيء. قال: لا عليك، فقط أخبريه. ليلة سعيدة، وسرعان ما أغلق الخط. رمت نداج الهاتف أمامها على الطاولة وقد ردت إليها ملامحها. كانت تحدق في عينيه اللامعتين وسط عصابته الطبية وهي تقول: ماذا جرى؟ وما الذي صنعت؟ الرجل يتوسل. أنت توجع قلبي. رغم ما أنت فيه، استطعت أن تخيفهم. ماذا صنعت؟. أوه ياربي. لماذا لا تتكلم؟ قال: صدقيني لا أعرف بالضبط. قالت بل تعرف وتبغي الصمت. تذكر حين رأينا كلبا بيد صاحبته يقترب منا ونحن بالشارع. قلت لي وقتها هل تريدي أن يبتعد. قلت نعم. حدثته بكلمات سريعة فسمع منك وابتعد. ولما صحبتني لل ( ديسكو)، وجلسنا بالطاولة الأخيرة. كنت كلما نظرت لأحد وطالت نظرتك، صارت له مصيبة. لازلت أذكر الرجل السنغالي. ما كان يعرفك وقتها. وسمعته بأذني وهو يطلب منك أن ترحل ويقول في الأخير: شيوخك يحرسونك. قل لي ماذا صنعت لمسيو أماس. في هذه اللحظة كادت نداج أن تجن. كانا يجلسان ببلكونة الشقة بالطابق الرابع آخر طابق بالبناية التي يسكنونها. في الأسفل تتدفق المياه في قناة ( جينول)، وفي الأعلي تكاثرت السحب حول البدر. وثمة نجمة تدور هناك فوق السحب في دوائر وقد جعلته مركزا لها. لقد صرخت نداج وهي تقول: أوه ياربي. ما هذا؟ ما هذا؟ بينما نهض ونزل بجذعه خارج سور البلكونة ورأسه للأعلى. كان مذهولا وما وسعته العبارة. ولما هدأ باطنه وسكن، قال بصوت مسموع: نعم، إنها هي، إنها هي. سألته : وما هي؟ قال وهو يحضنها من رأسها: دائرة الشيخ. سألت: أي شيخ؟ قال: سوف أشرح لك من بعد. لكن هيا ندخل الآن فقد تعب رأسي وأريد أن أتمدد.
***
أم أرتور تعبت من الاتصال بزوجة رئيس شرطة المدينة. منذ أخبرتها نداج بما صار، وباتت تفكر فيما يمكن أن تصنعه. صحيح أنها لا تحب الرجال، لكن هذا الرجل يمثل لها حالة خاصة. لقد خانها الدمع حين رأته بالعصابة الطبية. وتعجبت من إلحاح المحقق وثباته. كان يريد منه أن يدله على الجناة. وكم فتح له الطريق بحديثه الآسر حتى يتكلم. لكنه أنكر معرفته بأحد. وما ذكر رأس الأفعى من قريب أو بعيد. أم أرتور تنفر وتتبرم وتعاود الاتصال. وكلما أجابها أحدهم تحدثت في أي أمر إلا ما اتصلت من أجله. غدا السبت وتخشى أن تقع كارثة. ودون تفكير نزلت وركبت سيارتها، وذهبت ل (ڤيلا) رئيس الشرطة. أفسح الحرس مكانا للسيارة، وصحبها أحدهم حتى الباب. وهي تصعد الدرج لاحظت أن ثمة هدوء ثقيل يكتنف المكان. صحيح أن الحزب لا يحكم، إلا أنه ثكنة لطرح رؤية بديلة في نزل الجنرال الاشتراكي. منذ غاب رئيسه السابق وظهر فرنسوا هولاند، والحزب أشبه بخلية نحل في كل دوائر الدولة . إنه يجهز للفوز بالأكثرية النيابية حتي يشكل الحكومة، ومن ثم رئيس البلاد. في الطابق العلوي كانت تنتظرها صديقتها ( سوغولين أبي لار). إمرأة طويلة وشفافة وجميلة، لكن وجهها الأبيض الرقراق يعتصر حزنا. تعانقت المرأتان وتحركتا بشكل آلي للصالون، ولما سألت أم أرتور عن الخطب، قالت سوغولين: لقد طلقني. أم أرتور ضحكت بعصبية وفي عينيها جنون. كانت تضع ساقا على ساق. ولما توترت أمسكت رجلها اليمني بيدها ولم تتركها حتى لفتها على اليسري. هذا دأبها مع بوادر القلق. تبدو كمن لفت يمناها على يسراها مرتين. قالت: بعد كل هذا العمر وأربعة شباب! قالت سوغولين: نعم بعد كل هذا العمر. هذه ليست المرة الأولى على كل حال. لما تزوجته كان ( اكس بايرن). طلق من قبلي بولد وبنت. قالت أم أرتور: تبا لمبادئ العمال المبتذلة. لن تنجح فكرة تنتقص من حق المرأة. أين الأدب الاشتراكي والدعوة للطبيعة الأم. هؤلاء الرجال يسيئون للبشرية. يسرقونها. يأخذونها لمنعطف خطير. لا يفهمون في غير الإقصاء والاغتيال و الحرب. لابد من قلب السلم. لابد من وصول المرأة لسدة الحكم. قالت سوغولين: أنت حالمة. لولا لوثة الفن عندك، لما صدقت ما يتردد في أروقة الحزب. ولا صدقت كل الأحزاب. هل تسمعين ( ماري لوبان) , و( روبرت أو). و ( ساركوزي)، و( هولاند)؟ هل تجدين فرقا في الخطاب؟ اليمين واليسار، واليمين المتطرف واليسار المتطرف، كلهم يريد أن يطيح بمبادئ الجمهورية. دعينا من سخافات الشعارات. هذا المجتمع بحاجة لإعادة هيكلة. قالت أم أرتور: وانا أبحث عنك في سياق الهيكلة. أعرف رجلا شرقيا من جمعية أصدقاء ( رينيه جينو). أعرفه منذ سنوات، واعرف ما يكابد ويعاني من التنمر والاضطهاد. وهو الآن في خطر. ضحكت سوغولين ضحكة شاحبة وقالت: هل غيرت نشاطك؟ لقد صرت الآن مطلقة. هيا نعمل جمعية لأصدقاء المطلقات. وتحملين هم رجل مسلم!. أنت مجنونة. أما يكفيك ما صار من جرائم بايدي هؤلاء ؟ قالت أم أرتور: خلي الأفكار جانبا الآن. هذا ليس (اسلامست). قلت لك ( سوفزم). وقلت لك أيضا أنه في خطر. ما الذي يمكن أن تصنعيه؟ قالت سوغولين: صديقتك (نتالي) صارت بوذية. أخشى أن تتحولي أنت أيضا وتصيري صوفية. قالت أم أرتور: ألا ليتني أستطيع. لا تخافي، فلهؤلاء من الطقوس ما لا أقوى عليه. سالتها: هل يهمك أمره حقا؟ قالت نعم. سألت: هل تضمنينه؟ قالت نعم. قالت إذن: هاتي بياناته ولا تقلقي.
***
بعد عصر السبت، طرق بابه إنسان تبدو عليه سيماء المهابة. نداج كانت وقتها بالخارج. وبعدما نظر إليه وسمع كلامه راح يضحك ويقول: لابد أنك تمزح. قال أبدا. قال يا سيدي أنت الآن بالطابق الرابع. جئت تشتكي من تفويت ماء بالحمام. وتقول أنك جاري بالطابق الثاني!!. أكيد تقصد الثالث. قال: الثالث والثاني. تعال معي لترى. أغلق بابه بالمفتاح ونزل يعاين الضرر. فتح الرجل باب شقة الثالث. مكان مهجور كأنه مستودع للكتب. أشعل الإضاءة ودخل أمامه من مسار ضيق إل الكلوار واقدامهم تترك أثرا على غبار الأرضية. وخيوط العناكب علقت بملابسهم حتي وصلا الحمام.
وهناك، رأى رشح خفيف لا يدري مصدره. لقد نسي شكاية الرجل وذهب يمسح الغبار عن الكتب ويسأل عنها. قال وهو يستعد لإغلاق الشقة: أنا أستاذ بجامعة أكسفورد. لا أعيش هنا. وهذه مكتبتي. ولما أغلق الباب، نزل ودخل شقة الطابق الثاني، ليري ذات الرشح الخفيف الذي لا يدري مصدره .في الأخير وعد الرجل أن يجلب سباكا ويجري صيانة للحمام. لم يستغرق الأمر أكثر من نصف ساعة. قال في سره وهو يرتدي ملابسه أمام المرآة: هذه بداية جيدة. لقد خلع العصابة الطبيعية اليوم. لم ينتظر حتى الأسبوع الثالث كما أوصى الطبيب. وثمة جروح في جلدة رأسه لم تلتئم، لكن ال ( كاب) الأبيض يغطيها. وبعدما دس أشياءه في معطفه وأغلقه، اطمأن لوجود صورة الدائرة بين أوراقه الثبوتية وقبل نداج بعدما أصر على عدم اصطحابها وخرج. لقد بلغت السادسة. النشاط يبدأ بعد ساعة ولمدة أربعة، والمسافة بالمترو لا تحتاج أكثر من ثلثي الساعة. جاء المترو الذي سوف يستقله ست محطات ليعبر إلى غيره. لم يكن أي ازدحام. وجلس في الكرسي الذي بفضله. ذاك القلاب المجاور للباب الذي لا يفتح. في المحطة التالية جلست على الكرسي الذي يجاوره راهبة بسبحة كبيرة في يدها. كان يضع ساقا على ساق ويقرا في كتاب له خرج لتوه من المطبعة، وسرعان ما تحشم واعتدل. عينا الراهبة راحت لكتابه. اقتربت برأسها أكثر وسألت: أي لغة هذه ؟ قال العربية. قالت حروفها أفضل من حروفنا. حروفنا مصممة. لكن هذه الحروف تدب فيها الحياة. قال لم أفهم؟ ابتسمت وأخذت القلم من بين أصابعه. ذهبت تشير على الحروف التي تنزل عن السطر، كالراء والواو، وتلك التي تصعد عنه كالألف واللام والكاف. ثم سألته: هل فهمت؟,هذه حروف تتنفس. قال، نعم، شكرا لك. ولما جاءت محطته شكرها وأهداها الكتاب وعبر إلى المترو الآخر الذي سوف يستقله أربع محطات ويحمل هم ازدحامه. ولما جاء كان كسابقه. وجلس في المكان ذاته، ولما أخرج من حقيبته تلك المعلومات التي جمعها عن البرق بخط يده وأخذ يطالعها، سمع في الكرسي الخلفي تكبير ثلاثا. قال الله أكبر وترك الأوراق. راح ينظر لمصدر الصوت. وإذا بعائلة إفريقية في حشمة وعطر يبهج النفس. في طريقها لمطار ( شارل ديجول) لاستقبال واحدة عائدة من العمرة. لقد ظل ينظر إليهم حتى غاب المترو، ولما خرج من المحطة، شرب القهوة ودخن سيجارة قبل دخوله النادي. دخل على الإدارة، أخرج أوراقه الثبوتية، ولما تأكد الموظف من حجزه سلفا، أخذ منه عشرون ( يورو) رسم الدخول وفتح له الباب. الناس كثيرة وما قابل من يعرفه بعد. عليه دوما ذكر رقمه. فالموائد التي تتشكل بعد المحاضرة والإجابة على الاستفسارات، تضع كل عشرة على مائدة. هؤلاء العشرة يتعارفون بالضرورة. وقرعته دوما تخرج مع يهود عجائز. سمعوه مرة يتحدث عن موسى
واستملحوا حديثه. من وقتها يفتشون عنه ليسألوه. المبنى عبارة عن مدرج جامعي له بابان. واحد أمامي أساسي، وآخر صغير ضيق في أعلى المدرج. ثم لمح مسيو أماس يترجل هناك في البعيد. قفز وعبر حتى الطرقة، وانطلق يركض خلفه. لم ير غير ظهره. كان يقفز فوق الدرج خلفه. كل ثلاث درجات في خطوة واحدة. وقبل اللحاق به خرج واغلق الباب. صرخ يا الله واستدار يضحك. قال وهذه أيضا بداية جيدة. ثلاث ساعات ونصف ما عقل أي شيء . كان يبتسم ويسلم على الناس، وربما شارك بجملة أو أكثر، لكن رأسه ما كان حاضراً. كان يتأمل الليلة من أولها. وهجمت على باطنه نوبة أمان مفاجئة. تحرر في تلك اللحظة من خوف تغلغل داخله عدة سنوات. وما فارق تفكيره مسيو أماس. إنه حقا يريد أن يسلم عليه. أن ينظر في عينيه الزرقاوين من خلف نظارته الطبية، ليرى كيف أصبح؟. وفي اللحظة التي وصل فيها للباب خارجا رآه داخلا وبرفقته شاب بكفه عدة مفاتيح براقة. سلم عليه واطمئن عليه، وخرج فرحا كطير يطير.
***
مر الميلاد فى أول سنوات حكم ساركوزي وساء حال المسلمين بالمدينة. صارت ( فوبيا) تغذيها عجلة الصهيونية، بعد نشر صور مسيئة لنبي الاسلام بدعوى حرية الرأي. فالمسلمون من حيث التعداد يأتون بعد الكاثوليك، ومع ذلك كأن لا وجود لهم. والمدينة لا تعيش بمفردها وإنما مع العالم. وإذ انتشر الإرهاب المصنع في مدن الغرب ببلاد المسلمين، لصقته عجلات الصهيونية بهم، وقصرته عليهم. لقد حذر رئيس الوزراء الأسبق ( شارل باسكوا) قبل بداية الألفية من خطر الاسلام بالمدينة. قال مع العام 2030 سوف يصلون إلى ثلث السكان. ووصف عددهم الذي يزداد بالكارثة البيولوجية. ذلك لأنهم يحافظون على الأسرة وينجبون. ولولاهم لتناقص السكان بالمدينة. وجاراه الروائي ( دولبياك) برواية تستشرف وصول بطلها محمد عباس إلى قصر ال( إلزيه). رواية ضعيفة لكنها حصدت أرفع جائزة أدبية بالمدينة. ومنذ ذلك التاريخ والسياسة المناوئة للمسلمين على أشدها. الساسة يزورون المسجد الكبير في الانتخابات الرئاسية. والإصلاح الإداري لهذا القطاع من البشر مرهون بالانتخابات. تريد الحكومة جمعية واحدة للمسلمين، وهناك ثلاثة. وتريد صبغة ما للإسلام يرفضها الأغلبية. لقد وعدهم ( شيراك) بوزير منهم إذا نجح في دورته الثانية قبل سنوات ، ولما نجح وفى بالوعد. أما ( ساركوزي) الذي بنى لهم أربعة مساجد لما كان وزيرا للداخلية، فحقيقة الأمر أنه ضد وجودهم بالفعل. إذ صرح وقتها: لا يوجد مسلمون فرنسيون، وإنما مسلمون في فرنسا. وهو الآن أمام غضبهم على نبيهم، يبدو منسجما مع أفكاره. فحكومته هي التى تعرقل ما أسمته المجلس الأعلى للمسلمين. واعدت لائحة طويلة بأسماء ممنوعة لأطفالهم المولودين بالمدينة. وفي الوقت نفسه تغدق علي المثليين في الحقوق. تعامل الصديقان من جنس واحد معاملة الأسرة. وتقنن لهم أعمال السحاقة واللواطة. وتتكفل بالمأكل والمسكن والهاتف والكهرباء لو كانوا فقراء. مر الميلاد وباتت نداج ملازمة للمنزل. إن اسمها روسي ولا علاقة له بالمدينة. أبوها الذي أحب (لينين) هو الذي اختاره لها. لقد حصلت على إجازة من جامعة ( جرونابل) وجلست تعتني بزوجها. صارت ترافقه في الركض بالحديقة وعلى شاطئ القناة. وفي المتنزهات تقضي معه أوقات العطلة. وإذا جلس للبحث والدرس صارت محظيته. تعد القهوة بلا طلب، وتتناولها معه بإصرار. ويحلو لها كلام الحب إذا استغرقته الكتابة. نداج أقصر منه بنحو عشر سنتمترات. وجسدها روماني أصيل، لكنه لم يفلح في حثها على ترك شعرها الأشقر الناعم. لما راى خلسة شعر زميلة له يصل الأرض على ظهر المعهد ارتج كيانه. كانت قد تلفتت يمنة ويسرة، ولما ظنت أنها وحدها فكت شعرها ونزلت به إلى الأرض. لقد عرفها على نداج التي زاد وزنها لملازمة المنزل دون جدوى. وكلما ذكرها بها أشارت على رأسه الأجلح ولحيته وضحكت. وضعت فنجان القهوة إلى جواره وقفزت على حجره مثل قردة. كان يجلس يمين الكنبة ذات الصوفة البيضاء في الصالون. في المكان الذي لا يدرس أو يكتب في غيره. ولما أخذت رأسه في كفيها قالت: أنا مسرورة بعودة حيويتك. قال وهو يقبلها: أنت دليل الصحة النفسية. أم أرتور راهنت عليك. اتهمتني بالتوحش في غيابك. تقول أن استمداد الأهمية في الحياة من الذات أسطورة. وضعت يدها على فمه حتى لا يتكلم. إنها لا تريد أي سفسطة بهذا الوقت. ولما استجاب، قفزت واطفأت مصباح الكهرباء وأخذته من يده وهي تقول: لقد أعرضت عن تناول الحقنة. حملق في وجهها غير مصدق، ثم هصرها في حضنه وحملها إلى السرير.
***
المدينة الباردة تشعر بأشعة الشمس في أغسطس، وأغلب أهلها يسيحون بالعالم. في هذا الشهر تجد الأجانب يستمتعون بها في كل حدب وصوب. يدخلون (الأبرا), ويحضرون حفلات مسرح ال (ألمبيا), ويزورون المتاحف، والفقراء منهم يشترون الملابس من محلات ( تاتي) الرخيصة. وفي هذا الشهر أيضا يعود مسيو أماس للمدينة بعد غياب. إن لديه جيش من الموظفين في مجموعات ثلاث. الأولى تعني بالمدينة، والثانية بالقارة العجوز، والثالثة بالعالم. وبمجرد عودته راح يسوق للنبي ( ميمور) أحدث نسخة من الأنبياء التي يرسلها الاستعمار. ذاك النبي الذي بعث بقرية تل الربيع أو تل (أبيب) كما ينطقونها، واختفى هناك ليظهر من بعد في الأراضي الأمريكية. مولودة إبنة جزر القمر اتبعت دعوته. إنها فقيرة ولديها غلام اسمه ( باتريك) وبحاجة للمساعدة. أعطوها شقة جديدة بمساكن السفارة الأمريكية بالمدينة، وعمل نصف وقت. وبدأت تحافظ على حضور الصلوات في الكنيسة التي استأجروها. لقد حاول مساعدتها لكنها أصرت علي دينها الجديد. كان قد ذهب إليها في مسكنها القديم وخبر ذلك. من وقتها وهو يقصها حتى وصل إليها. أخذ يداعب غلامها كما يصنع كلما رآه. يحمله ويرفعه في الهواء ويتلقاه. والغلام يضحك ويطلب منه أن يكرر . لقد عرض عليها الزواج كما طلبت من قبل، لكنها رفضت. كانت تبدو متعجلة، حيث هناك من ينتظرها بالشارع. في هذا اليوم تبعها حتى عرف مكان الكنيسة. وبعد نحو أسبوعين انتظرها ودخل خلفها. هذه الجماعة تقيم شعائرها دوما مع غروب الشمس. والرجل الذي وعد بالكف عن التجريب، ترك زوجته الحامل وذهب يجرب. كأن ما يخشاه يحدث وحده وقت الضرورة. حين يجار عليه يقول في نفسه، أما قال: لو كان كذا لكان كذا؟ هو الآن على عتبات الكنيسة المأجورة. نحو تسع درجات وقبل الباب ضم عليه أربع شباب يتزحلقون على ( رولو). رؤوسهم حليقة إلا من خط طويل ومضمغ ومصبوغ بالأحمر. سأله أحدهم: إلى أين؟ قال لي صديقة دخلت حالا، ونست معي مفاتيح شقتها. كان يرتدي بنطلون ( جينز) أسود باهت، و( تي شيرت) رمادي، وحذاء رياضي. وفوق رأسه ( كاب) بني يخفي رأسه الحليق. سلموه لغيرهما بالداخل؛ فظلوا معه حتى وجدوها بين جمع غفير. ذكرها بدينها وأنه أغلى ما تملك. واكد لها أنها لو أرادت الخروج معه الآن، لكفل لها ذلك دون أدني أذى. لكن مولودة كانت تسمعه وتنظر للزبانية. ثم أخذت فرائصها ترتعد. في تلك الآونة، مر أحدهم من أمامه مثل خفاش ضخم له أنياب، وداس بالأسطوانة المعدنية لل (رولو) على أطراف أصابعه قبل دفعه للخروج. كان يتحرك أمامهم في الطرقة المؤدية للباب بظهره. وقد خرج ما يقول من السر إلى العلن. وخارج الباب، تمكنوا من حمله والإلقاء به في عرض الطريق. نهض يضحك ويتفقد جسده وملابسه. كان قرص الشمس الأحمر لازال في طرف الأفق لما راح يبحث عن أتوبيس لحي ( أنيير جانفيلييه). فقد دعته جمعية أصدقاء ( رينيه جينو) لحضرة صوفية هناك. تناول سيجارة من علبته ال ( لاكي سترايك) واشعلها وهو يمشي . شيخ من الهند يزور أتباعه بالمدينة، والحضرة بعد العشاء. كانت موافقته على الحضور مشروطة. في حال لم يعجبه الأمر ينصرف. إنه لم يحضر درس العلم ولا الوليمة. فقط صلى العشاء وجلس للحضرة في ( دبو) ڤيلا واسع. الجماعة التي تزيد عن المائة نهضوا للذكر كل في مكانه. لم يلتئموا في صفين ثم في دائرة مركزها الشيخ كما يعرف. ولما حمي الوطيس باتوا يفارقون إيقاع كف الشيخ. ثم غاب إيقاع الكف وظهر صوت الدف. ومع زعيق الصوت ارتفع تمايل الجمع وظهر التشنج والصراخ. الشيخ في واد والإنشاد في واد، وأحباب الشيخ في ثالث. وبعد ثلث ساعة بدأ يشم رائحة العرق. السقف واطئ. وصوت السماعات يرج القاعة الواسعة رجا. وظهر جلابيب أغلب أحباب الشيخ ينز عرقا. ولما شعر بقلة الأكسجين في أنفه، لم يخبر الأخ الذي اهتم به، وتسلل عبر غابة الأعمدة الأسمنتية وغاب.
***
مع بداية أبريل 2007 رأت نداج تغير المسكن. كانت تتابع حملها مع طبيب بضاحية ( سيرج بونطواز) خارج المدينة بنحو أربعين كيلومتر ، ومع اقتراب الوضع، رغبت في أن تقترب من المستشفى. ما كانت تحبذ أن يكون زواجها ( ميكسد), ولم تفكر أبدا في الإنجاب. ولما عرفته قاومت فكرة الزواج عامين. لكن الأمور الغريبة التي حدثت له وهي معه، جعلتها لا تتركه. ولما تزوجته رفضت الإنجاب عامين آخرين، ثم عادت وقبلت به. كانت تأخذ حقنة لمنع الحمل كل ستة أشهر. ومنذ لزمت المنزل، ظهرت أنوثتها التي تجور عليها، وانتابتها مشاعر الأمومة. وفي الجمعة الثانية من أبريل، أدركته الصلاة في مسجد السلام ب (سانت أنطوان). كانت أول مرة يأتي فيها إلى هذا المكان.. صلى ركعتين تحية المسجد، ولما جلس في الصف شعر بإعياء مفاجئ. كان ثمة رجل يمر بين الصفوف بالسقاء؛ فتناول منه وما ارتاح. ثم شعر أنه يختنق. فك أزرار قميصه وهو يقف ويتأهب للخروج من الباب. يرغب أن يكون في الهواء الطلق عله يتنفس بيسر. وبينما يتخطى الرقاب ويخرج، يجد فرشة لهؤلاء الذين يصلون في الخارج وعليها نفر يسير. جلس على آخر الفرشة وحافة الشارع وما اعتدل. نزل بجذعه وفرد ذراعيه وساقيه. كل ذلك والأعباء والاختناق والخوار في صعود. ثم غشي عليه وما عاد يشعر بشيء. بضع لحظات بيضاء سمع بعدها هاتف. صوت يأتي من بين زحام بعيد يقول: أيها العبد الصالح، الآن تموت. ويتبع جنازتك الملاك جبريل، ثم تحيا كما لم تحيا من قبل. وبمجرد سماع الهاتف شعر في جسمه المفرود بالموت. بدأ في خنصري رجليه وراح ينتشر في بقية الاصابع. يشعر به ولا يقول غير كلمة واحدة، الله. ثم يرتفع في عظام الساقين إلى الركبتين، وتتحول الكلمة في لسانه إلي صراخ. ولما وصل الموت صرته، شعر بريقه يجف ولسانه يتوقف. ظل يرددها في قلبه والموت يرتفع حتى وصل فروة رأسه. بضع لحظات بيضاء كالتي سبقت صوت الهاتف، وعادت الحياة للجسد المفرود في مسار عكسي لمسار الموت. وهنا تحرك جسده وفتح عينيه. وجد رأسه على ركبة شيخه صاحب الدائرة. لحيته ووجهه كأنما في دارة قمر. ولما تلاقت العيون، رأى بعض مفاتيح تصل كفه الأيمن من ميدالية في كف الشيخ. سأل ( مفاتيح إيه دي). قال مفاتيح الجنة. ترك المفاتيح وراح يمسك بكفه ليقبلها، لكنه قبض على الريح. في هذه الأثناء، كان المؤذن يقيم الصلاة. ولما عجز عن النهوض نصحه جاره بالصلاة جالسا. حاول جاهدا الأخذ بالعزيمة، ثم عاد واستسلم للرخصة.
***
لو ما كانت نداج بالمنزل للزمه شهرا عل الأقل.
هذا دأبه مع الاحداث الجسيمة. يحب أن يبقى بعيدا دون كلام حتى يتأملها. وهل مر بعمره أصعب من هذه؟ لقد مات بالفعل وعاد للحياة. كل الذين صلوا بالخارج شاهدوا ذلك. وبعد الصلاة تكالبوا عليه بالامتنان والأسئلة. من أنت؟ وما هذا الذي صار؟ ومع من كنت تتكلم؟ وهل هذه الحالة حدثت لك من قبل؟ كان رذاذ الكلام المتطاير منهم يثني عليه من الأرض للسماء. وما كان منه سوى الإستجابة لشابين منهم حتى يسندوه. أعصابه كانت هاربة، وكل مفاصل جسده كانت تؤلمه. وكلما خطا خطوة شعر بحركة الأعصاب في عظامه. كان ينقل للشابين الذين أصرا على مرافقته لبيته ذلك حتى يطمئنوا. ولما ذهب عنه ما كان فيه، أخذوا عنوانه، وارقام هواتفه وعادوا. لو ما كانت نداج بالمنزل للزمه شهرا على الأقل. لكن هيهات هيهات. عاد ليجدها ولدت طفلاً في جمال يوسف. حين حمله ونظر في وجهه أدهشه جماله؛ فقال يوسف. نظرت إليه نداج وهو يتمتم في أذنيه وقالت: يوسف. لابد أنك توشوشه ليصير صوفيا مثلك. لا بأس. لكن أخاف على حياته. أنت تعيش على كف عفريت. كانت في مخدعها ممدودة ومغطاة حتى رقبتها. وكان يجلس بالطفل على حافة السرير. ولما التفت إليها سألته: تذكر أين عرفتك؟ ضحك وقبل جبينها وقال نعم. قالت: في الحزب الشيوعي. عرفتك كاتبا يساريا. ولما حكيت لي قصة مجيئك للحزب وجدتها نكتة. قال وهو يمسح شعر لحيته في رقبتها كنت حديث عهد بالمدينة ولا أوراق لدي. قدمت دراسة للجامعة لأحصل على كارت طالب. الجامعة أخذت وقتها حتى وافقت. في تلك الفترة، ما كان بحافظتي سوي كارت المترو، وكنت أخشى ال ( بوليس).قلت وقتها هؤلاء لا يردون سائلا. ( كارت) حزب سياسى يخزي عين ال( بوليس). ولما ذهبت وجدتك الموظفة المسؤولة. أخذت يوسف من يده دون أن يبدي أي حركة. باستثناء الصراخ الذي أطلقه تو خروجه من رحم أمه، لم تبد منه أي حركة. حدقت في وجهه؛ فرات بعض شعرات بيض في حواجبه؟ أمسكتها وقالت: متى تم ذلك؟ سأل وهو يقبل خدها ماذا؟ قالت اذهب وانظر في المرآة؟ نظر وتحقق مما قالت ولما عاد سألته: كم صار عمرك؟ قال ثمانية وثلاثين. قالت: كم لنا منها؟ قال سبعة وأكثر. قالت: أول مرة أرى الشيب في حواجب أربعيني. قال هذا الشيب صار اليوم. وحمدا لله أن مرت بسلام. لكن لم أكن شيوعيا يوما نداج. صحيح أني مشيت في مظاهراتهم، لكن كنت موافقا على موقفهم في كل تظاهرة. ضد التنمر والاضطهاد والبربرية والعنصرية.
وذات مرة كنا أقل من أربعين في ميدان الجمهورية في مظاهرة ضد مذابح شارون في جنين ونشرت القناة الثانية الصور في نشرة الثامنة. ولما اتصلت أم أرتور واخبرتني أن هذه وحدها تطردك من المدينة، ما ذهبت من يومها إلى هناك. قالت: وحين أخبرتك أيضا بأن مسجد ( ستالنجراد) يحوي ال (إسلاميست) ابتعدت عنه قال: لكن انظري كيف صيرنا الزمن؟ افاقت كأنما من سبات عميق وهي تراقب يوسف، حملقت في وجهه بنعومة وعادت بعينين متوهجتين جاحظتين تقول: يا إلهي! أقسم أن ولدك أغرب منك؟ سألها وهو يداعبه: كيف؟ قالت لا أعرف؟ وزنه، هدوؤه، لمعة عينه. حمل يوسف وراح يتمشى بالحجرة ويرقيه. ضم المفرش حوله حتى لم يبق معرضا للهواء سوى دارة وجهه. بضع دقائق وجلس يتمدد ويقول: يوسف ضيف الله، وانا ولدت معه. ورزقنا مسكنا طيبا. وحبيبتي ظلت تلازمني. ما الذي ينقصني إذن؟
ثم شعرت نداج بسعادة غامرة بتناول الطفل ثديها وأشارت إليه، فقال فرحا: أسبوع ونذهب به للمسجد الكبير، ونمر به من بعد على الكنيسة. قالت وهي تتمسح في وجهه كقطة: كما صنعنا في الزواج. ولابد أن نولم بمناسبة تشريفه لكوكب الأرض. قال: أكيد، لكن كم مرة ذهبت للكنيسة في السنوات السبع الماضية؟ قالت: ثلاث مرات. قال وهو يقبل يوسف: وهذه الرابعة، لكن لماذا لاتتعهدين الصلاة؟. قالت وهي تضحك: أي صلاة؟ أما يكفي ما أكابد معك؟ أنت قسيس مسلم.







Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire

Remarque : Seul un membre de ce blog est autorisé à enregistrer un commentaire.