نص قراءتي النقدية التطبيقية في ديوان "نقش على الأمواج" للشاعر المغربي
مصطفى نجي وردي
تحت عنوان: لمّا يحاكي الحرف "اجترار" و "دحرجات" أمواج البحر و الحياة.
ديوان "نقش على الأمواج" مولود جديد للشاعر المغربي مصطفى نجي وردي عن مطبعة وراقة بلال. فاس/ المغرب 2020. الكتاب من الحجم المتوسط (103 صفحة)؛ يضم ثلاثين نصا شعريا. قام بالتصميم الفني و التقني الأستاذ محمد مهداوي.
1 ـ انطباع:
قبل البدء نقرأ نموذجا من نصوص هذا الديوان؛ قد يعطينا فكرة أولية تُقرّبنا و لو بشكل نسبي جدا من طريقة الكتابة الشعرية عند الشاعر مصطفى نجي وردي؛ أقترح هذه الفقرة من نص "همس البحر و الغياب (ص. 37)؛ نقرأ:
"البحر... ! هذا البحر
نافذة لتكسير الليالي
حين تشاغبني أمواجه..
أودّ أن أبتسم للمطر..
و أن أتدثر بنسيم الصباح
أن أشعر برذاذ البحر..
فينعش جسدي...
تلك هي حكايتي مع غيمة
تحملني إلى صمت
المداشر...
أحتمي بالموت الأزرق..."
و أنا أبحر بين جزر هذا الأرخبيل الشعري الرقراق، استحضرت تعبيرا مجازيا بليغا لعبد الغدامي يقول فيه:
" الكتابة ماء يجري على نهر القلم ويتدفق على لسان الكاتب قادماً من سحب اللغة ومزنها الدفاقة..."
وأنا أقول، و السياق هذا الديوان، إن الكتابة الشعرية عند مصطفى نجي وردي قد فاض بها النهر حتى عانقت البحر و "نقشت على أمواجه..."
تُرى البحر المقصود هنا هو البحر الشعري العربي كما أسّس له الخليل بن أحمد الفراهيدي؟ أم هو ذاك الخزان المائي المالح الذي تغري عظمته، و شساعته، و أعماقه، و أسراره، و جبروته، بعشق المغامرة كما " نافذة مفتوحة على الحلم. تتسع وتتسع حتى تلامس برزخ فرح طفولي بريئ، يقفز متخطيا العثرة الأزلية" (التعبير لزوليخا موساوي الأخضري)؟
من خلال فقرة النص النموذج الذي قرأناه أعلاه، يتضح جليا أن نصوص هذا الديوان لا تخضع لإكراهات التقعيد العروضي؛ لا يتعلق الأمر إذن بأحد بحور الخليل و لا حتى مجازا (قصائد الديوان ليست عمودية و لا تخضع لأوزانها). البحر في سياق كتابة مصطفى نجي وردي يشبه الشاعر لما "يلفظ ظلّه" من لوعة العشق؛ نقرأ (من نص "عشق يحترق" ص. 97):
"وجعي أنا..
و ظلمة الليل تتبع خطوي
تتلقّف ما نثرتُه
و ما تبقّى منّي
و من دمعي
و من ملوحة البحر...
سألفظ ظلي من ظلي
و من حائط ضلعي..."
جميل هذا الجناس المسكوت عنه بين "اللفظ" (ما يلفظه البحر) و "اللفظ" (ما يتلفظ به الشاعر من بنات أشعاره)، و كأننا (و المشترك "الظلال") نعيد قراءة مقولة مشهورة للشاعر الفرنسي فيكتور هوغو قال فيها: " كل صخرة هي حرف وكل بحيرة هي عبارة وكل مدينة هي وقفة، فوق كل مقطع وفوق كل صفحة لي هناك دائما شيء من ظلال السحب أو زبد البحر..."
غير أننا، و خلاف ما قد نصوغه من فرضيات قراءة من خلال هذا الانطباع الأولي، يستوقفنا طويلا عنوان الديوان ليكبح جموح كل حكم قيمة مُسبق قد يضع هذا الديوان في خانة الشعر الوجداني القائم على مناجاة البحر يشكو الفقد، و يُبدّد آمال العشق الجميل.
2 ـ مقامات و صوّر شعرية:
الصورة الخطية على واجهة غلاف الديوان هي الأكثر إثارة، و نقصد العنوان:
"نقش على الأمواج" جملة اسمية صحيحة من حيث التركيب النحوي (niveau morphosyntaxique )، لكن من الناحية الدلالية (Niveau sémantique) لا توجد علاقة دلالية منطقية بين مفردات الجملة، إذ لا يمكن النقش إلا على جماد صلب كالخشب و الصخر و المعادن، و ليس على سائل كما ماء الموج. من هنا يتجاوز القارئ البُعدين النحوي و الدلالي لمحاولة فهم هذا "الانزياح" بالاستعانة تارة ب "السيميائيات" التي تبحث عن علاقة ممكنة بين مكوّنات "العلامة" ("الدّال" و "المدلول") باعتبارها صورة رمزية بإيحاءات قد تقبل عدة تأويلات؛ و الاستعانة تارة أخرى بعلوم "البلاغة" لاستيعاب المعاني الثانية (Sens connotatifs) لفعل "النقش على الموج". هكذا توقفنا عند "شبه الجملة" المثيرة للتساؤل و التعليق المكونة للجزء الثاني من العنوان: "على الأمواج". الجار و المجرور في هذا السياق يخضع لتأويلات عدة من بينها:
أ ـ حرف جر "على" قد يحيل على "ظرفية" ("على" تعني "في": أي في الزمن (وقت مناجاة الأمواج)؛ نقرأ مِن نص " لستُ بشاعر" (ص. 60):
"على صوت قهوة الصباح أعلن
بأني صبّ ضعيف
و من ضعفي يبكي القمر
و يبكي البحر
فلا تغتالوا أحلام البحر و أحلام الطفولة...
حين يتعطل الملح
فلا تسأليني عن مساءاتي
كيف أقضي
و كيف يذوب القمر...؟ !
ب ـ حرف جر "على" قد يحيل على "الاستعلاء" ("على" تعني "فوق": أي لما يحاكي فعل "النقش" حركيّة الأمواج)؛ نقرأ من نص "قصيدة و لا بحر" (ص. 10):
" كنْ..
كوني المدّ و الجزر
و اصنعي من قصائدي قواربا
و سفنا...
و دمّري كل الزوابع
و المسافات...
و اسمعيني نبضا
يحرّك هواجسي و سواكني."
هي "صورة شعرية" عميقة يحاكي فيها اضطراب الوجدان حركيّة الأمواج؛ كثيرا ما لجأ إليها الشعراء عبر التاريخ لتقيّئ آهاتهم على الشطآن، نذكر على سبيل المثال لا الحصر ما جاء على لسان خليل مطران:
" شاكٍ على البحر اضطراب خواطري*** فيجيبني برياحه الهوجاء".
لا نعلم صدقا في سياق هذا الديوان إن كان "الجارّ" هو البحر، و "المجرور" هو الشاعر، لكن يُفاجأُ القارئ بأن صورة "الجارّ و المجرور" سريعا ما تتحوّل في مخيال الشاعر إلى صورة شعرية أعمق: إلى صورة "الاجترار" ـ و كأن لهذا الجناس دلالة غير منتظرة ـ (كما عنوان النص رقم 11 ص. 40 "من اجترار لاجترار"، و إلى صورة "الدحرجة" (كما عنوان النص رقم 26 ص. 89 "دحرجات"). صورتان شعريتان تنقلان القارئ من عالم المناجاة الرومانسي الوجداني إلى ملكوت شعري "عبثي"/ "سريالي"؛ صورة "الاجترار" (و الاجترار لغة هو "إعادة الكلام نفسه كلّ مرّة") توحي بذاك الإلحاح المُصرّ الذي يُدخِل الشاعر في دوامة فارغة كما في "دائرة خبيثة، و صورة "الدّحرجة"(و تعني لغويا "الاندفاع و الدّوران من الأعلى إلى الأسفل من درجة إلى أخرى...")، و توحي بحركيّة الأمواج التي تتصاعد و تتموج في دوراتها لتخرّ و تتلاشى و تتراجع و تنكسر... هي نفسها الحركات البهلوانية التي استوحاها الفنان التشكيلي العالمي "بيكاسو" من حلبات "السيرك" ( كما لوحته المشهورة عالميا "عائلة لاعبي السيرك المتجولين") ليعبّر عن عبثية الواقع و أبعاده السريالية... نقرأ من نص "دحرجات" ص. 89:
"تحملني الشمس بين كفّيها
كما بين فكّيها...
و أحملُني ضوءا
على أسارير الوجه
أرسمُ نجمة تضيئ...
تغرس الريح أنيابها في جسدي العاري
فتفتِكُ بي...
و تتسلّل بين أصابعي
قطرة ماء...
و دبيب...
تبلّل ما تبقّى من رمق
و تسيخ الذات العليلة
فتغازل العمر في صمت..."
هو الحرف عبر ربوع الديوان يمارس لعبة "النّقش"بأمر شاعر عاشق على مرايا من زجاج أمواج" عنوانها كما طبيعتها التجدّد بعد كل ارتطام، و بعد كلّ مدّ و جزر؛ حكمَتُها كما قال الفيلسوف الإغريقي هيراقليطس عن ماء النهر: " لا تستطيع وضع رجلك في نفس ماء النهر مرتين ، فإن الماء يتغير كما أنت تتغير..."
و رغم هذه الحركية الدؤوبة للأمواج التي يحاكيها الشاعر عبر "النقش على الأمواج"... حركيّة ينصاع لها الصخر في المخيال الشعبي، و كم حطّمت للشعراء قصورا من رمل بناها الخيال لمعشوقة تنعيها القوافي، و تنحت لها معاول الحرف تماثيل لتخليد قصائد أطلال سرمدية، فعلّقتها قصائد ديوان و دواوين،حتى أصبحت قطرة ماء من كل تلك البحار، كما أجاد التعبير عن ذلك مصطفى صادق الرافعي لمّا قال: " لطف الجمال صورة أخرى من عظمة الجمال, عرفت ذلك حينما أبصرت قطرة من الماء تلمع في غصن، فخيل إلي أن لها عظمة البحر لو صغر فعلق على ورقة..."
3 ـ سؤال:
و السؤال:
من تكون هذه الحبيبة التي قال فيها مصطفى نجي وردي في مقطع من قصيدته "دعيني و دعينا" (ص. 19)؟... نقرأ:
" دعينا نتوسّد الحلم
و نستدعي كلّ النغمات و كلّ ما فات
بالهمس و بكلّ اللغات...
فأنتِ حبيبتي الآن
و غيرك لا يملأ كوني
و لا يستبعد النسمات على سرير الصفحات".
هي الحبيبة ـ حبيبة الشاعر في القصيدة ـ من تكون؟
أهي الأنثى؟... قد يكتفي قارئ ديوان "نقش على الامواج" بكونها كذك و كأنه انتهى من مشاهدة قصة غرامية على شريط سينيمائي رومانسي (و "كفى المؤمنين شر القتال")، لكن القارئ المتمرّس سيلاحظ عبر ربوع هذا الديوان، و دواوين أخرى للشاعر المغربي مصطفى نجي وردي أن لا مواصفات محدّدة و قارة للحبيبة كما عند فطاحلة شعر "الحب العذري" (La lyrique amoureuse)؛ الحبيبة في القصيدة ليست دائما أنثى... هي الوطن في أكثر من قصيدة... و هي القضايا الجوهرية المصيرية كذلك في أكثر من ديوان (كما قضايا فلسطين و سوريا و العراق...)... الحبيبة في الديوان قبل أن تكون "أنثى"، هي الكون كله، تجربة مخاض: هي الحياة، هي غد لابد أجمل؛ يقول الشاعر مصطفى نجي وردي في مقطع من قصيدته "عبير"، ص. 45:
"حب.. و عش
و من أجمل الأشياء نقش...
فتعالي يا قمر الأوهام..
يا قمري... !
ننشر السلام
و نزرع الأمان
و نتقدم للأمام."
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire
Remarque : Seul un membre de ce blog est autorisé à enregistrer un commentaire.