samedi 31 juillet 2021

ترقب وصول (رواية) : الفصل الأخير //أحمد البحيري // مصر


بعد انتهاء المجلس طلبت فلورانس مقابلة الشيخ علي. كانت ليلة استثنائية بسوق المدينة القديم. أقيمت على شرف العميد محمود والشيخ علي، بعدما جنبا عائلتين من العبابدة إسالة المزيد من الدماء. جماعة من ( الدهابة)، نصب بعضهم على بعض. لم يشاهدهم أحد وهم يسرقون، وأدركوا سرهم وهم يتقاتلون. لقد قصوا أحجارا بها سلوك الذهب الخام تزن أحد عشر طنا. ظلت مكمورة بالشونة بضعة أشهر حتي حان وقت نقلها للتعامل معها. وحين ذهبوا بسيارات النقل للشونة ما وجدوا شيئا من الأحجار. وقتها اشتغل الرصاص وقتل خمسة أفراد. ولولا تدخل العميد محمود والشيخ علي، لكثرت ألسنة اللهب. لقد نحر مشايخ العائلتين خمس عجول فداء لصنيعهم. وأطعموا كل من قدم إليهم ومساكين المدينة. وبعد ختم القرآن أقام الأحباب الحضرة. وفي درس العلم راح الشيخ علي يتكلم عن الحب، حتى ود الأحباب أن لا ينتهي. راح يعدد صفات العباد الذين اختصهم الله بحبه. التوابون والمتطهرون والصابرون والشاكرون والمحسنون والمقسطون والمتقون والمتوكلون. وراح مع كل صفة ليصف بساطها وثمرتها وجزاءها عند الله. لقد كان يخاطب أفراد العائلتين المتقاتلين بشكل ضمني. وإخلاصه في دعوته جعل لكلامه اللين موضعا في كل من كان له قلب. وبعد انتهاء المجلس، استأذنت فلوراس في الجلوس بمفردها مع الشيخ. كانت محتشمة الثياب وقد غطت شعرها بإيشارب أسود. وعيناها الباسمتان الجميلتان ساكنتان، وبشرة وجهها الأبيض باهتة. سألها: أين ابتسامتك التي نتحاكى بها؟. نظرت للأرض مثل طفل بليد وصارت تقول: إني مريضة ولازلت أتردد علي سيمون بالمستشفى. داخلي يتمزق. أدخل في مقارنات ذهنية ليلية مع سيمون. كيف صارت وكيف صرت؟. كان يجب أن أكون شجاعة منذ البداية. كم صار لي أعرفك أيها الشيخ؟. سكت قليلا قبل أن يقول: هذا العام هو السابع. قالت: لم تعترض فيها مرة على سلوكي. وما طلبت مني أن أكون غير ما أريد. ورغم أنك تكره تناول ( البيره) في وجودك، ما لمتني أو عاتبتني مرة وأنا أصنع. وما سمعتني مرة أذكر الجنس وممارسته، إلا تركت المكان وابتعدت دون كلمة توبيخ واحدة. الحق أني لا أخلاقية وما ربحت جراء معرفتك أي شيء. أنت الذي تحملتني بأخلاقك وربحت مني. لو كنت شجاعة بما فيه الكفاية منذ بداية الرهان، ربما تفوقت على سيمون في الإفادة منك. إني مريضة ولم أتعاف بعد.صرت أفكر في معاني كلمات القران التي أسمعها مترجمة بعد سماعها بالعربية. ليس بوقت الجلسة فقط وإنما طيلة النهار. وكلما رتبت بعض الأفكار لنفسي، أقول كان يجب أن أفهم ذلك قبل أكثر من ثلاثين سنة. أشعر أن العمر دهمني دون جواب عن أسئلة المصير. لقد مللت حياة الاشتهاء والصخب. وكلما ابتعدت عنها ردني أحدهم إليها. أرى سيمون تنام في سريرها بعد عشر دقائق، وأحتاج ساعتين من التفكير والقلق. ثم رفعت رأسها ونظرت إليه وهي تقول: لكن هيئتك تخدع. إني أعرف زي رجال الدين الإسلامي. لكنك ترتدي ما تحب، وتضع كابا علي رأسك الأجلح. وتتمتع بقدر من الظرف والفكاهة، وتدخن وتناظر في أغلب العلوم والفنون. ولحيتك البيضاء لم أرها تستطيل إلا في الأدغال. لكن محاضرتك الليلة جعلتني أطلب لقاءك. لقد حصرت صفات من يحبهم الله وما وجدت في منها واحدة. وزفرت زفرة سألت معها الدموع.
نظر إليها الشيخ نظرة حادة وهو يقول: هذه كتلة ألم كبيرة من حياتك الماضية. هل تستطيعين الإحساس بها بكل وعيك؟ هنت واحمر وجهها الباهت ولاجت عيناها وهي تنظر إليه وتقول:: لا، لا، لا استطيع. قال: بل تستطيعين، حاولي وسوف نرى. ظلت تنظر إليه برهة متألمة ثم قالت: حسنا سوف أحاول. وبعد نحو ثلاث دقائق صرخت فلورانس صرخة مدوية. تنفس الشيخ معها الصعداء وأخذ يقول:: الآن حاولي تجاوز كتلة الألم تلك. نظرت إليه متسائلة وكيف ذلك؟. قال: بأن يكون إحساسك بجسدك كما كان قبل الصرخة. وبعد خمس دقائق أخرى قالت: ما عدت أشعر إلا بما كنت أشعر به قبل الحديث معك. قال الشيخ: هذا جيد، هذه بداية الخلاص. أمامك أقل من شهر. جلستان أو ثلاث عند سيمون وسوف تتخلصين من الألم نهائيا. ولا أرغب في الحديث عن سلوكك وأصدقائك. لقد صرت تعلمين كل شيء عن نفسك. قالت وهي تجفف دموعها وتمسح وجهها بمنديل ورقي: أرجو أن لا تسخر مني فيما أقول. منذ عرفتك وأنا أتابع أخبارك، نشاطك بالمدينة وغيباتك بالأدغال. ما كنت أفهم جيدا ما تصنعه، بل كنت أصفك بالعدمي الذي يبدد حياته حتي يأتيه الموت. حتى الحضرة ما كنت أحضرها إلا مع الأصدقاء الأوربيين. لا أنكر أني كنت أشعر بأريحية بعدها. أما الآن فقد تغيرت نظرتي تماما. فلو ما جنيت أنت ومن معك من الدنيا غير الهدوء والسكينة وحفظ الصحة والمزاج؛ فأنتم الرابحون حقا. قال الشيخ وهو يبتسم: والآن أين ضحكتك التي تنير وجهك؟. هل أخبرك سرا؟. أومأت إيجابا برأسها. قال وأنت حزينة يزيد عمرك عقدين أو ثلاثة. حاولت فلورانس الضحك وهي تنهض، لكن ضحكتها لم تكن صافية. كانت الساعة قد تجاوزت الواحدة صباحا، وكان الشيخ قد بلغه الإعياء. لقد اشتعل طيلة الليل مثل قنديل حتى نفذ زيته. ولما سلم على أصحاب الدعوة وودع أحبابه، ركب فارس معه السيارة ومضى. في الشقة دخل غرفته مباشرة وتمدد. جسده ممزق كل عضو منه في جهة، وذهنه المتقد يعرض أحداث الليلة أمام عينيه الغافيتين. لقد رأى كل الوجوه التى التقاها وسمع كل ما قالت، غير أنه لا يذكر مثل عادته ما قال وبخاصة في مجلس العلم. الوجوه تتوارد بترتيب حضورها. مثل جهاز التسجيل والعرض. وإذ يرى الطبيبان والممرضتان وفي أيديهم الأقلام، يهمس في سره حسنا يصنعون. ففي مجلس العلم لا يحضر الشيخ درسا ليقوله. لقد اعتاد هذه العادة منذ جلس إلى الناس. يقف على باب الفتوح ويسأل الله المدد. ولسان الحال يتغير بتغير من يناوله. هي أرواح ملائكة وأزاهير أنبياء وأولياء. والعبرة في إشراق الروح وتحمل الجسد. يشهق الشيخ في تمدده ويقول في قلبه: اللهم ارزقني جسما هينا لينا لطاعتك. يشد الأعصاب في الجسد المتعب، ويطقطق أصابع قدميه بحركة يتقنها. الشريط لم يتوقف عن العرض ولا شيء يستحق الوقوف أو التقديم أو التأخير. وحدها صورة فلورانس بين أصدقائها الذين يزيدون يوما بعد يوم. ثم يفجعه وجهها الباكي. إن أكثر مايزعجه دموع النساء. لو رأى امرأة تبكي أعرض عنها بوجهه أو أغمض عينيه. يقارن بين صورتي فلورانس ويهمس في سره: قاتل الله الألم. ومن ثم يدعو لكل هؤلاء الذين يتألمون. ومن أحداث الليلة إلى أحداث الأعوام السبعة. لقد صارت كل عمره المنقضي، كأنه ولد بتلك الصحراء. كم عاني من الأخطار بتلك المدة، ويشكر ربه لدوام الإمداد. كانت نيته وقت خروجه من قريته الهجرة. ترك الأولاد ومسقط رأسه وارتحل دون عتاد. ما حمل من المال سوى مؤنة شهر وبعد سبعة أعوام لازالت لم تنفذ. وتجرده أعطى ثماره قبل بلوغ الأسبوع. الناس تحبك لو ما نظرت الى ما لديهم، والله يحبك لو طلبت ما لديه. والمتجرد لا يرغب في شيء من دنيا الناس. لقد علم أن دنياه لآخرته، وآخرته لربه؛ فعاش مع ربه بلا أين. كل ما يهمه التقرب لمطلوبه. كلما قرأ كتاب سيده عرض نفسه عليه. وعرف منه تكليف السيد للعبد. ثم يقول لنفسه: الناس جميعا تنهض بالتكليف، فأين القربى؟. ويوما بعد يوم، وعاما بعد عام، يطرق أبواب الخير حتى جاوز الستين بثلاثة أعوام. لقد صار الخير تجارته، وما عاد يشغله بلوغ الإمكان. وبعد نحو ساعة، تفاجأ الشيخ بدق علي الباب قطع عليه حبل تفكيره.. تفقد حاله وجلس في فراشه وفارس يدخل. نظر إليه صامتا وهو يخبره أن السليمانية بالصالون. كانت بالمدينة ومرت عليه لأمر هام. خرج الشيخ لأضيافه ولاحظ سريعا اتشاحهم السواد. المرأة الصالحة وزوجها والسائق. سلم عليهم مرحبا بعدما غادر جسمه الوهن.، وانتظر ما تقوله السيدة فإذا بها تسأله: هل تعلم القوى الروحية التى ترافقك؟. نظر إليها متسائلا: وما أهمية معرفة ذلك؟. قالت: تعال نطرق الأمر من بدايته. هل كاشفت ملائكتك وقرينك؟. قال نعم. رأيت القرين بعد رؤية الملائكة. سألت: هل حاورتهم؟. قال: ليسوا جميعا، فقط الملكان الموكلان بكتابة الأعمال، والقرين. قالت: صف لي ما كان؟. قال: رأيت ملك اليمين أبيض الوجه باسما وحليقا، يرتدي عباءة بنية فاتحة. أما ملك الشمال فأسمر الوجه ولحيته كثة غير مرتبة، وعلى وجهه نظارة طبية. ويرتدي بنطلون أزرق غامق وقميص أزرق فاتح. لقد حاولت معه المزاح من هيئته الجادة، فما ابتسم غير ملك اليمين. أما القرين فقد رأيته علي هيئة صديق اسمه علي محجوب، وكم كنت أنهره ليبتعد. وبعد طول شجار وكلام عن الحقوق، رسمت حولي دائرة تشبه مدار الساقية، وطلبت منه أن يبقى خارجها. قالت السليمانية: حسنا، القوى الروحية التى ترافقك شديدة. لقد زرت المستشفى بعض مرات وتأكدت من ذلك. إني أعلم طريقة تمكنك من معرفة تلك القوى. حزب لا تحتاج قراءته أكثر من ساعة. يبدأ بقراءة سورة الجن والعهود السليمانية سبع مرات. ابتسم الشيخ وهو يقول: لو علم الأدنى ما عليه الأعلى في أمر العقيدة لأنكر عليه. وشتان ما بيننا سيدتي. كما أن ما يصلح لسليمان ربما لا يصلح لموسى. قالت وهي تنظر إليه: ربما كنت محقا. وربما كان الوقت غير ملائما، فقد جئت لأعزيك. حوقل الشيخ وسأل: من؟. قالت: لقد انتقل نجيب قفط. وسوف يوارى الثري بقريته بعد صلاة الجمعة. جئت لأخبرك أنك من تحل محله بالكهف. قالت المرأة المبروكة وتركته بين حزن وفرح.




Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire

Remarque : Seul un membre de ce blog est autorisé à enregistrer un commentaire.