jeudi 8 juillet 2021

ترقب وصول ( رواية): الفصل التاسع // أحمد البحيري // مصر

 الفصل التاسع

بعد انتهاء الأشهر الحرم الثلاث المتصلة، زار الشيخ علي نجع وادي العلاقي. شيخ النجع دعاه بأحبابه، ونحر وأولم له بساحته. وبعد ختم القران وإقامة الحضرة، جاءت العجوز التي طلبت رؤيته. كانت واحدة من النسوة السبع اللواتي اعتنى بهن الشيخ قبل سنوات وأكبرهن سنا. والدة الرجل الذي ظل يموت خمسة أيام. وقد شج الشيخ رأسها وذراعها وقت المس الجماعي الذي سلطه المرجفون على النجع. امرأة تجاوزت التسعين وقعيدة. تجاعيد وجهها، وعيناها الضيقتان الغائرتان، تشهد بصلابتها. ورغم أن جوارحها وحواسها قد خفتت جميعها، إلا أن لسانها وسمعها يعملان بكفاءة عالية. قالت للشيخ: أنت فضحت ولدي. قال بل فضحه ربه. قالت فكيف وهو الستير؟. قال ليكون عبرة للشاهدين..قالت: أنت شججتني وأسلت دمي. قال: ومن الدواء ما يكون مرا. لكن كيف حالك الآن؟. قالت لازال للقبح في باطني موضعا. أحيانا يمنعني من الصلاة. وأرى في نومي أشياء مقززة. ابتعدت الآن قليلا وصرت أرى رؤيا واحدة لا تتغير. نظر إليها مبتسما وهو يقول: وما هي؟. قالت: منذ عاهدتك البعد عن السحر والنجامة، وهناك صوت يلازمني ويقول لي أن الله لن يغفر لك. قال هذا وسواس. قالت وما أراه ويتكرر هذه الأيام. أجدني دوما في جزيرة ووحيدة. الجزيرة تتحرك وتدور بي في البحر. وأنا أدعو ربي ليمحو ما كان مني. ولقد تعبت من الدعاء. وكلما نظرت لأعلى ما رأيت سماء. ثم يظهر عملاق لم أر له مثيلا. ويدفع جزيرتي التائهة فتلتصق بالساحل. قال مسرورا: لقد قبل الله التوبة، ولامجال لعودة الوسواس. لا مصلحة للمولى في تعذيبك مهما كان منك. التوبة تجب ما قبلها. أنت إنسانة جديدة. قالت نعم. أقول ذلك للنساء والأحفاد؛ فلا يصدقوني. قال وهو ينظر لشيخ النجع: وأنا وهذا الرجل الطيب نصدقك. قالت وهي باشة وتحرك ذراعاها كأنهما جناحان: يكفيني ذلك، يكفيني ذلك.
خرجت العجوز ودخلت امرأة دون الأربعين مع زوجها. كان الشيخ علي وشيخ النجع يجلسان في الحجرة التي لا تفتح إلا لأيهما. وإذا حضر شيخ الساحة أمسك شيخ النجع عن الكلام وقال: إذا حضر الماء بطل التيمم. جلست المرأة وزوجها في المربوعة، حيث توزعت (التكايات) القطنية على الأرض ولم تتكلم. ولما سألها الشيخ علي، نظرت لزوجها وهي تقول: أريد الشيخ على انفراد. خرج الجميع وانتقلت إلى جواره وراحت تنظر في الأرض وتتحدث بصوت خافت. قالت أنها ما عادت تطيق زوجها إذا اقترب منها. مجرد رائحة نفسه تثير في جوفها الغثيان. سأل الشيخ: منذ متى؟. قالت من أكثر من شهر. قال وتشاهدين خيالات ترعب في النوم. قالت نعم. سأل وهل فيها ما يتكرر؟. قالت نعم. سأل وما هذا؟. قالت لي أخ يؤدي الخدمة العسكرية. أراه عائدا بإجازته قبل كل أسرتي؛ فأسرع إليه وأحضنه ذاك الحضن الأخوي. لكنه بعد ذلك يتصرف كأنه زوجي. قال الشيخ: هذا شيطان تسلط عليك. يريد تخريب علاقتك بزوجك وأهلك ويقطعك له. هل تصلين؟. قالت الآن ما عدت أقدر. أحيانا اتوضأ ولا أقوى على الوقوف للصلاة. قال صلي جالسة. عموما هذه مشكلة صغيرة. لا تظني أنها لم تحدث إلا معك. عليك أولا أن تودين أسرتك، خصوصا هذا الشاب الذي يؤدي الخدمة العسكرية، لأنه الأقرب لك. رفعت وجهها المكدود وهي تقول: آي والله يا شيخ. قال ثم تعودين للصلاة والقرآن والذكر. قالت إن شاء الله. قال وسوف أقرأ لك آيات الرقية الشرعية الآن لمدة عشرين دقيقة. نادي الآن على زوجك. طلب الشيخ من المرأة أن تتربع في جلستها وتسند رأسها للحائط. وطلب من زوجها أن يمسك بخنصريها بكلتا يديه ويواجهها بالجلسة نفسها. و أشار بحروف على قدميها وكفيها وجبهتها. كتب تلك الحروف بقلم في يده دون أن يكتبها. ثم راح يقرأ القرآن في أذنها اليمني. عشر دقائق وراحت رأس المرأة تميل للأمام. ولما كادت تصل الأرض امسكها الشيخ بقوة وردها للخلف حتى كادت تصطدم بالحائط. وهنا آفاقت المرأة ولم يتوقف الشيخ عن القراءة. ولما انتهي قال للمرأة كما اتفقنا. وسوف أتابع مع زوجك وشيخ النجع.. كانت الساعة قد تجاوزت منتصف الليل، والساحة لم تهدأ بعد. هناك من يتوضأ أو يصلي، وهناك من يطبخ أو يأكل، وهناك من يبحث عن الشيخ. إنهم كانوا ينتظرونه. شيخ النجع أخبرهم بالزيارة قبل وقوعها بأسبوعين. المرأة التي تأخر حملها، والتي تبحث عن زوج والعانس، جاؤا يلتمسون البركة. والرجل الذي لم ينجب، ومن يرى أحلاما مفزعة، ومن سد باب رزقه، ومن لا يريد غير دعوة، كانوا يأخذون من الوقت أكثر من غيرهم. منذ زيارته الأولى للنجع، وللشيخ به أحبابا ومريدين. بل إن أحبابه بدؤوا من هنا قبل المدينة. منذ عاش بينهم سبعة أسابيع يعلمهم أنواع الغسل وكيفية الطهارة، وهم يشهدون له بالكرامة ويصبغون عليه ألوان التقديس. يسألونه عما يدور في نفوسهم. ويستفتونه في بعض أفعالهم وأعمالهم، وإذا قضي بينهم؛ فلا نزاع ولا نكوص. وفي الواحدة طلب الشيخ سيمون وفريق المستشفى. كانت كلما تحدثت معه بهذا الخصوص أجله. وفي هذه الأثناء وجد الوقت المناسب. لقد ابتعد عن الأمر أكثر من اللازم، ويرغب في مطالعة ثمرته. دخلت سيمون ومعها طبيبان شابان وثلاث ممرضات. وبعد السلام والتعارف، سأل الشيخ علي طبيب الأعصاب: ما نوعية المرضى اجمالا، وكيف يتم العلاج؟.
قال: لدينا اليوم مرضى ضغط نفسي وعصبي، ومدمني مخدرات، ومن جراء السحر والأرواح. أما العلاج فبطريقة واحدة، باستثناء بعض العقاقير. سأل الشيخ علي: كيف؟. قال الطبيب: المريض ينام على طاولة مجهزة لمدة ساعة. بها مؤشر يقيس ضغطه النفسي والعصبي. ومع استرخائه يسمع شعرا عربيا كلاسيكيا قديما كالمعلقات لمدة ربع ساعة. نراقب بعدها المؤشر. ثم يسمع تلاوة للقرآن الكريم بصوت الشيخ عبد الباسط عبد الصمد لمدة ثلاثة أرباع الساعة، ونراقب المؤشر. نظر الشيخ بوجه سيمون المشرق وهو يقول: الله عليكم. والنتيجة؟. قال الطبيب النفسي: النتيجة جيدة. بعد ثلاث جلسات ينخفض الضغط النفسي والعصبي للجميع، لكن بنسب متفاوتة. فالأوروبي لا يتأثر بالقرآن مثل العربي، ومع ذلك يتأثر. والعربي المتدين يتأثر أكثر من غير المتدين. سأل الشيخ علي: وماذا ينقصكم؟. ردت سيمون أنت. الحالات المرضية جراء الأرواح ضجيجها لا ينتهي. فارس ومن يجلبهم أحيانا يتعبون ولا يستطيعون. قال طبيب الأعصاب: التشنجات التي تضرب هؤلاء الناس أشبه بالصرع. لو استطعنا حقنه بالعقار توقف صراخه وضجيجه. إنها تشنجات صرع ونوبات جنون. قال الشيخ علي وهو يبتسم: ومن يستطيع ذلك؟. لكن كيف تميزون بين مريض الأرواح والمريض النفسي؟. قال الطبيب النفسي: الأعراض تتشابه لحد كبير، غير أن هناك فارق جوهري. ما يقوله مريض الأرواح له حقيقة بالخارج. أما ما يقوله المريض النفسي فحقيقته داخل رأسه. سأل الشيخ: وكيف تعرف هذا من ذاك؟ رد الطبيب: بالسؤال عن عرض ما. فلو قال مثلا أنه يرى بوابة حديدية تفتح وتغلق وحدها، أوقفته أمام بوابة المستشفي مثلا، وقلت له صف لي هذه البوابة. مريض النفس يصف لك البوابة التي يقف أمامها. أما مريض الأرواح فيصف لك بوابة مغايرة، غالبا ما تكون ضخمة وغاية في الارتفاع. سأل شيخ النجع: وهل للأرواح دخل في أمراض الجسد؟. رد الشيخ علي: نعم. في الطب القديم كانوا ينسبون المرض إجمالا للأرواح، الجسمي والنفسي. واليوم جعلوه أسبابا ومسببات. على أن الأرواح الشريرة تتسبب في خصال كالحقد والتكبر والحسد، تكون سببا للمرض. لذلك نقول يكفي المؤمن تمتعه بصحة جيدة لاعتداله، لو استثنينا الابتلاء. قال شيخ النجع: وما أهمية الأذكار والأوراد في حفظ صحة الإنسان؟. قالت سيمون: الأذكار والأوراد الراتبة تصل بالمرء إلى الرضا عن قضائه، مما يزيد من مناعته الداخلية. لأنها تقتل القوى السلبية التي سببتها الأرواح. إنها مثل ال ( أنتي بيوتك) في تعاملها مع القوى السلبية. قال الشيخ علي: وبزيادة تلك الأحزاب والأوراد تؤثر تشريحيا على خلايا أجهزة الإنسان الداخلية. هذا التأثير أقرب للتحور في الخلايا. فلو اهتدى مريض الكلي أو الرئة أو السرطان مثلا لذكر يناسبه لانتصر على المرض. سأل شيخ النجع: وكيف يهتدي لذكر يناسبه؟. قال الشيخ علي: بواسطة شيخ متحقق. قال الطبيب النفسي: لكن هناك حكماء متحققون ليسوا بمسلمين، أو مسلمين ولا يعرفون عن الشرع أي شيء. قال الشيخ علي: من وصل الى الله بشرع تحقق، ومن وصل بغير شرع تزندق. ومع ذلك يمكن الاستفادة من النوع الثاني في طب الجسم، أما طب النفس وعلاجات الأرواح فلا. ثم شكرهم جميعا، وخصوصا الممرضات العبابدة ، واشتكى قلة الوقت بقوله: الواجبات أكثر من الأوقات. وبعدما تأكد أن جهازه الطبي كله من أولاد الطريق، شكر الله ووعدهم بزيادة وقت المستشفى في الأيام القادمة.. وإبان صلاة الفجر، ظهر بالمسجد بدل خور الجوزاء. لم يندهش الشيخ علي لظهوره. فلطالما أبرق له وأرسل له الرسائل قبل أن يلتقيا. ومنها تلك المهمة التي أنجزها من سنوات وكانت سببا لبناء هذه الساحة. قدمه الشيخ علي للإمامة وبعد الصلاة ظلا معا بالمسجد حتى طلعت الشمس. كانا في مجلس علم لا ينقصه التسبيح. بل كانا يسبحان ويستدركان أو يسألان بين وقت وآخر. كأنه عتاب حاني لما صار وكان. لقد تجاوز الشيخ علي حادث الخطف وأيام الحبس والضيق. عزم على عدم الخوض فيه بعدما أدرك حكمته. لكن البدل ما جاء لغير الحديث فيه. وكلما استطرد رد عليه الشيخ علي بحديث أو آية. يغيب بعدها كل منهما في التسبيح. فالبدل يرى أن هذا الحادث عقابا، ويوافقه الشيخ. مثل إنسان مفتاح داره ضعيفا، أحيانا ينثني ويقضم في الباب. وفارس الذي لزم باب مسجد الساحة، يجد حوار الشيخين، كإنسان ونفسه. كلما سيطر عليها من جهة تفلتت من بقية الجهات. ولما طلعت الشمس واحمر الأفق قال الشيخ علي سوف أهون عليك الأمر. لقد قضيت عامين بمدرسة السيد أحمد البدوي، بين المسجد والمكتبة والمقام. هذا في أول تجردي للطريق. كنت أذهب يومين أسبوعيا، أصلي الظهر والعصر، وأقرأ الأوراد بالمقام. وأستأنس بقول الشيخ القاضي، شيخ الإمام عبد الحليم محمود: السيد البدوي حي يرزق في قبره يجلس ويستقبل زائريه. وعرفت أناس من السالكين من كل صنف بما فيهم أصحاب الخيش. وهؤلاء لا يعبدون الله إلا في ملابس من الخيش تجردا. وذات يوم وبعد صلاة الظهر ظهر بمحراب المقام شيخ يلبس أخضر في أخضر. بدت الناس تهابه، ولم أجد أي هيبة تجاهه. أغلقت المصحف على إصبعي وبقيت أراقبه دون أن ينتبه. لقد سلم عليه كثير من الشباب والرجال. إنه لا يسلم بيده وإنما بلحيته. أمسك بدل خور الجوزاء بلحيته وهو يقول كيف؟. قال الشيخ علي: يجلس الزائر أمامه جلسة التشهد، فيقترب الشيخ بلحيته، لحظة علي الكتف الأيمن، وأخرى على الأيسر. أما النساء فيجلسن علي مقربة منه ويتحدثن معه في أذنه. ثم فهمت أن المرأة التي باتت تتحدث معه مدرسة. جاءت مع زوجها، لتعزمه على الغداء ببيتها، كما رأت البارحة في الرؤيا. وإذ يعدهما ويرحلا انتقلت إليه. تحدثت معه عن طريقه وشيوخه. ولما سألته لم لا يسلم على الناس بيده غضب وتعكر وقال لي: ربنا يكفينا شرك. قالت أي شر أيها الشيخ: نظر بعينيه مفتوحتين على اتساعهما وهو يقول: يا ولدي، من يظلم نفسه، يظلم غيره ولا ينتبه. قال بدل خور الجوزاء وهو يتأهب للنهوض: عفا الله عنا وعنك. أوصيك ونفسي بتقوى الله. أستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه. وظل الشيخ علي يرافقه، حتى انطلقت السيارةال ( تيوتا) بسائقها العبادي.
انصرف وتد خور الجوزاء كما ظهر. لا موعد، ولا رسالة، ولا أثرا لضجيج. وبقي فارس الذي كان شاهد على كل ما دار بالليلة الطويلة، عطشانا لا يروي ظمأه. إنه يعرف عادات الشيخ علي الذي ترك المسجد إلى غرفته بالساحة. إنه لن ينام بعد كل هذا الجهد، إلا إذا صلى الظهر. ساعتا القيلولة ترد له حيويته. وطالما تناول فنجان قهوته بعد فطوره، فلابد أنه يقرأ أو يكتب شيئا. طرق فارس على الباب الموارب طرقات ثلاث خفيفة. ولما دخل عليه وجده يكتب كما ظنه. كان يجلس على كرسي مكتبه، وأشار لفارس؛ فجلس على الكرسي الذي يواجهه يمينا. خلع الشيخ نظارته ووضعها على الأوراق البيضاء أمامه وهو يقول خير يا فارس. بلع فارس ريقه وهو يحملق في وجهه ويقول: خير إن شاء الله. أعذرني سيدي، فربما لا أعرف كيف أسأل. لقد وعيت كل ما دار الليلة، سوى حوارك مع الشيخ الذي صلي بنا الفجر. كنت أشعر أنك تسد له المنافذ بالآية. وأراه يتسرب إليك من مسارب أخرى. حتى الذكر الذي كنت تقوله، لم أسمعه منك من قبل. والقصة التي سقتها له أيضا غاب عني معناها. ابتسم الشيخ وأخذ يقول: من كان على قدم نبي فلابد أن يكمل دورته. لا حيلة له في ذلك. والأنبياء درجات. ( فمنهم ظالم لنفسه، ومنهم مقتصد، ومنهم سابق بالخيرات). الوتد ابراهيمي أي مقتصد، ولا حيلة له في ذلك.. وشيخك موسوي أي ظالم لنفسه، ولا حيلة له في ذلك. هل يحتاج هذا البيان إلى تفصيل؟. قال فارس لا. وقمة الهرم_ القطب الغوث_ لابد أن يكون محمديا، أي سابق بالخيرات. قال له الشيخ: فتح الله لك. رد فارس: وزادكم من فضله سيدي. ثم حمل حاله وانصرف، تاركا الباب مواربا كما كان..




Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire

Remarque : Seul un membre de ce blog est autorisé à enregistrer un commentaire.