يتشكل القصد القرائي في هذا الموضوع »القصيدة القصيرة جدا.. وآفاق القراءة» من الفضاء العنواني، وذلك من خلال التعريف بنوع شعري يسعي إلي الانفلات من الجاهز المألوف إلي المجترح الصادم، في اشتراطات تمثلت بالتكثيف والتلميح والغنائية والإيقاع والإقفال والوحدة الموضوعية والمفارقة وغيرها. وعلاقته بأحد مكونات الظاهرة الأدبية (القارئ) الذي أضحي مؤثرا في النص (كاشفا للمجاهيل، ومتلذذا بها، وصانعا لدلالاتها). إذ تعمل اشتراطاتها على تحديد ذائقة المتلقي للوصول إلي مغامرة المعني الافتراضي، والابتهاج بتأويلاتها. وتطبيق ذلك بشكل إجرائي في مجموعات شعرية منتخبة، لا لكونها تمثل الأنموذج الأفضل في هذا النوع الشعري، وإنما لتمثيلها نتاجا مغايرا، مازال بعيدا عن الأنموذجات التي يتم انتخابها في الدراسات التي تتناول المغامرات الشعرية.
في عصر التسارعات، ومعطياته، وتداعياته، وإيقاعاته اللاهثة وراء المتغيرات، ولدت قيم ومفاهيم جديدة تحت وطأة اليأس والاغتراب، إذ انحرفت نسقية الواقع، فاحتاج الأديب أو الفنان إلي معايير وخصائص أدبية وفنية، لها سمات عصرها ليعبر عن الداخل الإنساني بكل مكنوناته: مخاوفه، ومعتقداته، وتأملاته، وأفراحه، وأحزانه، وأمنياته.. وغيرها. وتبعا لذلك فقد تغيرت المسارات الشعرية منذ النصف الثاني من القرن العشرين وإلي الآن. إذ حاولت الانزياحات النوعية تخطي كل ما هو سائد ونمطي، ومغادرة كل ما يقود إلي الاجترار والتكرار، من أجل »خلق هزة تؤدي إلي تغيير في شعور القارئ» (١) .
والقصيدة القصيرة جدا أحد الأنواع التحتية (sub-genr) التي استطاعت بما تمتلكه من مؤهلات بنائية، أن تعبر عن اللحظة التي يعيشها الإنسان، في مسايرة حركية الواقع ومتغيراته. إذ اتجهت نحو متغير جمالي، يفرض وعيا جديدا على النتاج الشعري بتقنياته الجديدة وأسسه الجمالية وخصائصه النوعية. فكان غاية في القصر، ينحاز إلي تقنيات الجملة، ويدفعها باتجاهات تتناسب ومعطيات المناخ الداخلي لهذا المتغير، المؤثث بالتكثيف اللغوي، واختزال المضمون، وخيبة أفق الانتظار، وهيمنة المفارقة، وانزياح المعني، والتداخل الاجناسي.. وغيرها.
بعيدا عن التسميات التي أطلقها النقاد علي القصيدة القصيرة جدا، من مثل القصيدة القصيرة، الومضة، التوقيعة، المقطعة، اللقطة، القصيدة الخاطرة، القصيدة النجوى، قصيدة التعريف، البورتريه الشعري، الأنقوشة، الهايكو، السونيتة، البرقية، التلكس... وغيرها. وبعيدا عن الرافضين لهذه القصيدة، والمتريثين بانتظار استقرارها، والمتحمسين لها، لو حاولنا تفكيك هذا الاسم الاصطلاحي (قصيدة قصيرة جدا) لوجدناه يتكون من ثلاث كلمات، تشير الأولى إلي نوع أدبي راسخ ومتميز من حيث تقنياته الجمالية، ودلالته النوعية (قصيدة)، وتشير الثانية والثالثة إلي مفهوم حجمي يأخذ بعين الاعتبار المكونات الفنية الجديدة (قصيرة جدا)، إذ تحملان دلالة كمية، ما يعني أنهما لاحقتان، وغير قادرتين علي إيجاد علاقات لغوية منطقية بينهما في سياق البحث الاصطلاحي للنوع الأدبي، إلا بارتباطهما بالكلمة الأولي، فيتآلفان معها، للوصول إلي تآلف اصطلاحي جديد، يشير إلي نوع شعري جديد، هو القصيدة القصيرة جدا، وهي » بنية مركزة ومكثفة ومضغوطة إلي حد الانفجار، وهي تخلو من الحشو خلوا تاما، لأن بنيتها لا تتحمله، ولذلك كانت الومضة ذات اقتصاد لغوي نادر ودلالات مختلفة ومؤجلة» (٢).
آفاق القراءة
إذا كانت فاعلية التلقي قد تجوهرت في آفاق التوقع التي يصنعها القارئ من خلال إمكانات القارئ المعرفية، وقدراته الذوقية، فإن تجسيد هذه الفاعلية يرتبط بالاستراتيجيات التي »تمكن القارئ من التعامل مع غير المعروف النص الجديد عن طريق المعروف » (٣). وهذا ما توحي به نظرية القراءة وجمالياتها في قراءة القصيدة القصيرة جدا ـ كغيرها من النصوص التي شوشت مسارات النقد الأدبي في تحديدها لمفهوم الأفق حين أكدت على » حقيقتين أساسيتين تفسران الكثير فيما يتعلق بالتلقي والتفكيك. الأولي انه لا يوجد أفق ثقافي مغلق وثابت، ثانيا هنا ربط واضح بين تكوين الأفق التاريخي والفردي» (٤)
وسواء أعطت هذه النظرية قيمة موضوعية للمعني الذي ينتجه القارئ عند تلقيه النص، أو إعادة كتابة النص، أو الإصرار علي استقلالية القارئ في التفسير والتأويل، فإن التفاعل المتبادل بين النص والقارئ يعتمد علي فكرة أن الأدب » لا يتكون من نوايا، بل من نصوص، وأن النص يتركب من كلمات، وليس من أشياء أو أفكار، وأن الظاهرة الأدبية لا تتحد بالعلاقة بين المؤلف والنص بل العلاقة بين النص والقارئ» (٥).
وإذا كان لكل عصر أفقه الجمالي، واشتراطاته الجريئة في كسر النمط النوعي، وخلق قطيعة مقترحة، فإن القصيدة القصيرة جدا أخذت - في الراهن الشعري بالتمظهر علي استحياء، ثم ما لبثت أن أسست لنفسها تقاليد متجددة يسير عليها كثير من الشعراء. وقد عدها القارئ أحد الأتواع التي اقترحتها تحولات الشعرية العربية، بوصفها لحظة جمالية، تكفل كلا من الاختزال اللغوي والتكثيف الدلالي، بقدرتها على أن تصل إلى القارئ، وتؤدي وظيفتها التواصلية، وهي تجتمع علي شكل شذرات في كتاب، فتصبح مجموعة من العناقيد المتألقة التي تجسد قيمتها في قوتها الإبداعية.
إن تحرّي القارئ في هذا الكم الهائل من النصوص الورقية أو الرقمية، أو السمعية، عن القصة القصيرة جدا، يعد اقتناصا لتلك الشذرات، التي تستنطق الذات في رعشة خاطفة كالبرق، تختصر مسافات متباعدة في لحظة من لحظات الانفعال، وهذا أمر بالغ الأهمية عند قارئ هذا النوع في تحوله الشعري، وذلك بسبب ضيق وقته وانشغالاته المكثفة والمتسارعة، مما جعله يفكر في اختيار أساليب كتابية مبتكرة تلبي حاجته دون استحواذ علي وقته كله. إذن هو لا يبحث في هذا التحرّي عن مألوف شعري، يراعي أفق انتظار القارئ عندما يستجيب لمعاييره الفنية والجمالية والأجناسية، وإنما عن تحول شعري قد يخيب توقعه ويفاجأ به؛ لأنه لم ينسجم مع القواعد التي يتسلح بها في قراءة السائد والقار.
ودون الخوض في جدلية القارئ والنص، والتأثير والتواصل، والنص بين قطبيه الفني المتعلق بالشاعر، والجمالي المتعلق بالقارئ، وأفق الانتظار وتخييب توقعات القارئ والمسافة الجمالية ، وملء البياضات والفراغات والبحث عن النص الغائب، والقدرة على التأويل....وغيرها. سنسعي إلي تطبيق آفاق القراءة، وجمالياتها في كشف اقتناص الجوهر، وإتقان الإلماح، والترمي، والمهارة الشعرية التي عملت على تخطي الواقع الشعري المتعارف عليه، وغادرته إلي حاضنات إبداعية جديدة، في أكثر من مجموعة شعرية، نهضت شعريتها علي تلك الاشتراطات التي ذكرناها، كي نحقق صحة ما ذهبنا إليه إجرائيا.
******
د.جاسم خلف إلياس / العراق
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire
Remarque : Seul un membre de ce blog est autorisé à enregistrer un commentaire.