نص قراءتي في قصيدة " صمت المعابد" للشاعرة اللبنانية أحلام الدردغاني
تحت عنوان: تشكيل الصورة من الملموس إلى التجريد
ذ. بوزيان موساوي. وجدة المغرب
تمهيد
كتب أحمد كريم بلال : في سياق الحداثة الشعرية يمكن رصد تيارين شعريين كبيرين، لكل منهما توجه إبداعي مستقل وروَّاد متميزون، وبين هذين التيارين تتراوح الإبداعات الشعرية قربا وبعدا، وهذان التياران هما: تيار التعبير و تيار التجريد.
و قد نتبنى إلى حين هذا الموقف و ندعمه بالتذكير بمسلمة معروفة مفادها كون الشاعر إبن بيئته سواء انخرط فيها أو رفضها، أو انعزل أو انسلخ أو قاطع أو تمرد... و تختلف و تتنوع و تتعدد أساليب تعبيره و بنى نصوصه حسب إملاءات ظروف محيطه و مدى انفعاله معها، و حسب مناعته الفكرية و الوجدانية و البدنية، و قدرته على التحمل و استيعاب الأحداث المتعلقة بحياته الخاصة و مجتمعه و مدى تأثره بها و تأثيره فيها.
فكلما كان عالم الشاعر بسيطا و مفهموما و مألوفا، و متناغما في استقراره و في أزماته، أبدع بأساليب نمطية لا تتجاوز الانطباعية و التعبيرية.. و كلما تعقدت تركيبة محيطه و مجتمعه و ساد الغموض و الإبهام، و تأثرت مناعته النفسية و الوجدانية و الفكرية و العقائدية... ، تكون ردة فعله بعنوان الجنوح و الجموح نحو عوالم اللامعقول و التجريد اللامفهوم كعالمه. تجريد يمثل أعلى درجة من درجات الغموض والإبهام،
و لنقترب أكثر من هذا الانتقال من الملموس بأساليبه التعبيرية الشعرية المتوارثة إلى أساليب التجريد بآليات مبتكرة للتوازي و التشبيه و التشخيص و المجاز و الاستعارة و الترميز، نقرأ هذا النص للشاعرة اللبنانية أحلام الدردغاني:
نص القصيدة:
صَمْتُ المَعابِدِ
الجُثْمَانُ مُسَجًى
أَضْواءُ الشُّموعِ الخَافِتَةِ
تَتَحَدَّثُ بأَلْسِنَةٍ
كَمَا الحَقيقَةُ...
عَبَثًا أَغْمَضْتُ عَيْنَيَّ
ألشَّمْعَةُ تَهْمِسُ لِي
أَنْتَ تَذُوْبُ مِثْلِي
تَذُوْبُ أَكْثَرَ
نَمَتِ الأَفْكَارُ فِيْ صَحْوَتِي
شَجَرَةً وَارِفَةً
لا زِلْتُ أَتَّقِدُ
أُسامِرُ غُرْبَتِي
أَذُوْبُ كائِنًا
تُطْفِئُهُ الدُّموعُ
تَنْفُثُ فِيْهِ الخُرافَةُ صَوْتَها
يُقَهْقِهُ .
1 ـ من الأسلوب التصويري إلى المأزق التعبيري:
1 ـ 1 ـ الأسلوب التصويري
نقرأ هذا المطلع:
صَمْتُ المَعابِدِ
الجُثْمَانُ مُسَجًى
أَضْواءُ الشُّموعِ الخَافِتَةِ
المكان: المفترض معبد، و الحدث صلاة / قداس غائب، و الغائب / الحاضر: جثمان مسجى، و للإنارة: شموع خافتة... ثلاثة أسطر اختزلت بمهارة فائقة و بحس شاعرة ما يسمى في الكتابة الدرامية المسرحية ـ مشهد العرض ـ scène d’exposition، و اختارت له الشاعرة أحلام الدردغاني حقلا معجميا و دلاليا ـ صمت ـ معابد ـ جثمان مسجى ـ أضواء خافتة ـ يضع القارئ في قلب مأساة... و الآتي في ما تبقى من القصيدة قد يكون بالنسبة إليه فادحا و خطيرا و مرعبا...
1 ـ 2 ـ المأزق التعبيري:
رغم سوداوية اللوحة في مطلع النص، لا يحس القارئ بغربة حقيقية في ثناياها لأن الشاعرة لم تخرج ظاهريا على الأقل عن المألوف و المتداول أفقيا .. قد تحيل بالنسبة إليه ـ رغم الانزياحات الأسلوبية البلاغية المسكوت عن أبعادها الخفية في صمت المعابد و الجثمان المسجى ـ إلى مشهد معتاد في الواقع اليومي، لكن سرعان ما يجد نفسه في مأزق حقيقي لما يقرأ الفقرة التي تلي:
أَضْواءُ الشُّموعِ الخَافِتَةِ
تَتَحَدَّثُ بأَلْسِنَةٍ
كَمَا الحَقيقَةُ...
الفاعل ـ مبتدأ الجملة ـ أضواء الشموع الخافتة، و الفعل المضارع المعبر عن حقيقة ـ تتحدث ـ، تشخيص بلاغي يضفي صفة العاقل على إسم من جماد... و ـ بألسنة ـ شبه جملة ـ استعارة ظاهرها يحيل مجازا على ألسنة تشبه ألسنة النار، و في خباياها لغات لا تعلم شفراتها إلا الشاعرة.
و قد يتفهم القارئ المهتم بانزياحات اللغة الشعرية هذا التأثيث الفني للنص بأساليب بلاغية ليست في كليتها غريبة على الذائقة العربية، لكن بإضافة تشبيه قدمت له أداة ـ كما ـ يتوه القارئ بين مشبه ـ أضواء الشموع الخافتة ـ و مشبه به ـ الحقيقة ـ و وجه شبه ـ تتحدث بألسنة ـ، قد تكون لغات كما أسلفنا، و قد تكون لهبا ليصبح وجه الشبه الممكن بين الشموع و الحقيقة ذاك القبس من النور ... و بما أنه باهت فقد يجعل القارئ الدارس للفلسفة يستحضر تلك الحقيقة الشاحبة التي تحدث عنها أفلاطون و التي ليست سوى انعكاس لحقيقة مجردة و مطلقة، لكن القارئ العادي المتذوق للشعر فقد يتساءل: أي علاقة منطقية بين أضواء شموع و الحقيقة؟ و أية لغة أو ألسنة مشتركة بينها؟... هذا ما يسميه الباحث صلاح فضل ـ المأزق التعبيري ـ و يقول عنه: هو مجرد انتقال من أفق إلى آخر. و قد يكون في الأفق الجديد ما لا تقبله الذائقة.... و كأن القصيدة لا تقول قولا، بقدر ما تشير إلى وضع مأساوي بلغته الذات أولا، و أرغمت اللغة على حمل أعبائه فراغا، و صمتا، و تجريدا.... عالم إبداعي تتخلى فيه العبارات عن حسيتها، كما سنقرأ في ما يلي:
2 ـ تخلي العبارات عن حسيتها للتعبير عن حقائق وجدانبية و فكرية مكنونة:
2 ـ 1 ـ نحو حقائق وجدانية مكنونة:
نقرأ:
عَبَثًا أَغْمَضْتُ عَيْنَيَّ
ألشَّمْعَةُ تَهْمِسُ لِي
أَنْتَ تَذُوْبُ مِثْلِي
تَذُوْبُ أَكْثَرَ
الجلي من خلال هذا المقطع كون وجه الشبه بين الشمعة و ال ـ أنت ـ هو الذوبان.. أن تذوب الشمعة فهي عملية حسية ـ حركية ملموسة يمكن ملاحظتها بالعين المجردة..، لكن أن يذوب ال ـ أنت / الإنسان ، و يذوب مثل الشمعة و أكثر، فهذا مأزق تعبيري جديد من ابتكار الشاعرة أحلام الدردغاني.. لقد قلبت هنا نمطية التشخيص البلاغي الذي عهدناه و الذي يضفي على الجماد خاصية العاقل/ الإنسان.. الصورة عكسية تماما، و كأن الإنسان هو الذي أصبح مشيئا..
و قد نذهب بعيد في تأويلنا بطرح فرضيات جديدة على شكل سؤالين سيبقيان معلقين:
ـ هل الذوبان في سياق هذا النص الشعري يحيل على تلك الصورة الرمزية للشمعة التي تحرق نفسها و تذوب لتنير غيرها؟ قمة الايثار و التضحية.
ـ أم أن من يذوب على أضواء تلك الشمعة أكثر هو ال ـ أنت ـ، أي ذاك ـ الجثمان المسجى كما في مطلع القصيدة؟ عنوان الموت البطيء و اللاعودة.
سواء قبلنا بالفرضية الأولى أو الثانية، ينتابنا شعور بأن الشاعرة أحلام الدردغاني أفرغت العبارات من حسيتها، أي من دلالتها على أشياء مادية ملموسة للتعبير عن حقائق وجدانية مكنونة قد تكون إفرازا أو انعكاسا للواقع الحقيقي للمجتمع الذي يشكل محيط الشاعرة.
2 ـ 2 ـ نحو حقائق فكرية مكنونة:
من الشعراء من يعطي العنان لمشاعره فيبدع في التعبير عن خبايا الوجدان، و منهم من له نظرة رؤيوية فكرية، و منهم من يوفق بين الرسالتين كما الشاعرة أحلام الدردغاني، نقرأ:
نَمَتِ الأَفْكَارُ فِيْ صَحْوَتِي
شَجَرَةً وَارِفَةً
لا زِلْتُ أَتَّقِدُ
أُسامِرُ غُرْبَتِي
أَذُوْبُ كائِنًا
تُطْفِئُهُ الدُّموعُ
تَنْفُثُ فِيْهِ الخُرافَةُ صَوْتَها
يُقَهْقِهُ .
قد يلاحظ القارئ العارف بآليات نظرية التلفظ أنه قبل هذا المقطع من القصيدة كان الفاعل في الجمل ـ الشموع ـ و ال ـ أنت ـ تتحدث ـ تذوب ـ، و أنه انطلاقا من هذا المقطع، تظهر الذات المتكلمة ت الأنا ـ صحوتي ـ لا زلت أتقد ـ غربتي ـ أذوب... و من غرائب التلاعب الفني بالضمائر تتحول ـ هي ـ الشموع ـ ، و ال ـ أنت ـ إلى ـ أنا ـ.... و كأننا نقرأ نصا شعريا من أدب العبث، تستخدم فيه الشاعرة ما يشبه ـ الكتابة الأتوماتكية ـ المعروفة عند رواد السريالية مثل أندري بروتون... و لا تتجلى هذه النظرة العبثية في تقنية اللعب بالضمائر فحسب، بل أيضا في اختيار الحقل المعجمي و الدلالي المبني على منطق ـ لا منطق ـ المفارقات مثل: صحوتي ـ غربتي ـ الخرافة ـ يقهقه...
و الغرائبي / العجائبي في منطق هذا المقطع الأخير من القصيدة هو كون الأفكار تنمو في الصحوة مثل شجرة وارفة ـ نلاحظ غياب أداة التشبيه في المقطع: نمت الأفكار... شجرة... ـ و يسمى التشبيه المؤكد بغية تأكيد المطابقة بين مشبه غير مادي ـ الأفكار ـ و المشبه له ـ شجرة ـ.و للشجرة كما للأفكار تشعباتها و ظلالها و متاهاتها و أسرارها...
و على طول النص، يمكن ملاحظة أمرين هامين:
أولهما التقلص المتزايد للأساليب التعبيرية، و التكاثر الواضح للأساليب التجريدية..
و الأمر الثاني يكمن في اعتماد حقل معجمي و دلالي بعناوين الغياب و الذوبان و الغربة و الدموع و القهقهة.
و هما أمران يلمحان ـ كما عبر عن ذلك أحد النقاد في سياق مشابه ـ لعنصر ـ التغريب لذات الشاعرة ـ التي تجد نفسها ربما في مواقف يصعب عليها إيجاد شيء من التجانس بينها و بين مبتغياتها. فهي ـ يضيف نفس الناقد ـ في خضم النفق الحياتي لا تجد متشبثا تتمسك به، فتنعم بقليل من التأمل و الرؤية الغارقة في الغياب..
و لكم اعزائي القراء قراءاتكم في هذا النص الشعري الجميل و المتميز للشاعرة الصديقة أحلام الدردغاني.
و معكم يتجدد اللقاء.
*****
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire
Remarque : Seul un membre de ce blog est autorisé à enregistrer un commentaire.