تمر الأيام سريعة كعهدها. وطقس الصحراء المتداخل يأتي بالفصول جميعها في يوم واحد. ولعل أجمل فصوله الشتاء خصوصا بالمدينة. فعلى الساحل تزدهر الحياة الصاخبة. أناس جاؤوا من كل العالم للمتعة. وقرى سياحية وضجيج ليل نهار. ينزل بها السائحون صيفا، وهؤلاء المقيمون طيلة العام. والعاملون بتلك القرى ينقلون أعاجيب الصحراء للزبائن. ترى من يقدم عرضا شيقا للأفاعي، أو عرضا لساحر أو للتنويم المغناطيسي، وأيضا من يعزف على آلات وترية بنغمة أشبه بمزمار الشيطان. لقد خرجت تلك النغمات من هذه القرى إلى قاطني الإقليم. استملحتها بطانة بعض المنشدين ووزعتها مع موسيقاها. وعبابدة الوديان يدقوها إذا سكروا في ليل بهيم. والبيطرية التشيكية التي غطت شعرها القصير تعد الأيام وتنتظر. لقد وصلت صديقتها صاحبة الشقة من بضع أسابيع. والشقة الجديدة التي استأجرتها للحاج علي تقابل شاطئ النيزك مباشرة. حررت عقدها من صورة رقمه القومي ولازالت تنتظره. إنها مقيمة بالمدينة منذ خمس سنوات ولها معارفها الأوروبيين والعرب. تعرف أحمد كوبرا صاحب أفضل عرض أفاع على كل الساحل. كما تعرف سحرة عجائز ومشعوذين وأصحاب حانات وباعة مخدرات. فبحكم تكوينها وشغلها تتعامل مع أرقى وأوضع أناس المدينة. لكن الرجل الذي بات شغلها الشاغل، لا تعرف حقيقة ما جذبها إليه بعد. وتسأل نفسها: تري أين هو الآن؟. حتى لو كان معه الهاتف، ربما كان خارج التغطية؟. وتهمس في نفسها: إنه يغتالك في رأسك. تتذكر كيف يهزها كل مرة حتى تشعر أنها لا تساوي قشة. يأخذها من مراد نفسها كل مرة إلى ما لا تعرف في رحاب المطلق. وكيف يواجه دوامة استدراكها كل مرة بالصمت؟. لقد كانت على مقربة من المحمية الطبيعية بوادي العلاقي وما زارتها. فقط خمسون كيلو مترا كانت بين النجع والمحمية. لكن الرجل الغريب الأطوار ذهب إلى هناك من أجل اللعنة لا من أجل المتعة. ربما لا يعرف ما بها من طيور مقيمة ومهاجرة، أو نباتات طبية وعطرية. وربما يعرف ويتحجج كما يفعل بقلة الوقت. ما الذي يتوجب أن تصنعه حتي تفهم. فلورانس صديقتها الفرنسية صارت تعرفه دون أن تراه. إنها زميلتها بمكتب الرفق بالحيوان التابع للاتحاد الأوروبي وتصغرها بعامين اثنين. وكلما فكرت في شدة اغترابه تاقت إلى لقائه. لقد شعرت بأريحية غريبة بشقتها حيث كان يقيم. الفئران التي كانت تظهر بالمطبخ ليلا والوزغ ما عاد له أي وجود. والقطط التي كانت تموء بحجرة القمامة أمام ( الكلوار) المفضي لشقتها ما عادت تراها. والفويسقة التي كانت تقلق نومها بصوتها المزعج ذهبت ولم تعد. ولما تذكرت أنه يتقن الفرنسية سر خاطرها. فكم همست لصديقتها بذلك. لكن مشاعر سيمون تجاهه لازالت مختلطة. إنها ذات كبيرة وتبدو أمامه مثل طفل ،كأنها إنسان بلا ماض خلق في التو. خمس عقود خلفها ولا تدري كيف مرت أو أين كانت؟. كيف ينمحي كل ذلك أمام هذا المخلوق؟. إنها سليلة الحضارة الأوروبية ال( ماستر)؛ فكيف يتفوق عليها؟. لقد تركها بالخريف وها قد انتصف الشتاء. ما الذي يمكن فعله لتطمئن عليه؟. تجلس مع فلورانس وترى البحر من باب ال( بلكونة). المفتوح. ثمة ريح تأتي من البحر، من اتقاها لا يحتاج الملابس الثقيلة. سيمون تراه أجود طقس العام. وأجمل ذكرياتها بمثل هذه الأيام. حيث تستجيب كلاب الشوارع لها أكثر. تبحث عن مأوى من الريح القادم من البحر. يشتد ضراوة في أول الليل عادة ؛ فتلوذ الكلاب بال ( البوكسات) الزجاجية التي وزعتها في المدينة. تأكل وتشرب من يدها ومن ثم تمشي معها للمعمل. وهؤلاء الوضعاء الذي ينتظرونها وهي تطعم الكلاب!!. لقد فكرت حقا ذات مرة في خصيهم. ولما بات بحوزتها أحدهم ووصل إلى المعمل تراجعت في الوقت المناسب. إنها تعوف الجنس منذ صغرها وفي الوقت ذاته تعتز بأنوثتها. ولولا قناعتها بفشل رابطة الزواج لتزوجت. أما غريزة الأمومة فهذا مالم تشعر به على الإطلاق. وفي هذا الطقس الجيد أيضا، تبدو المدينة خالية من قاطنيها. لا تدري أين يذهب كل هؤلاء الناس؟. تضحك في اضجاعها حين تتذكر ذاك المراهق البدين الذي أرادت خصيه. كان يغازلها بحركات جسدية خارجة أينما رآها؛ فتضحك وتستدرجه. ولما اصطحبته لشقتها وفرت له الخمر والحشيش حتى سكر وتكوم على الأرض. تطلب منه الذهاب للمطبخ فلا يقوى علي النهوض. عيناه الغائرتان مفتوحتان لآخرها ولا يرى. وثنيات جسده الأربع صارت خمس. وفخذاه المفرودان أمامه لا تستقران. فقط يفرد إحداها ويكسر الأخرى. ويداه يرسلهما كل لحظة في جهة. وبين وقت وآخر يسند رأسه بكفه كأنما يخاف أن يسقط. وكان يئن ويتحشرج كلما صنع حركة. غير أنها حين وصلت به المعمل تراجعت عن خصيه في اللحظة الأخيرة. وكأن ريح البحر الهادئ أنعشها ؛فخرجت مع صديقتها للسوق القديم. ابتاعت بعض ما ينقصها وملأت أربع زجاجات مياه من المحطة الخاصة. وبعدما أدارت سيارتها لمحت العم محمود دليل الجبل. كان يميل بجذعه للأمام علي عصاه وفي سيالة جلبابه المتسخ زجاجة (بيرة) يخشى أن تراها جيرته. صرخت باسمه وهي تسحب الفرامل؛ فارتجف. كان سكرانا وتحمله قدماه بالكاد؛ ويعد الخطوات المتبقية على البيت. عيناه الضيقتان حمراوان، وحاجباه الخفيفان الأبيضان واقفان، وكلما نطق بجملة مسح فمه بكم جلبابه. كان يجتهد كثيرا حتى يتفوه بكلمة من هنا وأخرى من هناك ولا معنى. صوته المبحوح المتحشرج جعل فلورانس تضحك. وكلما ازداد عجزه عن النطق لوى فمه وأعرض بوجهه ونظر في الأرض. سيمون تتوسل إليه لتستنطقه. وهو يزم شفتيه ويتكئ على طرف عينه كمن يقول ما باليد حيلة. وبعدما استفزها وعصبها، أدارت سيارتها ومضت. إنها لا تعرف أين تروح أو ماذا تصنع؟. دارت مع التقاطع حيث مسلة الميدان وانحدرت مع الطريق النازل للكورنيش. وكلما سألتها فلورانس عن وجهتها قلبت شفتها السفلى وأشاحت بلامبالاة. دارت يمينا بحكم الطريق وبعد نحو بضع كيلو مترات كانت على شاطئ النيزك. مرت من أول نقطة عبور بعدما تذكرت ( كافتيريا) الشاطئ. وكأن الإنسان إذا ترك على رسله انحاز لعادته. ينساق وراء الوجدان إلى أعذب الأماكن. قواه النفسية التي تركها هناك تناديه. ولما دخلت وسعت نحو الطاولة المنزوية، وجدت الحاج علي وفتاه هناك. المفاجأة شلت حركتها. وقفت مشدوهة تحملق في وجهه الشاخص لها، ويداها على طاولة أمامها فوق بعضهما. فلورانس سلمت عليه أولا وعرفت بنفسها. وظل فارس واقفا طالما يقف الحاج. بضع دقائق وعاد الدم يجري في ركبتي سيمون. لقد نهض إليها الرجل وأخذ بيدها. وجذب فارس كرسيين وباتت تجلس بمواجهته. معقودة اللسان كانت وتحملق فيه بشغف. لقد ازدادت بشرته سمرة، ونمت لحيته البيضاء وازداد شعثها. لتراه أكثر قسوة وتوحشا. وثمة قشعريرة شعرت معها بطنين في أذنها. كأن الأذن الوسطى توشك أن تنفجر. تسبب هذا الطنين في عدم سماعها ما يقول لفلورانس. وتلتقط بعض أحرف وكلمات. خليط لغات يثير شجن الإنسان. الشرق والغرب توأمان، ولدي كل منهما ما يحتاجه الآخر. والخير والشر توأمان، يحضر أحدهما في النفس إذا غاب الآخر. تبدو سيمون كمن وقع تحت تأثير الجذب. كل عضو فيها ينطق بالوله. غائبة وعيناها اللوزيتان المتسعتان تبحث عن مأوى. وتحاول استجماع نفسها. تهز ساقاها الطويلان تحت الطاولة. وبعدما شربت نصف زجاجة الماء الصغيرة، احتست جرعة كبيرة من قهوتها السوداء المرة ولاكتها في سقف حنكها. ولما استطعمت القهوة أحست بقرب اعتدال مزاجها. تضرب قدماها في بعضهما وهي تقول في نفسها: اللعنة، ما هذا يا سيمون!! وكأن الرجل كان يخاطرها. إذ قال وهو يضحك دون أن يوجه الكلام لأحد: لو انقطعت عن رؤية البشر لأسبوع، كيف ستغدو ملامحك؟. ورغم معرفتها أنه يخصها بالسؤال لم تفكر في إجابة، بل سألته أين كنت كل هذه المدة؟. وكيف عرفت أننا سوف نأتي وسبقتنا إلى هنا؟. قال وهو يضحك: لكن الحجاب جعلك أجمل، لابد أن شعرك قد استطال. فلورانس عادت لشقتها وصرت بالشارع. سارعت فلورانس وأخبرته عن الشقة الجديدة. قالت إنها على بعد أمتار من هنا. نظر لسيمون ممتنا وهو يقول: فقط أستريح وأحمل عنك عناء السؤال. بعد ليلتين التقوا على الطاولة ذاتها. فارس كان يقوم بدور ساعي البريد. سيمون كانت رابطة الجأش وهادئة. كانت ترتدي فستانا قطنيا أسود وحدة واحدة. والإيشارب الذي لفت به شعرها كان مسدولا على كتفيها بعناية. ونظارتها الطبية التي لا تغيب عن وجهها يلمع معدن إطارها رغم الإضاءة الهادئة. أما فلورانس التي بدت أجمل منها؛ فكانت أكثر حيوية وأقل تحفظا. روحها الخفيفة جعلت عاطفتها تميل إلى الفرح. وأجمل ما فيها وجهها الباسم الذي يظهر لمن يعرفها إذا رأته بأي وقت، مهما كانت حالتها. إنها تضفي على الصحبة دوما روحا من المرح. نظر الحاج علي لسيمون من فوق رأسها لتحت رجلها، كمن استلطف هيئتها. وراح يقول: لكن ما لا افهمه عدم زواجك بالمرة رغم الأنوثة البادية وهذا الجسد. هل أنت نرجسية؟. قالت: لا، ولا أحب أن أكون. أعرف جيدا ما يميزني، ولا أطيق من يلمس جسدي ولو بالخطأ. قال: أنت لست طبيعية. سألت: وهل أنت طبيعي؟. قال وهو يضحك : تجربتي صيرتني هكذا. وغريب الأطوار سالب وموجب. الكاهن والعارف غريبي أطوار.. سألت باستغراب ماذا تقصد؟. رد: أنت نفس سبعية، تحبين السفاري والمغامرات، ولا تشعرين بالأمان إلا على حافة الخطر. هتفت فلورانس : يا إلهي، وكيف عرفت؟. قال وهو ينظر لسيمون: نحن عشرة قديمة. سألت سيمون: وكيف تعلمني؟. رد : وما أعلمك؟. قالت: ما صنعته بالنجع؟. اشعل الرجل سيجارة وهو يقول: هذه الأشياء لا تعلم. هذه منح لا دخل للإنسان فيها. أما التعليم هنا فبالملاحظة. فقط نحرر العقل ونصحح الاعتقاد. قالت: وأرافقك في مهام الأدغال. قال: موافق. سألت فلورانس: أنتم مؤمنون؟. قالوا نعم. قالت أنا لست معكم. أنا (ألكوليك). ضحكوا جميعا كل على طريقته، كأن لا أحد غيرهم بال (كافيتريا). الليلة لم تنه وإن ضاق المكان. الحركة المستمرة والضجيج علا على صوت الموسيقي. وهؤلاء الأربعة الذين اعتادوا علي الطاولة المنزوية، يهمون بالانصراف. تركوا ال( الكافتيريا) وذهبوا رغم هبوب الريح إلى البحر. ابتعدت سيمون عن شاطئ النيزك وظلت تنظر علي الساحل حتي وجدت مكانا يناسبهم. طبقة من الحصى تسبق الرمل المشرب بالماء. لم تتخل فلورانس عن مرحها وقد سألت فجأة عن العم محمود. ضحكت سيمون وخمنت ما تريد صديقتها. إنها تحتاج إلى زجاجة (بيرة). لولا أنها طلبت منها أن لا تشربها أمام الحاج علي، لفتحتها وشربت. إنها تحملها معها في صندوق السيارة. رابطة بلاستيكية تسع أربع وعشرين زجاجة. ماركة (16-64) الفرنسية وإن عدمتها لا تشرب غيرها. وقبل أن يخبرها الحاج على أنه بالمدينة، طلبت من فارس أن يجلبه. وقف الفتى لما عرف اسمه في كلامها وانتظر الإذن. ولما أشار له الحاج عاد به بعد نصف ساعة. في تلك المدة كان العم علي يتحدث مع سيمون. كان يتكلم عن آفات العقل وخاصة التقليد. البشر لا يتأقلم مع الجديد بسهولة. التقليدي أشد عداءا للجديد. وقال: إذا كان معنى الفيزياء تحويل الكلام إلى معادلات رياضية. فمحاولتي تحويل المعرفة الروحية إلى قواعد ومعادلات. بما أن ، إذا. لو كان كذا لكان كذا. أسباب ومسببات، مقدمات ونتائج. قالت سيمون: رائع، وأنا أعينك في الجانب البيولوجي. قال: البيولوجي والتقني. قالت أي تقني؟. قال: نحتاج عدة أجهزة. واحد لقياس الأشعة المخصوصة بالهالات الروحية. وثان لقياس الضغط النفسي. وثالث لبث أشعار وقرآن. وما يستجد. قالت: أحاول، لكنك غير موجود أغلب الوقت. قال: الأمر ليس بيدي. غير أنه لي مع الله عادة. ما قطعت خطوة في طريق إلا أتمه. قالت: ثقتك هذه تعجبني. وتحملك للمخاطر والصعاب. تبدو كمن خبر الحياة جيدا، مثل شخصيات الأساطير. هل تعرف كافكا؟. قال: نعم، وهل كان من شخصيات الأساطير؟. قالت: بل ربما خبر الإنسان أفضل منهم.: كان ممرورا من تركيبته وسلوكه. كل الظروف كانت ضده. تشيكي يهودي يعيش بألمانيا في زمن ال (هولكوست). الألمان ينظرون إليه كيهودي، واليهود ينظرون إليه كألماني. كان حساسا جدا، ويشعر كأن الكون كله يراقبه. ومن تشاؤمه كان يري الإنسان مسخا. حتى كتاباته كانت شكوى. ما فكر يوما أن تنشر ويقرأها الناس. ولما مات وظهرت عرف الإنسان قيمتها وقيمته. هز الحاج علي رأسه موافقا. قالت: ونظرتك للإنسان تناقضه تماما. ترغب في قولبة فوائد روحية من أجله. تفكر في الوجود لا في العدم. تنحاز للنماء ومقاومة التصحر.. و هنا لاحت ضحكات فلورانس التي انزوت مع العم محمود. ونهض فارس وهما يقبلان. ولما
وقف الجميع وأطمأن كل منهم على الآخر، كانت نجوم الليل تغيب في الغيوم.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire
Remarque : Seul un membre de ce blog est autorisé à enregistrer un commentaire.