vendredi 25 juin 2021

ترقب وصول ( رواية) : الفصل الثامن // أحمد البحيري // مصر


بعد شهر من وجودها بالساحة هلت أنوارها وعمت البركات. كانت ساحتها آخر مبنى في المجاورة الثانية حسب التقسيم الإداري للقرية. تسبقها بضع ساحات يمينا، وإلى يسارها مباشرة الجبل. تتكون من طابقين، أرضي وبه الميضأة والمسجد، وعلوي وبه المطبخ والطاولات في نصفه الأمامي، وفي النصف الخلفي أربع غرف للنوم. وثمة فاصل لا يزيد عن المتر ونصف المتر بين الساحة والجبل يمتلئ برؤوس مئات الأغنام والماعز التي تم نحرها من ساحات المجاورة جميعا. أيبستها الشمس الحارقة، وجففت دماءها، وحرقت بعض الجلد الخفيف تحت الرقبة وحول العينين. لقد أولمت مبروكة منذ اليوم الأول. جاءت قبل الاحتفال بمولد الحاكم بأربعين يوما وبعد غيبة طالت واستطالت. وها قد بدأ ثاني الأشهر الحرم البارحة. لقد تبرمج الوقت من تلقاء نفسه. الصلاة، الأوراد، الطعام، ساعات النوم. أما الحجرات الأربعة، فواحدة للسائق الطباخ وزوجته، وواحدة لبناتها الثلاث وابنة السائق، والثالثة لزوجها، والرابعة لها. لمبروكة ثلاثة بنات، وما سألت الله الولد أبدا. مات لها ولدان بعد عام ونصف وعامين؛ فأدركت نصيبها ورضيت. وبعد هذا الشهر بالساحة، صار الأطفال الأربعة ينامون معها بالحجرة. السائق وزوجته وكذلك زوجها يهابونها، ولا يجرؤ أيهم على اقتحام أمر يخصها. لكن الأطفال صاروا يقولون إن حجرتها رطبة وباردة دون تكييف أو حتى مروحة. لقد اختبر الكبار كلام الأطفال، فوجدوه صحيحا. إنها زهرة وأينعت مع بدء شهر الحج الأكبر. عاشت بالمدينة المنورة خمسة وعشرين عاما وتعيش طقوس الحج بوعيها. كأنه الحج العقلي إذا تعذر الحج الشرعي. تتجذر في مواقيت الحج حتى كأنما تنجزه. وما تقاعست ساعة في أمر الحاج علي. لقد ضيفت كل من يمت له بصلة. والنقيب أشرف يرسل لها إن لاح أي جديد. وكلما حسبت حسبتها وجدت أن أشياء في الأفق لم تنضج بعد. وبثت الطمأنينة في نفس كل من يعرفه. كلما سأل أحدهم، قالت هو بخير، ولا يمنع حضوره سوى وقت يسير. وبرغم الأخبار السيئة التي تتوارد من الجهات كافة، يقينها أنه بخير. ففي آخر مكالمة مع النقيب أشرف أخبرها أن بلاغات القتل المقدمة للجهات المختصة في المدينة والقرية تتزايد. ومع تكثيف الجهود وتنسيق الأجهزة، يقيد أغلبها ضد مجهول. ولما سألت عن السبب في ذلك، قال السرقة. أغلب القتل بين ( الدهابه). عصابات كبيرة وصغيرة بها أناس من كل القطر يحكمهم عبابدة. يبددون حياتهم وثروتهم للتفتيش في هذه الجبال عن الذهب. نحن نصادر مركباتهم وآلياتهم حين نقبض عليهم. ثمة شونة مقابل كمين القوات المسلحة في مدخل المدينة الغربي. لو نظرت إليه لوجدت أن ما به أكثر مما يستخدمه أناس المحافظة كلها . وبعد التعب والمشقة يختلفون في تقسيم ما يسرقونه؛ فيقتل بعضهم بعضا. واليوم أخبرها زوجها أن دخول المدينة والقرية صار بتصريح من الأمن. مبروكة ترى الخناق يضيق، ومع ذلك ما اهتز يقينها. أصحاب العمائم الكبيرة والأبدان الضخمة والجريد الأخضر الطويل في الغيب يعملون. يسبقون قوات الجيش والشرطة ورجال الاستخبارات. وتقول في نفسها: فقط يؤون الأوان.إنها تتصل بتلك الأرواح الطيبة، في اليقظة والنوم، وتعرف ما يعرفونه. يتغير حالها إن كانت في اليقظة وهي تصنع. إن جسدها متناسق وينقص وزنه عن معدله الطبيعي بثلاثة كيلو جرامات. وفي تلك اللحظات تبدو بدينة ومترهلة. وبشرة وجهها الخمرية تبيض قليلا، ويبدو لعينها السمراء بريق أخاذ. ولما ادلهم الليل ظهر لها راع وقطيعه يعبرون بين الساحة والجبل. كانت تقف ب (بلكونة) الطابق العلوي وتناجي المطلق. نظرت للراعي؛ فإذا به شيخها الذي أخذت منه الطريق. تفاءلت ونزلت مسرعة تترقب. وحتى تصعد خلفه الجبل ولا تراها العيون، تلمظت بحزب الإخفاء. قال لها اتبعيني ولا تنطقي حتى تعودي. أحست مبروكة أنها تمشي نائمة. قدماها لا تلامس الأرض، ووعيها حاضر. وما رأت شيئا يمر بها إلا وعقلته. وبعد وقت، اختفى شيخها وقطيعه. تشعر أنه سلمها لشيخ أكبر منه درجة. ثم إلى القطب صاحب الوقت والمقام. مبروكة لم تقف يوما على المثلث الذي يحوي تدرجات السادة. خمسة وعشرون عاما تأخذ من النهر قبل التفريغ. وكلما أوغلت في جوف الصحراء، ما عدمت من يخاطبها وتخاطبه. لازالت لم تخرج من وادي حميثره. ثم تناهى إلى سمعها أصوات ذكر مصحوبة بحانات وطبول. تلك الأصوات ليست عليها بجديدة. تسمعها دوما عند آخر الحزن وأول الفرح. تقترب الأصوات وتتعالى. وللعين تبدو الأشياخ ذوو العمائم الخضراء الكبيرة، بأبدانهم الضخمة وجريدهم الأخضر الطويل. لقد وصلت إلى ما وصلت إليه من قبل. كمن يصل للنهر مرتين، كل مرة من طريق. تتفرج عليهم مثل طفلة صغيرة في سوق كبير. إنهم ينشدون وأصوات حناجرهم يتردد في كل واد. ويقفون عند كوة صخرية اختبأ بها الجناة بعض ساعات وما باتوا بها. لقد فهمت أنهم يتقصون الأثر. تقول في نفسها، حسنا ما يصنعون. ثم يخرجون من الوادي ويدلفون وادي الحمامات. ومنه إلى طريق قدس الأقداس. مبروكة تقف معهم وتتسمع ما يقولون. إن الأمن ها هنا شديد طيلة الوقت؛ فكيف مروا به من هنا إلى مدينة منف؟. تنظر مبروكة للحرس الذي يحرس قاعدة مثلث الذهب. بنادقهم محشوة وفوهاتها مرفوعة. وحركتهم تشبة التحية العسكرية التليدة للجندي المجهول. ثم تعي أن كل مشهد في عالم. فلا هؤلاء الذين يتقصون الأثر يرون الجنود، ولا الجنود يسمعون صدى الأناشيد. وتخفت الأصوات جميعها في وقت واحد. وتعاود الصورة ما كانته في أول الأمر. حين رأت تلك الكائنات الضخمة لأول مرة قبل رؤيتها للشيخ. يهجم المشايخ بجريدهم الأخضر الطويل، وخلفهم تغريبة الجندي المجهول. وتلمع في رأسها الأنوار. هي الروح وقوتها في حارات الغيوب. حين تقوى تحلق أبعد من المألوف وتخطف من بين الغمام. وإذا عادت من غيبتها ربما عقلت ما خطفت، وربما ردت بخفي حنين. وفجأة تقف معهم على جيفة قتيلين بكامل ملابسهما. لمس واحد من المشايخ جلد إحداها وهو يقول: مات قبل شهر ويومين، والحاج علي مر من هنا قبل القتل. مبروكة تعلم أنهم يفتشون ويحققون. والأجواء السرمدية الحالمة تجعلهم كائنات من الجيلاتين. مشغول كل منهم بدائرة فراغه. كأنهم معا، وليسوا معا. يمشي كل منهم في مسار رسم له لا يستطيع تجاوزه. وكأن الأشياء بالأرض تناديهم: تعالوا واشهدوا ما جئتم من أجله. تتذكر مبروكة ما قاله زوجها في الصباح، عن القتل المتزايد بين ال (هابه). لم يترك المشايخ الجثتين إلا مدفونتين. جردوها من أسمالهما وصلوا عليها ودفنوها. وحتي لا تفارقهم بهجتهم، عادوا للإنشاد. ثم تغير الحال على مبروكة مرة جديدة.صارت تشم رائحة تشبه حبة زيت البركة. والأشياخ ذوو العمائم الخضراء الكبيرة والأبدان الضخمة، غابوا جميعاً إلا واحدا. هنا آخر الدرب. في هذه الغرفة الكالحة يأسرون الحاج علي. خطفوه ليفتح لهم مقبرة أثرية، وجربوا قهره وإرهابه، دون أن يتعاون معهم. تنظر مبروكة للرجل الذي تراه ولا يراها، وتخاطب الشيخ الوحيد الباقي: وهل تستطيع أن نصل إلى هنا وحدنا؟. قال وهو ينظر للسماء: نعم نستطيع، نعم نستطيع. في اليوم التالي، جلست مبروكة في غرفتها وحيدة تقلب في المرائي. لقد رأت الرجل الذي استحوذ علي تفكيرها منذ هبطت الوادي. ربما كانت عرفت اسمه قبل أن تسمعه من النقيب أشرف. لازالت تذكر دهشتها وحمرة الخجل التي مستها حين سمعته لأول مرة. وربما لو عرفت أنه رآها في نومه عدة مرات، لأدركت أهميتها في إنقاذه. لقد رأته يصلي القيام منفردا وجهرا. وهؤلاء الطغاة الذين يحرسونه، غارقون في اللهو والملذات. أخذت تخط بقلم في يدها كل الأسماء التي سمعتها في تحليقة البارحة. ووجود شيخها وقطيعه في أول المسير، دلها على أهمية الغائب. ومحطات الوقوف الثلاث أوحت لها بشكل ضمني، أن ظهوره سوف يكون بعد ثلاث. تفتش في أحزابها وأوراقها وحروفها وأرقامها عن فحوى الرقم. هل هو ثلاثة أيام أو شهور أو سنوات؟. ولمعة من عقل الأنوار تتفتق فجأة عما يسر الخاطر. ثلاث ليال متبقية على الليلة الكبيرة للاحتفال بالحاكم. تهمس في نفسها: ترى هل تصح هذه الفرضية؟. إن الله لا يعطي غيبه إلا لمن ارتضى من رسول. أما الولي فيوافق شيئاً من ذلك من طرق شتى. وما يتحصل عليه في آخر المطاف لا يكون أبدا واضحا وصريحا. إنه من ذاك الغيب المضاف، الذي مر ولا يعرفه المعني به. إنها لا تعرف كيف وصلت من ساحتها إلى النيل؟. ولا شك لديها أنها فعلت. فكرها يقف على القتيلين وأسمالهما البالية. والأشياخ ذوو العمائم الخضراء الكبيرة والأبدان الضخمة. هؤلاء الذين اختفوا في لمحة وتركوا خلفهم واحدا. لقد عرفته أخيرا. تهمس في انحنائها على حساباتها، إنه الحاج هاشم. وتقول في سرها: يا الله, كم هذا العالم صغير؟. إن هذا الرجل لمن الصادقين. لقد بدأ البعيد يقترب. وكأنها أمسكت بالرمز الغائب عن حسابها أعواما طالت. حين تقف في منتصف الظاهر والباطن وتأخذ في الحسبان. تضع هذه الحزمة هنا، وتلك هناك. لو كان الرمز الفرضي صحيحا لانتظمت كل الحزم على طرفي الميزان. لكن الواقع في الأغلب يأبى هذا التمام. فربما كان شيئا لا يقبل الإضافة هنا أو هناك. أو كان آخر مختبئا وظهر بعد تمام الحسبان. تقول في نفسها: وماذا تنتظرين؟. مبروكة نادت على زوجها؛ فخرج وعاد بالحاج هاشم. التيسير من علامات التوفيق. ذهب الزوج إليه؛ فوجده كمن ينتظره. وبعدما شرب قهوته، وكانوا جميعا بما في ذلك الأطفال يتحلقون حوله أمام الساحة، نظر للسماء وهو يقول: نعم نستطيع، نعم نستطيع. مرت الليلة كما ينبغي لها أن تمر بأسبوع الاحتفال. فالأحباب الذين لم يزوروا قبر سيدهم الذي توفي هنا قبل نحو تسعة قرون طيلة العام، يأتون بأسبوع العمار. والزينة التي انتشرت بكل الوادي لم تشغل مبروكة عن متابعة وقائع الحج. فما تبقى سوى يومين حتى يأتي يوم عرفة. لقد صلت الفجر في مسجد الحاكم وما خرجت منه إلا بعد ارتفاع الشمس قدر رمحين. وفي تمام الحادية عشرة، كانت مع الحاج هاشم أمام النقطة. استقبلهما الأمين محمد بترحاب، وبعد دقائق نزل إليهم النقيب أشرف. لقد استمع لهما لأكثر من ساعة دون أن يفهم شيئا. إن حبه للشيخ صاحب القرية هو الذي جلبه للعمل هنا. صحيح أن لديه بغرفة مبيته جهاز تكييف، غير أن ارتفاع الحرارة والرطوبة لا يزعجه. لقد ولد وشب بالصعيد الجواني، أي بالمناخ ذاته. وحبه لشيخه من كثرة ما رأى منه، جعله يحبذ الخدمة هنا ولو نام في العراء. عاد وطلب القهوة من جديد له ولضيفيه وهو يقول: على رسلكما حتى أفهم. نصف ساعة وأكثر حتى فهم طبيعة البلاغ المشوش. في بادئ الأمر حاول لي إرادتهما دون جدوى. كانا يتحدثان بثقة توحي بمادية الحقيقة، رغم أن الأمر ليس كذلك. ويقول وهو يبتسم خجلا: لو نقلت البلاغ لإدارتي لسخروا مني. قال الحاج هاشم: أثق في قدرتك على مساعدتنا في إنقاذ الرجل. وقالت مبروكة: نحن لم نجتمع كيفما اتفق. الأسرار تسبق الأعمال. لا يمكن لي أن أملي عليك ما يجب أن تفعله. لكنك لن تتركنا مع حاجتنا إليك. في نهاية الأمر اقترح النقيب أشرف حلا وسطا. عرض أن يذهب معهما بشكل ودي أولا. وحين يتأكد من وجود الرجل بحوزة هؤلاء المجرمين، يتصل بإدارته ويصدر أمرا بتحريره. لم يعترض أي منهما علي اقتراح المباحث. ما كان لديهما من حل أفضل من ذلك. وصار حوارا بينهما عن كيفية الذهاب لطيبة القديمة، وأي الطرق نسلك. كان النقيب الذي يستند عمله على الأدلة المادية يستمع لحوارهما دون أن ينطق بكلمة. إنه حقا من أحباب الشيخ، وقد رأى تيسيرا في بعض قضاياه الصعبة جراء ذلك. لكن تجربته القصيرة مقارنة بهما منعته مجرد الكلام. كان يلوي عنقه يمنة ويسرة كلما تحدث أحدهما. ولما وصف الحاج هاشم الأكثر معرفة بطرق الصحراء، كيف يمكن الوصول إلى هناك بالسيارة، اتفق معهما على الحركة في العاشرة مساء، بعدما هما بالانصراف. الهمة كانت عالية، وشغف المعرفة لا يحده حد. لقد جاء الموعد ولم يتأخر أحد. ربما كان لكل منهم ما يدفعه لتلك المغامرة. فالحاج هاشم الذي صار له بالوادي أربعة عقود، ما ضللته مرة رؤيته. يرى في الصحو ما يراه في النوم مثل فلق الصبح. والسليمانية التي أكرمها مولاها بتسخير الجن والإنس والطير والريح لها، تتحرى خطوات شيخها. أما النقيب أشرف؛ فوحده يستوي لديه الفشل والنجاح بتلك المهمة. كان يقود سيارته الخاصة، ويحاول إبعاد تفكيره عن حديث الإعجاز والكرامة، حيث أخذ مرافقاه يعددان أفضال الله عليهما. وما من حكاية تنهض بمفردها في فراغ. بل هو نهر دافق يمتد من الرسول إليهما في سلسلة من الحلقات المتتالية. وكلما تعجب النقيب لما يسمع دلته مبروكة على كتاب فيه المزيد هو جامع كرامات الاولياء. فيهمس في سره: لا يجوز لمثلي التصديق أو التكذيب. وهي النتيجة ذاتها التي خرجت بها في التعامل مع المجاذيب. لا يمكن اقتسام التوقع والتخمين. إما نعم أو لا، صفر % أو 100%. ويهمس في نفسه: إن موعدكم الصبح، أليس الصبح بقريب؟. ولما انتهى من الطريق الذي شق خصيصا للسيد، طلب منه الحاج هاشم الدوران يمينا إلى المدينة. نحو عشرين دقيقه ووصل طريق الساحل. دار مع المسلة يسارا ودخل الطريق البطيئ. وبعدما خف سيل السيارات المسرعة في مرآة سيارته، زاد سرعتها وحاز يسار الطريق. كان عليه أن يقطع 140 كيلوا مترا جديدة ليصل إلى بداية طريق الأمواج. لما أخبره الحاج هاشم بذلك أدرك البقية. إنه يعرف الطريق الأقدم بالعالم. أول طريق بعرض القطر المصري، ويربط بين النيل والبحر الأحمر. لقد خدم ثلاث سنوات بالكمين الكائن بمنتصفه فور تخرجه. والحقائق والأساطير التي تتناقلها الألسن عن وادي الحمامات، يعرفها جميعا. في الواحدة صباحا ترك طريق الساحل وسلك طريق الأمواج. دار يسارا بعدما خفف سرعة سيارته، وظل يسير على مهل حتى خرج من الكتلة السكنية. مبروكة في الكرسي الخلفي تنظر عبر الزجاج في كل جهة. إنها تأتي إلى هنا لأول مرة. تحفظ طوبوغرافيا المدينة المنورة بالطرق الإثنتي عشرة المؤدية إليها، وما سلكت من قبل الطريق الأقدم في العالم. وتنظر للقمر الذي يتزايد ليلة بعد ليلة. تقول في سرها: أول منزلة التربيع الليلة، جعلها ربي ليلة بشارة.
السليمانية لا تعرف غير حاكم الصحراء وسيد حميثره. تعرف القرية وساحتها والأحباب الذين يعج بهم الوادي خلفها احتفالا بمولده، ولا تعرف الطريق المؤدية إليها. فحين جاءت بالأمر مع ركبها، نامت من الإرهاق أغلب الطريق. ولما وصل النقيب أشرف للكمين، دخل بالسيارة ال ( بارك)، وعزم على مرافقيه بالقهوة. إنارة طريق الأمواج ليست كاملة، نظرا لمروره بكتلين سكنيتين بأوله وآخره، وتتكفل الصحراء ببقيته. 190 كيلومترا مرصوفة بشكل جيد، وبها أعمدة الإنارة، غير أن التيار غير موجود دائما. والكمين الذي يتوسط مثلث الذهب بالمنطقة، حسب أول خريطة ظهرت بالعالم، لديه مولد كهرباء خاص به يعمل ليل نهار. أمام هذا المولد تقف آليات الشرطة. سيارتا جيب وسيارة ( أتاري), وسيارة قوات خاصة ومدرعتين. وفي مقابله مباشرة شونة كبيرة تحوي السيارات متعددة الأشكال والألوان وال ( لوادر) والحفارات التي تم توقيفها من ال ( دهابه). ركن النقيب أشرف سيارته بجوار آليات الشرطة، ومشى لزميله المناوب الذي كان ينتظره. لقد حصل على اسمه ورقم هاتفه من مركز الخدمة بإدارته، واتصل به في الطريق ليطلب منه شخصين أو ثلاثة من أشقياء قفط. سلم عليه وعلى مرافقيه ودخل أمامهم الاستراحة. كان الهدوء يلف كل شيء بالمكان، لولا صوت المولد الضخم، وريح خفيفة تثير الرمال. وثمة كلب يحجل على إيقاع عقرب شمسي. يركض خلفه فوق الرمل بين خطي الأسفلت كأنه يرقص. يهوي عليه بكف رجله اليمنى، والعقرب ينغرس في الرمل ويتفلت. وإذ يفلح الكلب في اصطياده، يلوكه في فمه وهو ينبح. في هذه الأثناء، شعروا بصوت حبو يأتي من الخارج لشيء أسود، يقف بالباب بضع ثوان ثم يخرج. لقد توقفوا جميعا عن الكلام بهذه الثواني. شيء ما لم يفهموه جعل رد فعلهم هكذا. ولم تنحل عقدة ألسنتهم حتى نهضت السليمانية وخرجت. قال الضابط المناوب: هذه روح. جن الجبل الشديد يكاد يتجسد. تعودنا ذلك، لكن الخطر لا يأتي إلا من البشر. ولما رأى المرأة الوحيدة بينهم تخرج مسرعة في عقبه تبعها وهو يسأل: أما في ذلك خطر عليها؟. قال الحاج هاشم: وهو يتبعه مع النقيب أشرف: لا تخف، الحاجة مبروكة مبروكة. لقد ركض الرجال الثلاثة خلفها. أشار الضابط المناوب لأمين الشرطة وأفراد القوة السبعة بعدم ترك الكمين وظل يركض حتى لحق بها. كان القمر الذي مال شرق الأفق وبدا قريبا، يكشف المكان جيدا. وكانت مبروكة تتبع ثعبانا قطره نحو بوصة وطوله يقترب من ستة أمتار. كانت تتحدث معه بلسان عربي مبين. وربما كان الثعبان يبادلها الحديث، غير أن الرجال الثلاثة لا يسمعوه. لقد ظلت المسافة بين مبروكة ومن خلفها ثابتة. ثلاثة أمتار تقريبا لا تزيد ولا تنقص، مهما ركض الرجال الثلاثة. و كلما سأل الضابط المناوب مبروكة، قالت دعنا نرى ماذا يقول لنا؟. كانت في تلك الحال الذي يترهل معه جسدها، ويبيض وجهها الخمري، وتلمع عيناها السوداء بذاك البريق الأخاذ. لقد وقف الثعبان أمام صخرة ضخمة بطريق قدس الأقداس. وقالت مبروكة: الحاج علي جلس على هذه الصخرة ثلاث مرات، آخرها قبل أسبوع. قال الحاج هاشم: الآن ظهر الحق. نحن نسير بالاتجاه الصحيح. لقد جاؤوا به وراحوا من البحر إلى النهر مرارا، دون أن يعجز. وفي لمحة عبر الثعبان الصخرة التى وقف أمامها، ودخل مدقا موازيا للطريق العام، وراح يحبو شرقا. هنا نظرت مبروكة للحاج هاشم وهي تقول: وهذا المدق الذي دفن فيه الأشياخ القتيلين. لقد ظلوا يتابعون الثعبان حتى اختفى بين الصخور، وعادوا للكمين مع وصول أشقياء قفط الثلاثة. النقيب أشرف جندهم في الوصول المخطوف قبل ثمانية وستون ليلة. وبعد ليلتين، وبينما الحجيج على جبل عرفة، وأحباب سيد حميثره على جبل الأماني، حرره وعاد به إلى الوادي.





Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire

Remarque : Seul un membre de ce blog est autorisé à enregistrer un commentaire.