mardi 15 juin 2021

ترقب وصول ( رواية): الفصل السابع // أحمد البحيري // مصر


حين رأت المآذن والقباب قالت لمن معها لقد وصلنا. كانوا ثمانية أفراد، رجلان وامرأتان، وأربعة أطفال. وكانت قرية الشيخ ساكنة سكون الموت، كأنها قرية أشباح. كانت الساعة نحو العاشرة صباحاً، وما وجدت أحدا لتسأله. والرطوبة والحرارة العالية تذكر بيوم الحشر. فالجبال العالية التي تحيط بالقرية من كل جانب وضعتها في ظروف مناخية قاسية. ونسمة الهواء التي تحرك فروع الأشجار القليلة وأوراقها تأتي بنوبات شرد تئن منها الأجساد. ولا دعاء في السر أو العلن سوى، اللهم قنا عذاب النار. ركن السائق السيارة في ظل بناية عالية كما طلبت وراحوا يترجلون. لقد تغير حال القرية كثيرا في العقود الأخيرة. وكلما رأت بناءا جديدا قارنت بين القديم والحديث. لقد صارت لها ساحة تم بناؤها في غيابها، معها مفاتيحها ولا تعرف أين هي؟. ولما تذكرت الرجل الذي يعيش بنسائه الأربع مشت بمن معها إليه. نحو خمس دقائق ووصلت لساحته ذات الطوابق الأربعة ووقفت حائرة تستحي أن تنادي. تريد أن تسأل وتخشي أن يكون الرجل قد مات، ولا إنسان يلوح في الأفق. وحدها الماعز تمشي فرادى وجماعات وتأكل أي شيء تلقاه بما في ذلك الأوراق وأكياس الشبسي البلاستيك. تنحاز للظل وتحك أجسادها في الحوائط، وروثها الجاف ينتشر هنا وهناك. ثم لاحت سيارة ربع نقل يقودها شاب تلمع سمرته، فأشارت له وللمبني الذي يقفون بجواره. نزل العبادي واقترب من الشباك وهو ينادي: يا حاج هاشم، يا حاج هاشم. وإذا بصوت يأتي من الداخل: نعم، دقيقة واحدة، تفضل. ولما خرج ورآهم رحب بهم ودخل أمامهم. جلسوا بحجرة كبيرة مستطيلة على جدارها أربع صور في أطر باهتة، كلها بالأبيض والأسود. دققت فيها مليا وما عرفت غير المرأة الوحيدة بينها. صب الحاج هاشم لهم الماء البارد وأخذ ينادي: يا علي، يا علي، الفطور. شكرته وقالت: أنا مبروكة الهواري، أما عرفتني؟ قال الرجل الذي تجاوز الثمانين وهو ينظر إليها: العتب على النظر يا ابنتي. رحم الله أباك، فما كنت أراك إلا معه. لقد مرت سنوات وسنوات، أين كنت كل هذه المدة؟. قالت وهي تشير على أحد الرجلين: مع زوجي بالمدينة المنورة. قال: على ساكنها أفضل الصلاة وأزكى السلام. قالت: خمسة وعشرين عاما قضيناها هناك. ثم عادت تنظر للصور المعلقة على الحائط وهي تقول: ما عرفت سوي الحاجة زكية، فمن هؤلاء؟. عاد ينادي على الفطور فقال الزوج: لقد أكلنا سيدي، لو شربنا الشاي لكفانا ووصلك الأجر. سأل الحاج هاشم: وهل ينفع ذلك؟. قالت مبروكة: لا تؤاخذنا فمعنا كل شيء. دع النفحة لمن يستحقها، وقل لي من هؤلاء؟. قال وهو ينظر لأولها: هذا الشيخ فرج الذي رباني، كان مجذوبا،وهو الذي عرفني على الوادي. لم يكن الطريق الذي يأتي بالناس إلى هنا موجودا بعد. وكنا نأتي من ساحل البحر الأحمر وندخل الجبل من منطقة برنيس. كان طريقا موحشا تكثر به الثعالب والعقارب والذئاب. ولم يكن بالقرية غير مقام الشيخ وبئر أمامه وبضع نفر يعيشون علي ما يجود به الزوار. وذات زيارة، أخذ شيخنا المجذوب حالا عجيبا. وقف على الجبل مقابل مقام الشيخ وراح يصرخ ويقول: كيف تتركنا نتعذب هكذا حتى نزورك؟. أم أنك لا تريد لأحد أن يأتي إليك؟. لماذا لاتعبد لنا طريقا آمنا وتحمل عنا هذا العناء؟. وما هي سوى أيام قليلة حتى عملت ال ( لوادر) والجرافات على شق هذا الطريق البالغ 110 كيلو مترا. ثم أشار على الصورة المجاورة وهو يقول: وهذا الشيخ مصطفى، أول من وصل إلى هنا بالطريق الجديد ومعه مؤذن المسجد النبوي. كان كريما ويأتي بقطيع الأغنام وقت الاحتفال بمولد الشيخ. وقد أعلن المؤذن حين مجيئه عن نيته التعبد في الوادي مدة أسبوعين. لقد قضى الليلة الأولي كلها مع الشيخ مصطفى في الصلاة. وقبل الفجر بقليل سمعا هاتفا يقول: تم قبول الزيارة، ويمكنكما الانصراف الآن. سأل الشيخ مصطفى المؤذن: هل سمعت ما سمعت؟. قال نعم وكرر عليه ما سمع. وفي الصباح حمل حالهما وانصرفا. ثم أشار على صورة الحاجة زكية وهو يقول: وهذه من رصفت الطريق وهي علي قيد الحياة. ذهبت إلى محافظ البحر الاحمر وطلبت منه ذلك. وعدها الرجل وانشغل قليلا. ولما رأى النبي يأمره بتحقيق وعده في المنام، سارع بإرسال الحصى والمازوت والزفت، وسرعان ما اشتغلت الآلات. وأشار إلى الصورة الأخيرة وهو يقول: وهذا الشيخ محمد الذي أشرف على رصف الطرق. ظل مع العمال أكثر من ستة أشهر كأنه منهم. لم يطلبوا منه شيئا ولم يمنعوه. كان معه خشبة كبيرة مستوية كلما بليت أتى بغيرها. ويتعجبون وهم يسألون: من أين له ذلك؟. كانت مهمته كتل الأسفلت التي تخلفها الآلات علي جانبي الطريق. كلما رأى واحدة فردها بخشبته والقار والمازوت يغليان دون أن يصبه أذى. سألته زوجة السائق: كم صار لك بهذا الوادي؟. قال: أربعون عاما حتي صرت مثل السمك لو خرجت من هنا أموت. سأله سائق السيارة: وهل يلتزم الأحباب الذين يأتون من أنحاء القطر بالآداب الشرعية وهم هنا؟. قال نعم وإن حدث بعض التجاوز. سأل تجاوز من أي نوع؟. قال لقد رأيت هنا من يدخن الحشيش والبانجو. وأخبرني رجل صالح يقوم علي إحدى الساحات قصة عجيبة، لو أخبرني بها غيره ما صدقته. قال جاء إليه واحدا من الأحباب يعرفه ويحبه. رجل فوق الخمسين ويأتي سنويا مع الأحباب. في هذه المرة كانت معه امرأة قال إنها زوجته. اختار له حجرة بالطابق الرابع بعيدة عن الأحباب وعنه. بعد يومين سأله جاره عما يدور بالساحة. استفهم إن كان رأى أو سمع شيئا يزعج. قال أسمع كل ليلة أصوات رفث بين رجل وامرأة على أشده. بعد المغرب طلب أمين الساحة من الرجل الذهاب إلى الدكان. أعطاه مائة جنيها وقال اشتر لنا أربع علب سجائر لكل منا اثنتين. ثم صعد للمرأة ودخل حجرتها وأغلق الباب وهو يسأل: ما علاقتك بهذا الرجل؟. قالت زوجي. لطمها علي خدها بقوة وأمسكها من شعرها وهو يقول: إن لم تصدقيني القول سلمتكما للشرطة. ارتجفت وبكت وهي تقول ليس زوجي. ولما جاء الرجل بالسجائر قال له: تأخذ هذه المرأة ولا أراك مرة أخرى. قالوا يا ستير، أيحدث ذلك هنا؟. قال هنا وفي كل موضع. إنه يحدث عند أبواب المسجد الحرام. يلتقي النساء بالرجال ويتفقون. حيث يكون النساء والرجال يجد الحنين مسلكه. تحن المرأة حنين الجزء إلى الكل، ويحن الرجل حنين الكل إلى الجزء. قالت مبروكة: حواء من آدم. وسأل زوجها: وما الذي أصاب السالك العابد؟. قال الله أعلم بعباده. قالت مبروكة: إما غلبه هواه، أو أنه لم يحب الله من حيث المبتدأ. ولما انتهوا من الشاي، خرج معهم ودلهم علي الساحة وظل معهم حتى فتحوا ودخلوا. في اليوم التالي، وبينما تقف علي القبر الذي لا يقف به شقي، أحست مبروكة بطنين في أذنها، ومخاطبة لم تتبين فحواها. جلست تقرأ أورادها وتدعو ربها نحو ساعة. لقد ظلت تصلي طيلة الليل كي تدرك الخطب. هذا ما تفعله دوما حين يستشكل عليها أي أمر. تكدح في طرق باب ربها دون كلل أو ملل. وأخيرا فهمت الرسالة علي الوجه الأكمل. خرجت من مقام الشيخ على نقطة الشرطة التي لا تبعد غير أمتار. كان الباب الخارجي مغلقا وقد لاح شخص يجلس في البعيد. نادته عدة مرات حتى انتبه وفتح لها. ولما تحدثت معه دخل للأمين محمد الذي طلب منها الجلوس حتي يخبر الضابط. صعد الطابق الثاني وعاد يقول: النقيب أشرف رئيس النقطة. سلمت عليه وهي تقول: أهلا يا أفندم. رد: أهلا وسهلا بحضرتك تفضلي. جلست تحكي وأطالت حتى فهم منها القصة. طلب من الأمين محمد دفتر الأحوال وراح يقلب أوراقه.ثم توقف على بلاغ من نحو شهر لاختفاء أحد الأشخاص قدمه فارس علي حسين. سألت: وما اسم الشخص المختفي؟. رد: علي أحمد عبد العزيز. قالت نعم هذا اسمه، وماذا فعلتم؟. قال بذلنا قصارى جهدنا ولايزال البحث جاريا. قالت: وما ظنك بهذه القضية. قال: ربما خطفته جماعة تفتش عن الآثار أو الذهب حتى يساعدهم. دلت التحريات أنه روحاني وله تأثير على الجن. احمر وجهها الخمري وهي تقول: حسنا، الآن فهمت، شكرا لحضرتك. ثم نهضت وسلمت عليه وانصرفت. بالليل راحت تحسب حسبتها. اليوم هو الخميس الخامس من ذي القعدة. والقمر الليلة القادمة يبدأ طور التربيع وسوف يكون في منزلة سعد الأضاحي. ثم كتبت اسم الرجل ولقبه. وضعت تحت كل حرف رقمه، وجمعت الحروف جميعا، ثم قسمت حاصل الجمع على ثمانية وعشرين. هكذا وصلت لإسم الجن المسؤول عن اليوم، ومنه وصلت إلى قرين الحاج علي. حاولت مخاطبته عدة مرات دون جدوى. عادت وحسبت حسبتها من جديد ولا خطأ فيها. وبعد كد وتعب وجدت أن تنتظر للغد. فالجمعة هو الوقت المفضل لديها في الكشف عن المخبوء والغائب. لم تكن المرة الأولى التي تصنع فيها ذلك. كما أن لديها إمكانية أخرى يمكن أن تلجأ إليها. فالسليمانية تستطيع تسخير الشيطان. لكن طبيعة المكان تمنعها ذلك. وربما كان الخاطفون من أولياء الشيطان مما يزيد الطين بلة. فلو كان ذلك صحيحا، ضللتها تلك الأرواح الخبيثة، ودلتها على المكان الخطأ. فكرت مبروكة أن تختبر الأمر وحدها أولا قبل اللجوء إلى الشرطة. فكم عانت من هذا التضليل المتعمد. لقد فهمت من النقيب أشرف أن الرجل موسويا. تقول في نفسها: لكن لا راد لقضاء الله. لقد سيطر عليها التفكير في الأمر. تداور الكلمات يمينا وشمالا وتطرح الأسئلة. واليقين يتزايد لديها بإنقاذ الرجل. إنها رسالة من الله. وحاكم الصحراء الذي غابت عنه مدة ربع قرن لم يظهر لها بعد. إنها متعبة اليوم من مشقة السفر. والساحة التي تم بناؤها في غيبتها، ما باتت بها من قبل. لقد أتت بكل أسرتها، زوجها وأولادها الثلاثة. والسائق الذي جلب زوجته معه، ترك أولاده بالقاهرة، واصطحب معه طفلا واحدا. في الصباح أعدت زوجة السائق الفطور وما استطاعت مبروكة الأكل. حاولت أن لا يلتفت لذلك أحد، لكنها لم تمر على زوجها الذي يعرف أحوالها وما عاد يسأل. شعرت أن أصابع كفها الأيمن مشدودة ولا تنثني، كأن مفاصلها لا تعمل. ورغبة الطعام ولت وما عادت ترغب في غير الماء البارد. لقد ظل الحال هكذا حتى صلت الجمعة. إن فكرها لازال يعمل في تلك الصحراء القاحلة. وتقول كيف للشرطة أن تحرس كل هذا الفضاء. ويا ليتها تستطيع النفاذ إليه جميعه. لقد استبعدت هؤلاء الذين يفتشون عن الذهب من خطفه. كما ظنت أن من يفتشون عن الآثار ذهبوا به بعيدا. فلا أثار تذكر بهذا الوادي. ربما حملوه معهم إلى أي مدينة على النيل. وكلما خطر ببالها قتله دفعت الخاطر بعيدا وسريعا. تقول لو رفض التعاون معهم، لظلوا على مساومتهم إياه. وفي القيلولة رأت الحاكم لأول مرة من ربع قرن. كان في زي رجال الشرطة ومعه قوة من الجنود تفوق الحصر. والصحراء جميعها تضيق بهم. وأسطول هائل من المدرعات والمجنزرات. والعجيب أن بينهم مشايخ أجسادهم ضخمة تفوق الوصف. وعمائمهم الخضراء كبيرة. وفي يمين الواحد منهم جريدة خضراء طويلة تبلغ نحو ثلاثين مترا. يركض هؤلاء أمام الحاكم والجنود والمجنذرات. لقد أفاقت مبروكة من النوم سعيدة بما رأت، وأدركت أن الرجل لازال بخير. ما كانت تبحث وحدها عن الرجل المخطوف. صحيح أنها لا تعرفه، لكنها رسالة من الله. بل كان هناك من يعرفه وقد اهتم بالأمر على طريقته. لقد كونت سيمون وفلورانس مجموعة كبيرة في دائرة البحث تلك. اتصلتا بكل صاحب نفوذ على مدار الشهر الماضي. لقد وصلت سيمون للعميد محمود رئيس الاستخبارات. وتحدثت مع مأمور قسم المدينة وكذلك النقيب أشرف رئيس نقطة قرية الشيخ. أما فلورانس فقد جندت مجموعة من الشباب الذين تسهر معهم. أعطتهم كل ما يلزمهم، وكانت تتصل بهم كل ليلة، ولا جديد. ولما ازدادت قلقا نزلت العاصمة والتقت قنصل دولتها عله يحث المسؤولين عن الأمن. كما أن العم محمود وروماني، لم يتركا وكرا بتلك الأدغال يعرفوه إلا ذهبا إليه. إنهما دليلان ويعرفان ما لا يعرفه رجال الأمن أنفسهم. صحيح أن روماني ليس من العبابدة، لكنه يأكل ويشرب معهم من سنوات. لقد صار منهم بالعشرة لا بالولادة والتكوين. إنه قبطي ويري الحاج علي واحدا من القديسين. لقد ذهب إلى بعض الأديرة حتى يبحثوا عن الرجل بطرقهم الباطنة. يعلم أن لديهم من المعارف ما يمكن أن يساعدوه بها. أما فارس، فصار يبيت بالجبل أكثر من الشقة المطلة على شاطئ النيزك. كان يعتبر نفسه صاحب المصيبة. لقد جمع الأشقياء بكل وادي حتى يساعدوه. ساعده في ذلك شيخ نجع وادي العلاقي. وكلما اتصل به أحد من مجموعات البحث الأخرى وطلب منه أن يهون على نفسه، قال كيف؟. لقد اختطفوا الشيخ مني، وأنا المسؤول عن أمنه لأكثر من عامين، أخذوه مني في لحظة كأني ما كنت معه. وقد أقنعته سيمون أن يظهر معها على التلفزيون ذات مرة لحث المسؤولين على تكثيف نوبات البحث. سيمون باتت تتحدث العربية بطلاقة. ليلتها بكى بكاء حارا بعدما عدد مناقب الشيخ. وليلتها أيضا اتصل بهم واحد من هؤلاء المسؤولين. وبعدما عدد أسباب صعوبة البحث المرتبطة بطبيعة المحافظة الصحراوية، قال بأنهم لن يقفوا مكتوفي الأيدي أمام هذا الحادث المؤسف. وهنا بكى فارس وهو يقول: كأن الشيخ فص ملح وذاب.





Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire

Remarque : Seul un membre de ce blog est autorisé à enregistrer un commentaire.