/1/
يلج الطفل باب البيت، وتخترق أنفه الصغير رائحة الزعتر البري التي تخبره أن بالبيت زائر قروي، وليتأكد من ذلك يلقي نظره على الأحذية الموضوعة بباب غرفة الجلوس فيقع بصره على حذاء أو بلغة يعلوها تراب القرية الأحمر، ثم يلتفت إلى ركن من أركان فناء المنزل فيرى ما حمله لهم الضيف القروي من منتجات القرية ، سلة كبيرة من قصب مغطاة بنبات الفصة تخفي تحتها "شكوة "اللبن التي تسبح فيها كويرات الزبدة البلدية الطازجة،
إحساس غريب يغمر كيان الفتى ،ويحرك في دواخله الشوق للبادية التي له فيها ذكريات جميلة حيث كان أبوه يرافقه لزيارتها كل عطلة صيفية...
واليوم وهو يتذكر كل ذلك، يأخذه الحنين لتلك الأيام ، يشتاق لمذاق ذلك اللبن وتلك الزبدة ويأسف وهو يرى أبناءه يستلذون اللبن المعلب والممزوج بالمواد الحافظة، ويقبلون على استهلاك الأكلات المنسمة بنكهات كيماوية...
رياح التغيير غزت البادية، حين زارها آخر مرة أخذته الدهشة حين رأى أحد القرويين يقتني علبة حليب مبستر من دكان القرية...
/2/
لم يكن هذا الطفل يعلم أثر الماء في الحياة ، لم يكن يعرف أن وجود هذه البساتين والحقول الخضراء، وتلك الأشجار المثقلة بالفواكه، والدوالي التي تدلت منها عناقيد العنب لتقترب من الأرض، وهذه الأراضي التي أنبتت أصنافا متنوعة من الخضر والبطيخ ،كان الماء المتدفق من السواقي أو المستخرج من باطن الأرض هو سبب وجود كل هذه الخيرات والنعم، لكن كان يستشعر ذلك حين يرى جداول المياه تخترق الحقول، وتتدافع غزيرة لتغمر أحواض اليقطين والبطيخ، ويحضر عملية السقي، ويتابع كد الفلاح وهو يوزع الماء على هذه الأحواض الخضراء و يواجه بحزم وانتباه تيار الماء القوي حتى لا يغمر الحوض أكثر من اللازم ...
لم تكن الأرض وحدها تتنعم بجريان الماء، بل كان لجسده الصغير حظ من الاستمتاع بهذه النعمة، فقد كان ينزع ثيابه ويرتمي في صهريج الحقل الذي يستقبل الماء المتدفق من المضخة التي تُخرجه من عمق الأرض صافيا زلالا، كان يشعر بمتعة اللحظة وهو يتقاسمها مع أقرانه من الأطفال القرويين الذي وجد فيهم أصدقاء مختلفين عن أمثالهم في المدينة، كل ذلك تبخر مع تبخر الماء، فقدت الأرض خضرتها، يبست أشجارها، وأصبح غبارها يتناثر في الفضاء مع هبوب الريح، وصار سكانها يحفرون في الأرض بحثا عن قطرة ماء تعيد لها بهجتها. حل السقي بالقطرات مكان تدفق الساقية، وأنابيب البلاستيك عوضت الجداول، وغادر الأطفال الحقول وتجمعوا حول التلفاز والهاتف المحمول
/3/
وأنت تدخل إلى هذه الضيعة المترامية الأطراف في عز النهار، تشعر بشيء من الخوف، فأشعة الشمس تجد صعوبة في اختراق سقف دالية العنب المنسوجة من القصب والتي انتشرت فوقها أوراق الكرم ، وتتدلى منها عناقيد العنب التي تتزاحم حباتها لدرجة يضغط بعضها على البعض، فإزالة حبة يترك فراغا في العنقود الذي يتدلى من الدالية ليقترب من الأرض المغطاة بالأعشاب والنباتات البرية...
وأنت تسير تحت الدالية تلامس كتفيك هذه العناقيد الشهية المشبعة بالماء...
كان الطفل الصغير يسير بحذر شديد تحت الدالية، تغريه عناقيد العنب الممتلئة، فيحاول قطف عنقود فيجد صعوبة في ذلك لتقله وضخامة غصنه، فيتدخل رفاقه القرويون ليحققوا له رغبته وهم يضحكون حين يلاحظون دهشته من حجم العنقود الذي يكاد يملأ سلة قصب صغيرة...
حين زار هذه القرية مؤخرا ،وبعد عقود من الزمن ،لاحظ أن سقف القصب عُوض بأسلاك حديدية وأن الماء أصبح يصل إلى الدالية بأنابيب بلاستيكية تسقيها باقتصاد شديد ليصبح العنقود صغيرا وحباته متباعدة ويرى أرض الضيعة تحت أقدامه غبراء متربة...
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire
Remarque : Seul un membre de ce blog est autorisé à enregistrer un commentaire.