lundi 18 décembre 2023

طرف من أخبار المحسوب (قصة قصيرة ) // أحمد البحيري // مصر


كانوا يتحدثون عنه وهو بينهم، يراهم ولا يراه منهم أحد، ولما سمع اسمه في كلامهم تعجب شأن من يسمعه للمرة ويجعلهاالأولى. كان وفدا تأكد أنه ما سبق ورآه، نحو إثنا عشر شخصاً نظر لكل منهم على حدة كما يصنع بحكم عادته حين يدخل لمكان غريب، يحملق فى الوجوه صامتا بحذق وهو يمشى على أطراف أصابعه، وإذا وجد من يعرف أشار إليه ووقف إلى جواره، وإلا ظل وحيدا فريدا حتى تتكشف الأمور. كان ثمة رجلان يتحدثان عن شخصين هو أحدهما دون أن يدرى من الآخر؟ وكان ذكر اسمه من باب تشبيه من لا يعرفه به، إذ يقول أحد الرجلين للآخر: هذا مثل عدنان الراعى ما رأى منا شيئا بعد
وعى عدنان من النوم غير مكترث بتفاصيل ما رأى كما يصنع مع عدم الفهم. إن رأسه الصغير هذا يكاد يرى رؤيا كلما نام، بل أحيانا يرى أكثر من واحدة، وحين تقع رؤياه في تلك المنطقة الرمادية بين عدوه وحبيبه وتكثر الاحتمالات في تعبيرها يعتبرها أضغاث أحلام ويرتاح
خاض نهر الحياة في دائرته المحكمة التى لا يحبها رغم دورانه فيها نحو ثلاثة عقود ونصف وباطنه نصب عينيه. يسأل نفسه: ترى من هذا الذى يشبهك فيما حصلت؟ وكيف يشبهك؟ وهل هناك متشابهان فى الحال؟ يتنقل عدنان على مهل في الدائرة الحكومية التى يعمل بها، قليل الكلام وصامتا أغلب الوقت. لم يترك وجها رآه حتى أسقط عليه احتمالاته وبخاصه من يراه للمرة الأولى. وبعد دوام العمل وفرحته الطفولية بفك القيد، عاد لبيته فارغا ملؤه الهدوء والسكينة
فى الليل تكشفت الأمور بشكل لا لبس فيه. اعترض طريقه أثناء عودته من صلاة العشاء
رجل في مثل سنه وراح يسأله: أأنت عدنان الراعى؟ قال: نعم؟ مد يده وسلم عليه بحفاوة
وهو يقول: محسوبك سلامه الغنام، الحاج سلامه الغنام من قرية كفر سليمان_ وأشار بيده جهة الشرق_ دلونى عليك فجئتك في حاجة. للوهلة الأولى تبخرت الإحتمالات جميعا وشعر عدنان أن هذا هو الوجه الذى ظل يفتش عنه طيلة النهار. حاول جهده أن يأخذه لبيته ويضيفه، أن يتحدث معه في مسائل جمة، أن يسأله عن طريقه وشيخه ودرب وصوله، أو حتى يسأله عن حاجته، إلا أنه ما صنع أى من ذلك، وإنما استجاب كالمأخوذ وركب السيارة
انبسط عدنان وهو يستمع لسلامه، ورغم رؤيته للمرة الأولى شعر نحوه بحنين جارف. أحس عدنان بنفسه تتمدد وتكبر وتسع الكون كله، وكأنه يستطيع أن يسع كل شيء ولا يسعه شيء، والكلام الذي يستمع إليه كأنه سمعه من قبل من نفس الشخص فى نفس المكان. وما كانت حاجة الحاج سلامه إلا لبأسه، حيث شاع بين الناس تأثيره على عتاة الظلمة والمجرمين، ومن ثم صاروا يندبونه في فض النزاعات. للحاج سلامة ابنة مزواجة مطلاقة هى أهم أسباب ابتلائه، لافت على طارق الأبكم وما استطاع الحاج مع إخوتها الثلاثة منعها عنه، وبعد عام من الزواج أنجبت بنتا ماتت بعد أسبوعين؛ فساءت نفسها وتريد مغادرة البيت وسط تعنت زوجها. سأل عدنان: ومتى ماتت البنت؟ قال سلامه: قبل ثلاثة أيام، ولازال الرجل وأسرته يتلقون العزاء بينما ابنتي فى حكم المحبوسة. فى هذه الأثناء وقفت السيارة أمام بيت يبتعد قليلا عن الكتلة السكنية وحوله سياج سميك من الأشجار السامقة، كان (ڤيلا) للواء قديم قضى فى حرب ، وترجل الرجلان والسائق مع مرافقين من الخدم حتى دخلوا إلى قاعة كبيرة بها جمع من الناس غفير. أحس عدنان للوهلة الأولى أنه بسوق لبشر فوق العادة، ينشغلون بأكثر من أمر فى وقت واحد دون أن يلهيهم أمر عن أمر ويتحركون فى خفة ملفتة، كل مجموعة راحت تتصافى بزعيق وصخب وشتائم كأنما تتشاجر، وثمة صوت مبحوح يصرخ من آخر القاعة إذا حمى وطيس إحداها ولا يتوانى عن إطلاق النار من بندقيته الآلية فى فتحة الباب فوق الرؤوس، ثم لاحظ عدنان أن هؤلاء المتحلقين فى حلق عدة لا يمكن لهم مفارقة تنويعات الصوت المبحوح الأجش هذا مهما كان صخبهم وضجيجهم، حتى أن أغلب من يجلس فى صحن القاعة صار ينبطح أرضا قبل ملامسة سبابة الأبكم للزناد
مر وقت بعد التعارف وتقديم واجب العزاء والصخب والضجيج سيد الموقف، وصاحب النزل المسموح له وحده بالحركة بين الحلق قاضيا فى أمرها يقترب دون إرادة منه رويدا
رويدا من حيث يجلس عدنان. الحاج سلامه ورغم جبينه العابس أحس داخله بحبور مباغت
أول مرة يرى المجرم رغم رجاله وعتاده يفقد القدرة على مجرد مراجعة قول رجل قبل أن يدفع بندقيته وحزامه وحقيبته ويجلس فى مواجهته تماما كمن ألقى إليه قياده. كان فى الحديث مد وجزر، الحاج سلامه يتحدث ببراءة تختلط بسذاجة البسطاء، والأعرج يشبه قرموط السمك يصعب مسكه، أما عدنان فكان يمشى على مهل ويعبر من العام إلى الخاص، وحتى يتم حديثه طلب فض السوق وإخراج أهله إلا صاحبي الإشكال. نظر الأعرج لرجاله فخرجوا جميعا في التو وقال وهو يشعل سيجارة وينظر لدخانها: ما الذى تريده بالضبط يا شيخ؟ قال عدنان: فى جملة واحدة: إبنة هذه الرجل. لقد تعبت من فقد ابنتها ومعاملتك فاتركها لأبيها حتى ترتاح. قال الأعرج: ولو رفضت؟ قال عدنان: لن ترفض، أعرف أنك لن ترفض. أنت خارج على القانون ومشاكلك أقل من أن تحصى، ومن كان هذا كثيرا ما تكون نفسه سيعية ويعرف قدر . قال الأعرج: دعنى يومين أو ثلاثة حتى أتحدث معها؛ فربما خرجت من هنا وما عادت. قال عدنان: خير البر عاجله، وأبغض الحلال إلى الله الطلاق. فى هذه اللحظة أرسل الأعرج فى طلب زوجته وران صمت ثقيل يستثير الحواس ويجعلها على أشدها. والجموع التى خرجت وانتشرت في أفق المكان كأنما تلاشت وباتت غير موجودة، لا شيء يخربش الصمت سوى وشيش الريح في أوراق أشجار السرو السامقة حول المبنى، وحين أتت الأم الثكلى أحد أهم أسباب ابتلاء أبيها وطلبت من زوجها أن يطلقها ، طلقها وبقى معهم حتى تحركت السيارة








Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire

Remarque : Seul un membre de ce blog est autorisé à enregistrer un commentaire.