وأنا في نزوة المساء، أمام حانوت صديقي المصور ،أهيم ونفسي أُحصي شعاب الخيبات، وأجمع شتات الملذات والشائعات ووو....خطفَـتْه عيني،وجه عرقان، ترازة من الـدُّوم مربوطة بحزام يمر تحت الذقن ،وجه مزغّب أغلبه بياض ،سيسان قابعة على الجبين تُومِي بتعب الوقت؛ رمقتُه كنقطة ضوء في ظلمة، وسط كومة من المارة ربما لصدَفـته البيضاء المدوَّرة والكبيرة الحجم والتي ترابط وسط أزرار أخرى متنوعة الألوان والأحجام، في معطف أسود معفر بالغبار . سرَحَتْ عيني ترقُبُ مساره حتى توقف بحماره قرب بائع السردين،كان غير بعيد مني.... بتثاقل ، أدار خصره ووجهه للجهة المعاكسة مسدلا رجليه التي يطل الأصبع الأكبر من ثقبة في حذائه...أخذ يتدلي بكل جسمه من تلك الدابة المضبورة الورك حتى لمست رجلاه الأرض ،حزم حماره على صخرة وُجِدَت خلفه ،ثم أخذ يُستّـف سلعته اليانعة: ربطات القسبر والمعدنوس والنعناع بأحجام متساوية ،كركوبات حامض،وأخيرا البيض الذي كان مدسوسا وسط خشائش تبن في قفة من قصب ، أخرج طرف ثوب مبلل وغطي هاته الربط حفاظا على طراوتها ...جلس مطويا ، جلسةً تعبق بعطر البداوة ، ركبتاه تلامس ذقنه ومؤخرته تكاد تلامس الأرض، تنسّمَتْ أطياف ذاكرتي هاته الجلسة، وداعبَتْ صفحاتها من زوايا مختلفة،وبلا مشورة وجدتُـني أقطف من غصن الذكريات لمحة لأبي في تلك الوضعية وهو ينقي بأصابعه المشقوقة طفيليات حوض النعناع و حوض نقلة البصل التي اعتاد زرعهما أمام المنزل.... بعدها سحب الشيخ منشته القصبية المتدلية الأوراق ليهش بها الذباب والحشرات التي تتطاول بين الفينة والأخرى على السلعة
مضى هكذا والزبناء يترددون عليه ؛ هؤلاء رجال يختارون ،وتِلكم أطفال ، وهاته نساء تفاوضنه بشراهة وتُطِلْن في ذلك ولا تشتري إلا بعد أن تنـشِّف ريقه
كان الشيخ كلما استطالت بعض النساء في التفاوض ،يزيح عن رأسه الأصلع تارازته الدومية ليحك أذنيه الطويلتين التي يشتد احمرارهما إلى درجة الزرقة، ثم يعيدها بمجرد ما يبتاع شيئا أو تذهب المرأة أدراجها . وأنا هكذا أراقبه من بعيد لطالما قفزت لدي بعض المقارنات بينه وبين تاجر حِرَفِي مُروّض موجود بالأحياء الراقية والذي سلعته كلها مستوردة ، حيث هذا لا يقبل التفاوض بتاتا و في بعض الأحيان حتى العزل......لحظتها حطّت في ركن قناعتي بأن الإنسان في الجوهر "حقَّار
نعم هاهي شمس الأصيل تضرب بكل قوتها ، وغبش المغرب بدأ يرخي سواده على المكان ،والشيخ باق بنفس الجلسة يهش السلعة حينا ، ويحُكّ لسعات الذباب حينا آخر ،ويدعك عينيه الضيقتين اللتين تكادان تغمضان حينا ثالثا.. الشيخ هذا يجد عسرا في التعرف على النقود الممنوحة مما يجعله يبالغ في تقريبها لعينيه،وفي بعض الأحيان يتلمسها بإفراط للتحقق أكثر من قيمتها،..... وُجِد على مقربة من الشيخ مخزني (رجل من القوات المسلحة) ارتكن في إحدى زوايا هذا السوق كحارس أمن، هذا الأخير يبدو مستأنسا بالوضع هنا لأنه يتكلم مع هذا ، ويضحك مع هذه، ويلاطف ذاك ويقلق من تلك.فكان في أغلب الأوقات يهادن أكثر مما يضاجر .......
لحظة ، جعجعة صاخبة يَمِـين الشيخ خطفت الأنظار، رِيحُها عصف كصِرٍّ أصاب قوما... ضجيج من نوع آخر احتل المكان أغلبه صياحا وفرارا وعويلا....كان اسم واحد تلغط به كل الأفواه المذعورة : ((ولْد ميلودة ،ولْد ميلودة))،بسرعة غطى هذا الاسم كل السوق بألوان وحكايات مختلفة....
سرَحَتْ عيني مُرغَمةً تقص أثر هذا الضجيج...شخص بقميص مفتوح،نحيل كعود يابس،أضلع بارزة تسَكّفتْ في الصدر ،عليها آثار كدمات و خدوش ...طلْعَـتُه تغطيها صُفرة وقحة كصفرة حقل حنطة قبيل الحصاد، تزداد وضوحا كلما ارتجف وأرغي....... هاهو منساق جهتنا ، يتلوى بين أروقة السوق وبيده سيف ،قذائف السب والنعل تخرج من فمه شتاتا: يشتم هذا ، ويجري على ذاك ، ويرمي سلعة تلك وووووو...التقطت أذني من بعض النسوة أنه هذه الأيام تلقى العفو بعد عملية اغتصاب ،وأنه مقطوع طيلة النهار لأن أمه لم تعد توفر له ما كان يتلقاه في السجن من عولة ودخان وراحة ووو... ظهوره المفاجئ أحدث صخبا من نوع خاص، فما أن وصل جنب الشيخ حتى ركل السلعة بكل قواه غير مبال ولا مكترث ، ركلة كالقذيفة شتتتْ جميع ممتلكات الشيخ، تكسر البيض ورُشَّ جزء من محِّه وبياضه على وجهه وجزء آخر على عين الحمار الذي طفش للتو وهرب إلى حيث المجهول... خرس الشيخ ومات كلامه ، وكأن وعكة عقلية وعاطفية أصابته، غاص في التيهان لمدة استنارت عيناه بحمرة كأنها لهب،ثم ما فتئت أن أرسلت شعاعا ينُزُّ شفقة ويُتْما ،بعدها انحنى للحظة ، اليدان على الركبيتين ، رَتَح قليلا في الوضعية هاته حتى اختمر تركيزه وهدن ،وبتباطؤ رفع رأسه، مرر بطن يده على ذقنه، مسح حشوة البيض المتدلية ،نشَّفَها على جنبات معطفه ........ثم صوب نظرة تعبانة على وجوه الجميع استغرقت وقتا، خلالها كان المخزني يُلاطِف الجاني ويتودد له مرسلا إليه بعض التوجيهات:(احشم ياود ميلودة ، بَدّلْ ساعة بأخرى...) ....... على أنغام هذا التودد أدبر الشيخ جثته إلى الوراء، أصدر همهمة مبهمة وراح متقـفيا أثر الحمار الذي تنحّى عن المكان
كان الوضع جنازة ، وجودي وكياني ارتفعا إلى الفراغ، ليل مظلم سكنني ،طقوسي تبعثرت، آنذاك قفزت ضحكة دون استشارتي؛ ضحكة سكرانة متبرجة تغلفها ألوان متعددة أغلبها سواد وصفرة......هكذا غادرتُ المكان وفي نفسي علامة لا أجد تصنيفا لها: علامة عن نفسي أولا ،عن الشاب ، وعن المخزني
مضى هكذا والزبناء يترددون عليه ؛ هؤلاء رجال يختارون ،وتِلكم أطفال ، وهاته نساء تفاوضنه بشراهة وتُطِلْن في ذلك ولا تشتري إلا بعد أن تنـشِّف ريقه
كان الشيخ كلما استطالت بعض النساء في التفاوض ،يزيح عن رأسه الأصلع تارازته الدومية ليحك أذنيه الطويلتين التي يشتد احمرارهما إلى درجة الزرقة، ثم يعيدها بمجرد ما يبتاع شيئا أو تذهب المرأة أدراجها . وأنا هكذا أراقبه من بعيد لطالما قفزت لدي بعض المقارنات بينه وبين تاجر حِرَفِي مُروّض موجود بالأحياء الراقية والذي سلعته كلها مستوردة ، حيث هذا لا يقبل التفاوض بتاتا و في بعض الأحيان حتى العزل......لحظتها حطّت في ركن قناعتي بأن الإنسان في الجوهر "حقَّار
نعم هاهي شمس الأصيل تضرب بكل قوتها ، وغبش المغرب بدأ يرخي سواده على المكان ،والشيخ باق بنفس الجلسة يهش السلعة حينا ، ويحُكّ لسعات الذباب حينا آخر ،ويدعك عينيه الضيقتين اللتين تكادان تغمضان حينا ثالثا.. الشيخ هذا يجد عسرا في التعرف على النقود الممنوحة مما يجعله يبالغ في تقريبها لعينيه،وفي بعض الأحيان يتلمسها بإفراط للتحقق أكثر من قيمتها،..... وُجِد على مقربة من الشيخ مخزني (رجل من القوات المسلحة) ارتكن في إحدى زوايا هذا السوق كحارس أمن، هذا الأخير يبدو مستأنسا بالوضع هنا لأنه يتكلم مع هذا ، ويضحك مع هذه، ويلاطف ذاك ويقلق من تلك.فكان في أغلب الأوقات يهادن أكثر مما يضاجر .......
لحظة ، جعجعة صاخبة يَمِـين الشيخ خطفت الأنظار، رِيحُها عصف كصِرٍّ أصاب قوما... ضجيج من نوع آخر احتل المكان أغلبه صياحا وفرارا وعويلا....كان اسم واحد تلغط به كل الأفواه المذعورة : ((ولْد ميلودة ،ولْد ميلودة))،بسرعة غطى هذا الاسم كل السوق بألوان وحكايات مختلفة....
سرَحَتْ عيني مُرغَمةً تقص أثر هذا الضجيج...شخص بقميص مفتوح،نحيل كعود يابس،أضلع بارزة تسَكّفتْ في الصدر ،عليها آثار كدمات و خدوش ...طلْعَـتُه تغطيها صُفرة وقحة كصفرة حقل حنطة قبيل الحصاد، تزداد وضوحا كلما ارتجف وأرغي....... هاهو منساق جهتنا ، يتلوى بين أروقة السوق وبيده سيف ،قذائف السب والنعل تخرج من فمه شتاتا: يشتم هذا ، ويجري على ذاك ، ويرمي سلعة تلك وووووو...التقطت أذني من بعض النسوة أنه هذه الأيام تلقى العفو بعد عملية اغتصاب ،وأنه مقطوع طيلة النهار لأن أمه لم تعد توفر له ما كان يتلقاه في السجن من عولة ودخان وراحة ووو... ظهوره المفاجئ أحدث صخبا من نوع خاص، فما أن وصل جنب الشيخ حتى ركل السلعة بكل قواه غير مبال ولا مكترث ، ركلة كالقذيفة شتتتْ جميع ممتلكات الشيخ، تكسر البيض ورُشَّ جزء من محِّه وبياضه على وجهه وجزء آخر على عين الحمار الذي طفش للتو وهرب إلى حيث المجهول... خرس الشيخ ومات كلامه ، وكأن وعكة عقلية وعاطفية أصابته، غاص في التيهان لمدة استنارت عيناه بحمرة كأنها لهب،ثم ما فتئت أن أرسلت شعاعا ينُزُّ شفقة ويُتْما ،بعدها انحنى للحظة ، اليدان على الركبيتين ، رَتَح قليلا في الوضعية هاته حتى اختمر تركيزه وهدن ،وبتباطؤ رفع رأسه، مرر بطن يده على ذقنه، مسح حشوة البيض المتدلية ،نشَّفَها على جنبات معطفه ........ثم صوب نظرة تعبانة على وجوه الجميع استغرقت وقتا، خلالها كان المخزني يُلاطِف الجاني ويتودد له مرسلا إليه بعض التوجيهات:(احشم ياود ميلودة ، بَدّلْ ساعة بأخرى...) ....... على أنغام هذا التودد أدبر الشيخ جثته إلى الوراء، أصدر همهمة مبهمة وراح متقـفيا أثر الحمار الذي تنحّى عن المكان
كان الوضع جنازة ، وجودي وكياني ارتفعا إلى الفراغ، ليل مظلم سكنني ،طقوسي تبعثرت، آنذاك قفزت ضحكة دون استشارتي؛ ضحكة سكرانة متبرجة تغلفها ألوان متعددة أغلبها سواد وصفرة......هكذا غادرتُ المكان وفي نفسي علامة لا أجد تصنيفا لها: علامة عن نفسي أولا ،عن الشاب ، وعن المخزني
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire
Remarque : Seul un membre de ce blog est autorisé à enregistrer un commentaire.