lundi 7 octobre 2019

بحث عن الخلاص // عز الدين بوروى // المغرب


سكون تام یخیم على الغرفة،شمعدان حدیدي كئیب یحمل شمعة تذرف دمعھا
منذ أن رحلت أشعة الشمس،وعشریني یدعى سعید واقف فوق كرسي مھترئ وحبل معلق بعنقه وھو یردد :"لقد قررت نھائیا أنني سأنتحر،نعم سأنتحر،الیوم سأضع حدا لھذه اللعنة،لعنة الوجود".
لقد قرر قراره النھائي،لا لم یتردد،صوت أمه التي توفیت بالسرطان قبل أیام یھمس في
أذنه:"لا تفعلھا یا سعید،أرجوك لا تفعلھا"،وتراءى له ذلك الصوت كصوت ملاك من الفردوس أرسله الإله للتو لیمنعه من عدم الإقدام على ذلك الفعل الشنیع في حق نفسه.ھاھو ذا یعدل عن الفكرة،ھاھو الآن ینزع ذلك الحبل من جیده ویرتمي على الأرض .
دوار شدید برأسه،ووجهه تبلل عرقا،قلبه  یخفق خفقانا شدیدا وتتسارع دقاته كما
تتسارع عقارب الساعة،تائه في مكانه كشخص استیقظ للتو ووجد نفسه وسط صحراء
قاحلة ،حیث ینعدم تماما معنى الزمان،ولایستطیع المرء حینھا حتى معرفة أي الأین
سیقصد..تراجعت سرعة ضربات قلبه ،نھض من مكانه بعد أن شرب كأس ماء وجلس على الكرسي الذي كان قبل ھنیھات قلیلة سینفذ فوقه جریمة في حق وجوده،ھذا الوجود الذي یشبه اللعنة في كل شيء ماعدا في طریقة الكتابة.
یجلس سعید على ذلك الكرسي الخشبي المھترئ ویطلق العنان لتنھیدة خرجت من
الأعماق،وبدأ یسترجع ذكریات من الطفولة المغتصبة التي لم تكن كما ینبغي لھا أن تكون،ذكریات من المدرسة،ذكریات حتى الدماغ یخشى عرضھا، ذكریات تحت
سقف الوطن.فلكل منا ذكریاته الخاصة،سواء الحسنة أو السیئة،سرعان ما تخلف في داخل كل واحد منا إحساسا لا یوصف،بل لا یطاق.
لقد كانت مرحلة الطفولة التي قضاھا سعید من أصعب المراحل في حیاته،ولعل ھذه
المرحلة ھي التي تركت أثرا بلیغا في دواخله أفقدته طعم الوجود ولونت حیاته باللون الأسود الداكن.كیف لا وقد عاش طفولة مختلفة عما عاشها أقرانه ، ففي اللحظة التي كان ینبغي فیھا أن یستجم في جبال البلاد الشاھقة ویصطاف  بالشواطئ الجمیلة ویأخذ صورا تذكاریة رفقة الأصدقاء ویأكل أجود المأكولات وھو تحت المظلة بتبانه الصیفي المزخرف بالورود،كان،للأسف،یبیع السجائر للمارة،ویمسح أحذیة كل الذین یجلسون في المقاھي،ویبیع الورد للعشاق في حدائق المدینة،كان یبیع لھم السرور والسعادة وھو في أعلى قمم الیأس.فبائع السعادة من یشتري حزنه!!
ذكرى أخرى لازال كلما یتذكرھا یود لو یلقي بنفسه من  الطابق العشرین إن ھو وجد
لذلك سبیلا. ذات یوم وھو في العاشرة من عمره، كان عائدا من المدرسة قبل أن یعترض 
سبیله أحد الجیران، وقد كان ھذا الشخص في قطیعة مع أب سعید،وكان قد أتى للتو من سفروطلب من سعید أن یحمل معه أمتعته إلى بیته،طبعا لم یمانع سعید على الطلب بحكم تربیته الحسنة.أوصل معه الأمتعة حتى فناء المنزل،وضع سعید ما كان یحمله من أمتعة وطلب الإذن بالخروج لكنه تفاجأ  بأن الباب مقفل،طلب من ذلك الرجل أن یفتح له الباب ،فرد الرجل بصوت یوحي على مكر صاحبه:"واش دخول الحمام بحال خروجو" ،وأتبع كلامه بضحكة شریرة ظھرت معھا أسنانه التي اختلفت مع الفحم في الشكل فقط،أما اللون فلا وجود لأي اختلاف.انقض علیه وحمله على وجه السرعة نحو غرفة مظلمة لكي لا یسمع الجیران صراخه،أغلق النوافذ وأظھر للطفل البریئ سوء نیته،وقال له:"أبوك یا إبني كنت قد أقرضته مبلغا مھما من المال عندما كنا في إحدى الحانات،وكان قد وعدني أمام ثلة من الناس أنه سیرد لي "فلوسي" بعد شھر،لكنني تفاجأت یوم تشاجرنا وسط الحي بعد أن قال لي حرفیا "حتى ھادوك الفلوس اللي سلفتیلي،والله ماتخذھوم"،وھا أنا الیوم سأرد له الصاع صاعین،ھاھاھاھاھاھاھا...
وانقض على الطفل الصغیر بسرعة البرق،نزع له ملابسه بالقوة واغتصبه ،لقد اغتصب
طفلا بریئا،بفعله الشنیع ھذا كان كمن أطفأ نور شمعة كانت تضیئ لیالي رجل سبعیني.إنبعض البشر،بل جلھم،بمثابة المرض العضال ،إنھم سرطان الأرض كما سماھم سیوران في خالدته "مثالب الولادة".أتعلمون ما معنى أن تكون سبب تعاسة الآخرین!!
لبس سعید ملابسه وعینیه تذرفان الدموع قطرة تلو الأخرى وأمامه مباشرة ذلك الرجل
یھدده بأنه لو أخبر أحدا بالأمر فسیضطر بأن یقتله أو یقتل أحدا من والدیه،لازال سعید
یرتعش في مكانه ویومئ برأسه یمنة ویسرة مشیرا على أنه لن یخبر أحدا بالأمر.
فتحت الباب فانطلق مسرعا في اتجاه بیته بعدما غسل وجھه بالماء لكي لا تظھر علیه أیة علامة من علامات البكاء،وفي طریقه تذكر ما فعله ذلك الشریر به،فبدأت الدموع تتساقط  من عینیه بغزارة وقرر حینھا أن یخبر والدیه بالأمر،متناسیا تھدید الرجل له،وصل إلى المنزل ووجد الباب مفتوحا،وسمع صراخ والده یتعالى وسط فناء المنزل وھو یقول :" ھل نسیت جمیلي،ھل نسیت یوم أدخلتك منزلي بعدما كنت وسط الحانة ترتمین بین الأحضان،لقد أتیت بك إلى ھنا،إلى منزلي وابنك لایزال صغیرا،ھل نسیت كل ھذا؟،بربك أخبریني،ھل إبنك یعلم بالأمر،ھل أخبرته بأنه  لیس من نسلي،ھل أخبرته بأنك أتیت به  خطأ إلى ھذا الوجود؟ھیا تكلمي...؟!
لقد سمع سعید كل شيء،وفھم كل شيء رغم صغر سنه،أخبروني أيها السادة،ھل یبكي الذي بلغ منتھى الحزن؟ أین السبیل بعدما انعدمت الرؤیة؟.
مسح دموعه وغدا مھرولا إلى حافة النھر،ھناك فوق صخرة كبیرة سیجلس سعید لیدخن أحزانه،ھناك حیث الجو المسائي ھادئ والجو الجواني لسعید ضبابي.
في الیوم التالي قصد محطة القطار،وركب خلسة مخافة أن یراه المراقب،لقد حمل ذلك
القطار یومھا امتعة منقطعة النظیر،أمتعة من الأحزان لطفل في عمر الزھور،طفل لسوء حظه،تزامن ربیعه مع خریف الإنسانیة،حیث انسلخ البشر من انسانیتھم وأصبحوا وحوشا لبعضھم البعض.وجد نفسه في مدینة أخرى غریبا،فبدأ یعمل كما كان یعمل في السابق لیضمن قوت یومه،یبیع الجرائد والمجلات یمسح أحذیة المارة،وتلك الدراھم المعدودات التي یجنیھا كل یوم كان یسد بھا رمقه وما تبقى كان یدخنه..لقد ظل على ھذه الحال لمدة عقد من الزمن،لقد أخذت الحیاة منه الشيء الكثیر،أخذت منه كرامته،طفولته،وكل شيء جمیل فیه،عندما بلغ سن العشرین عاد إلى مدینته حیث تقیم والدته لیرمم ما یمكن ترمیمه،دخل علیھا فوجدھا طریحة الفراش، حاجباھا لم یعد فیھما أثر للزغب،أما شعر رأسھا فلا یزالیتساقط،كومة من الزغب ھنا وھناك،إنھا مریضة بالسرطان،لقد أصبحت نحیلة كشخص یعاني من المجاعة،عانقته وعانقھا في جو كئیب،بدأت تذرف الدموع وتطالبه أن یسامحھا،قالت له :"یا بني،إنني أعرف حجم الزلة التي اقترفتھا في حقك،وأعلم أنك عرفت الحقیقة وابتعدت عني،فلتغفرلي یا بني ھذا الخطأ،لقد كانت زلة اقترفتھا قبل عقدين من الزمن في حانة من حانات المدینة،حیث وضعت كامل ثقتي بصاحب الحانة،وقد كان رجلا غنیا عن التعریف،رجل یعرف بكثرة أمواله ویملك من الأراضي والمحلات الكثیر الكثیر،كنت حینھا فتاة في مقتبل العمر أنحدر من أسرة فقیرة،فقررت أن أعمل من أجل إعانة والدي على تكالیف البیت الباھضة،وبالفعل خرجت صباحا والتقیت صدفة بھذا الرجل وھو بداخل سیارته
،فتح زجاج السیارة وبدأت أطلبه بأن یسمح لي بالعمل بمنزله أو بأحد محلاته،قال لي "ھل تستطعین العمل بحانة من حاناتي ،تغسلین الكؤوس وتنظفین الأرضیة فقط!"،لم أمانع حینھا ، وقبلت فورا ومن دون تردد.بدأت العمل وكنت أعود متأخرة إلى البیت ،لكن والدي لم یقلقه أمري،فقد كان ھمه الوحید ھو المال،المال فقط،كان الرجل صاحب الحانة یدعى الحاج علال،رغم أنه لا یعرف حتى مكة المكرمة في أي بقعة جغرافیة تكون،لكن بفضل المال والجاه والسلطة أنت إنسان كامل خال من العیوب، حتى لو كنت شیطانا ستصبح في نظرالآخرین ملاكا،بفضل المال أنت الإله والآخرون لك عبیدا.بدأ الحاج علال یتقرب مني یوما بعد یوم،وكنت قد أتممت یوما شھرین من العمل بالحانة دون أجر،وذلك الیوم أتى إلینا وجمعنا بمكتب صغیر وقال لنا أنه سیعطینا أجورنا دون زیادة أو نقصان ،ونحن على مشارف إغلاق الحانة،حیث غادر آخر الزبائن المكان ،أتى الحاج علال وأعطى كل عامل أجره إلا أنا،وقال لي أنت سأوصلك إلى منزلك بسیارتي وسأعطیك كل مستحقاتك،فلا تقلقي.أغلقنا المحل وركبنا السیارة،لكنني تفاجأت بكونه غیر مسار السیارة في اتجاه آخرمخبرا إیاي أنه یعرف طریقا مختصرة ستوصلنا إلى المنزل في دقائق معدودة،وفجأة قدم لي مشروبا غازیا،لكنني لم أكن أعرف أن بداخله منوما ما إن شربته حتى غفوت زھاء ثلاث ساعات،عندما استیقظت وجدتني عاریة فوق سریر داخل منزله وبقع الدم فوق السریر،لقد كانت المرة الأولى التي تفتض فیھا بكارتي،دخل علي بعدما ارتدیت ملابسي وأنا أصرخ في وجھه وھو لا یحرك ساكنا،قال لي أنه لم یعرف ماذا حدث،وأعطاني أموالا مضاعفة ،وقال لي أنه سیتحمل مسؤولیة كل ما حدث وما سیحدث،عندھا أوصلني إلى البیت فوجدت أبي مستیقظا لأداء صلاة الفجر فأعطیته كل ما بحوزتي من مال دون أن یكلف نفسه عناء
السؤال عن سر ھذا التأخر،المال كل شيء بالنسبة لھم،اخسر أنت كرامتك فلا مشكل،أما أن تأتي دون مال فھذا جوھر المشكل.بقیت على تلك الشاكلة لمدة شھرین متتابعین،ستون یوما وأنا أعمل حتى وقت متأخر من اللیل،وذات یوم بدأت أتقیأ وسقطت وسط الحانة،أتى الحاج علال وأوصلني إلى البیت وأعطاني القلیل من المال كي أزور الطبیب في الیوم الموالي،وبالفعل ،ما أن أشرقت شمس الصباح،وكانت درجة الحرارة جد مرتفعة،وجو حتى الحیوانات تمقته،لا أحد عند الطبیب سوى أنا،أجریت الفحوصات وكانت الفاجعة،مبروك علیك سیدتي أنت حامل،لقد أصابني دوار شدید وبدأت أتلعثم في الكلام،وھممت بالخروج مسرعة والدموع بعیني تنھمر ،قصدت الحانة مباشرة ووجدت السي الحاج بمفرده حاملا سبحة ،لأول مرة بحیاتي أجد شیطانا یحمل سبحة،دخلت معه في صلب الموضوع مباشرة ومن دون مقدمات:"السي الحاج أنا حاملة،حاملة منك"،سمع كلامي وانتابته نوبة من الھستیریا :"حامل،اه،حامل،إذھبي وابحثي عن أبیه یا قلیلة الأدب،انصرفي من ھذا المكان أیتھا العاھرة،أنا متزوج وأبنائي یكبرونك سنا،ھیا اغربي عن وجھي،لا أحبذ أن أراك مرة أخرى ھنا "،ونادى على رجاله وأمرھم بأن یخرجونني من ذلك المكان على الفور،وألا یدعونني أعود مرة أخرى،لقد رموني خارج الباب وھم یشتمونني،ھیا أیتھا العاھرة اذھبي من ھنا ولا تعودي.ذھبت إلى مخفر الشرطة لأخبرھم بالأمر لكنني تفاجأت بكون والدي ھو الآخر متواجد ھناك،ما الأمر!!،دخلت لأبلغھم بالأمر فأخبروني أن أبي قدم شكایة ضدي یقول فیھا أنني بائعة ھوى وأنني آتي للبیت في ساعات متأخرة من اللیل،یا الله ما ھذه المصیبة،بعد ھنیھات قلیلة تفاجأت بدخول أبي ومعه الحاج علال وھما بالحدیث ومھاجمتي أمام ضابط الشرطة،تحدث الحاج علال أولا:"الشاف،ھاد البنت درت فیھا خیر وفالتالي تاھماتني بأنني اغتصبتھا،والأب دیالھا شخصیا كیأكد على العھر دیالھا"،بكلامه ھذا أشعل نیران الغضب بدواخلي،لیتم أبي الكلام قائلا :"یا قلیلة الحیاء،ھل تجرأت بین لیلة وضحاھا بأن تتھمي سیدي علال بھذا الأمر الشنیع،وأنا أعرف أنه إنسان طیب ومتزوج وأب لأبناء یكبرونك سنا،وھل
تظنین أنني نسیت اللیالي التي كنت تأتین فیھا متأخرة إلى البیت،ھنا أعلن أمامكم سیدي
الضابط أنني أتبرأ من ھذه المومس،وأنھا لیست إبنتي".بكلامه ھذا كان قد أطفأ أنوار ذلك الأمل البسیط في حياتي،لقد أھانني،لقد قتلني بكلامه ھذا.والأكثر من ھذا أن لا أحد استطاع أن ینصت لي،فأبي ھو الآخر تنكر لي بمجرد حصوله على مبلغ متواضع من المال وسماعه كلام السي الحاج الذي كان في نظر أبي بمثابة الإله،لقد ذھب الحاج علال على وجه السرعة إلى منزلي وقام بتھدید أبي وأن الأمور ستزداد سوءا إذا ما قمت أنا بفضحه وسط
المدینة،وإظھار سمعته الحقیقیة للساكنة،فقام بعرض مبلغ من المال على والدي الطماع،وقبل العرض على الفور،وقاما ھما الإثنان بخلق سیناریو لقصة مفادھا أنني عاھرة بشھادة الجمیع،وذھبا إلى مخفر الشرطة في الحین وأخبروھم بكل شيء،السي علال بماله وجاھه،وأبي بشھادته.كان على الإله أن یعد مكانا تحت الدرك الأسفل من النار لیضع فیه أناسا من طینة أبي والحاج علال.لقد تم الزج بي في السجن رفقة بعض من بائعات الھوى ممن كن تتجولن بالمدینة یبعن أجسادھن بدراھم بخسة،قضیت عاما بأكمله ھناك،لقد ولدتك یاإبني داخل السجن،وكم كنت فرحة بك،فقد كنت أعیش وحدة منقطعة النظیر حتى أتیت إلى حیاتي وأصبحت أنیسا لوحشتي،وكنت سعادتي،كنت كل كلي یا إبني،لقد كان میلادك كخلاص لي،فبعد أشھر قلیلة على ولادتك أتى الفرج وخرجت من السجن.یوم خروجي،أو لنقل یوم خروجنا من السجن التقیت برجل یعمل كسائق لشاحنة كبیرة،كنت أعرفه قبل دخولي للسجن،فقد كان مدمن خمر،وكان دائم الحضور للحانة،أخبرته بكل ما حدث لي،وأشفق علي،وقال لي أن الحاج علال توفي قبل شھرین في حادثة سیر خطیرة ،وكان ھذا الخبر قد أثلج صدري وأعادني للحیاة من جدید،وأخبرني كذلك أنه بصدد البحث عن زوجة،وقال لي ھل تقبلین الزواج بي،قلت لم لا،فأنا إذا رفضت الأمر سیصعب علي مواجھة الحیاة وأنا في تلك الحالة.وأضاف،"أود إخبارك أنني لم أعد أدمن الخمر وسأتزوجك ،وأھتم بك وابنك كذلك"،لقد قبلك وقلت له أنني اخترت لك إسم سعید،لأن میلادك خلق جوا سعیدا في حیاتي.تزوجنا وعشنا سعیدین لمدة ست سنوات ولم أكن أعرف أنه كان مقامرا،فمن الإدمان على الخمر إلى الإدمان على القمار،لقد أدمن على القمار أیما إدمان حتى خسر كل أمواله وقد كنت أنت تدرس بالسنة الثانیة من سلك الإبتدائي،وفي نفس العام تتالت علینا المصائب وأصبت بمرض "الروماتیزم" وقد تم الزج به في السجن لكثرة الدیون التي تراكمت عليه ،عندھا ضاعت طفولتك أنت،فقد كنت تبیع الجرائد وتمسح الأحذیة لكي تدرس ،لقد كنت تعمل صیفا لترتاح شتاءا.خرج زوجي من السجن وتغیر كلیا وعاد لیدمن الخمر من
جدید،ففي أحایین كثیرة كان یشرب حد الثمالة ویأتي للمنزل وینھال علي ضربا ویقول لي أنني السبب وراء كل ما وقع له،لقد ظل على ھذا الحال حتى توفي بعدھا بجلطة دماغیة.في ذلك الوقت بالذات كنت أنت قد غادرتنا وكنا قد تعبنا من البحث عنك،عندھا جمعت أمتعتي وقصدت منزل والدي الذي كان ھو الآخر قد توفي بمرض عضال لم ینفع معه علاج،وجدت فقط والدتي رفقة أخي الذي یكبرني بسنوات والذي قد تزوج ورزق بطفلین،بحث لي عن عمل كخادمة عند سیدة یعرفھا،وبالفعل عملت عندھا لمدة لیست بالطویلة حتى اكتشفت بعدھا أنني مصابة بالسرطان،من ذلك الوقت حتى الآن وأنا أتعالج بمساعدة تلك السیدة وبعض المحسنین،لكن یا إبني لا أظن أنني سأعیش لمدة طویلة،فقد أخذ المرض مني كثیرا،وقد كنت لیل نھار أطلب الله أن أجدك قبل وفاتي،فاغفرلي یا بني،أرجوك".أنھت كلامھا،وبقي سعید یبكي أمامھا بشدة،وحدثھا قائلا:" فلتعلمي یا أمي أنني سامحتك،لكن أود أن أقول لك أنه كان لزاما علیك أن تجھضینني،لم یكن علیك أبدا أن تأتي بي إلى ھذا العالم القذر،حیث یعیش أناس بدون ضمیر،یحكمھم منطق المال وجمع الثروات فقط،لم یفكر أحد یوما أن یكون نبیلا،بل إنه لأمر في  غایة الصعوبة أن تصبح إنسانا نبیلا في عالم قبیح لحد القذارة،كان علیك أن تفكري كثیرا قبل أن تلدینني وتأتین بي لھذا العالم،لو كنت أعلم أنني سأولد بداخل سجن لأجھضت نفسي بنفسي،ماذا فعلت لكي أولد في عالم یحكمه
الشر،ماذا فعلت لأخرج من عتمة سجن البطن إلى سجن آخر،سجن رفقة بائعات الھوى
وأخریات،بل الأفظع من ھذا أنني خرجت من سجن صغیر إلى سجن أكبر بكثیر من ذاك المعھود،خرجت إلى سجن الوطن،سجن بدون قضبان یحكمه الشر وحیث لا وجود للخیر،إن البحث عن إنسان خیر بوطني لیشبه كثیرا البحث عن نملة صغیرة الحجم في غابة الأمازون.لقد تعذبت یا أمي كثیرا خلال ھذه السنین،فقد تعرضت للاغتصاب مرتین،مرة من طرف أحد الجیران،ومرة من طرف الوطن،ولعل اغتصاب الوطن لي وتكالبه علي كان الاغتصاب الأكبر.عملت بدراھم بخسة وكنت نادرا ما أحضر الحصص الدراسیة رفقة بعض العجزة ممن یحاربون الأمیة في تلك المدینة،رغم ذلك قد تعلمت الكتابة والقراءة ولو قلیلا.مسح دموعه وأعطى بعض المال لأمه،وخرج في الحین یبحث عن عمل لیساعد به أمه.
ظل یعمل كناذل لمقھى بالقرب من الحي الذي یسكن فیه،وذات یوم أتى رجل ستیني
مقعد في كرسي متحرك رفقة إبنه إلى المقھى ،فذھب نحوھما سعید وسألھما ماذا یودان أن یشربا،فأمره الإبن أن یأتي بكأسي عصیر برتقال،فدقق سعید النظر بذلك الستیني المقعد فعرفه،إنه الشخص الذي قام باغتصابه،ھاھو القدر یفعل به ما یرید،بل الأكثر من ھذا أنه أصبح أصما أبكما. ردد سعيد الحوقلة بنفسه،وانصرف لیأتي بكأسي العصیر.
عاد في وقت متأخر من اللیل فوجد نحیب الجیران یتردد بمنزلهم،فذھب مسرعا فوجد
أمه قد فارقت الحیاة،تاركة إیاه غارقا في بحر الأحزان حتى الأذنین.دخل في اكتئاب حاد جراء ما عاشه ھذا الشاب الذي تكالبت علیه الأقدار،وأصبح وحیدا في وطن الأحزان.لقد أقدم مرات عدیدة على الإنتحار،لكن لازال صوت أمه یھمس بأذنه في آخر اللحظات،ویعیده إلى رشده.ما أصعب أن یشتق إسمك من السعادة وأنت غارق في عالم البؤس والكآبة.
في اللحظة الأخیرة بعدما فتح نافذة الغرفة وبدأ یدقق النظر في المارة كإله في السماء
السابعة یتفقد للتو أمور المستضعفین في الأرض،دقق النظر في بعض الوجوه فوجد تجاعید السعادة قد غابت عنهم نھائیا،علم حینھا أنه لیس الوحید من یحمل ھذا القدر من
الھم والحزن، فتراجع عن فكرة الانتحار،أغلق النافذة وبدأ الكتابة،لقد وجد سعید خلاصه
أخیرا، إن الكتابة ھي منفى كل سجناء الوطن، منفى كل البؤساء والمقھورین، ھي ملجأ
الأرواح المتكسرة.إن الكتابة أحیت الكثیر من الموتى،إنھا في كثیر من الأحیان تعمل 

عمل الآلھة،تبعث روحا جدیدة في الأجساد الھشة.



Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire

Remarque : Seul un membre de ce blog est autorisé à enregistrer un commentaire.