:تتمة مقال
"بيان الحداثة في الشعر العربي المعاصر" من خلال ديوان "لون الماء"، آخر إصدارات الأديب / الشاعر و الناقد عبد الكريم بدرخان
2 ـ سؤال الكتابة
عبد الكريم بدر خان ليس من مريدي و لا من دعاة مذهب "الفن من أجل الفن"... صحيح أن الجمالية عبر نصوصه الشعرية هدف اسمى، لكن فعل الكتابة عنده سؤال وجودي بامتياز... و قبل مقاربة هذا السؤال في تضاعيف هذا المقال، لابد من الاشارة على سبيل التمهيد إلى معطى جوهري: كتابات عبد الكريم بدر خان "تفاعلية" (intéractive)
بمعنى أنها تثير القارئ تارة، و تستفزه مرارا و تكرارا... تدعوه ل "السفر" (Invitation au voyage ) عبر "فلسفة نفي النفي": نفي القصيدة.. حتى لا يبقى مجرد مستهلك محايد و سلبي.. و يطرح الأسئلة عن سبب نفي القصيدة في القصيدة
نقرأ
"تعرفين أن الكلمة التي لم أقلها
أعمق من كل ما قلت
و أن القصيدة التي لم أكتبها
أجمل مما كتبت
و أن المرأة التي أخاف من حبها
توجعني أكثر من اللواتي أحببت."
و كأن الشاعر في سياق كلامه هذا، يجسد بالملموس إحدى النظريات الحديثة الأكثر تداولا في "علم سياقات الخطاب" التي لخص خصائصه العالم اللساني الانجليزي أوسطين (Austin ) في كتابه الشهير "لما يكون الكلام فعلا" (Quand dire, c’est faire)... و اختزلها في أبعاد ثلاث:
ـ الملفوظ كبعد لغوي لفظي (locutoire): يدعو المخاطب (القارئ) إلى فهم المعنى اللغوي اللفظي الأولي المتداول للمفردات و الجمل، و صيغ الكلام (إخبار؟ استفهام؟ تعجب؟ إقرار؟ نفي...)... و في سياق النص أعلاه، نجد النفي ("لم أقلها".. "لم أكتبها) و الضمير الفعول به تقديره هي القصيدة، و الإقرار ( "أن المرأة التي أخاف... توجعني أكثر..")
كلا الصيغتين (النفي / الإقرار) تجعلان القارئ يتساءل: أين القصيدة؟ ما المقصود بهذا النفي / الإقرار؟
أسئلة كهذه تدعوه إلى اكتشاف البعد الثاني للملفوظ الذي تحدث عنه أوسطين
ـ الملفوظ كبعد مجازي (Elocutoire): و يعني الانزياحات اللغوية و الأسلوبية و البلاغية.. أو بعبارة أدق: المسكوت عنه داخل النص: النوايا الخفية للشاعر.. الشيء الذي يجعلنا نستشف رسالة الشاعر لمخاطبته في النص، و للقارئ المتلقي: رسالة ديداكتيكية/ تعليمية مفادها أن الشعر ليس كلاما مباشرا يوميا عاديا... هو كل تلك الحمولة الوجدانية و الثقافية و الفكرية... التي يوحي بها ملفوظ النص، و لايقولها.
:نقرأ في نفس السياق
"ـ أحمد الله... لست بشاعر !
ـ نعمة وهدي؟
ـ مثل موت سدى !
...ـ مثل قبلة عاشقة للجنون"
كيف لشاعر أن يقول على نفسه أنه ليس بشاعر؟
:هو البعد الثالث لأفعال الكلام عند أوسطين
:ـ الملفوظ كبعد محفز لردة فعل (Acte perlocutoire)
و يتجلى هذا البعد في ردة فعل المخاطب / القارئ لما لا يفهم، أو لما يعجب، أو لما لا يجد متعته ... لما تتحقق أو لا تتحقق آفاق انتظاراته من الخطاب الموجه إليه
2 ـ 2 ـ لماذا نكتب؟
:أعجبني جواب إحدى الكاتبات، لتشابهه ضمنيا مع فعل الكتابة عند عبد الكريم بدرخان لما قالت
" الكتابة، سؤالنا الحارق في خضم هذه التبدلات والمتغيرات العاصفة بنا من كل جانب، هو كيف سيكون غد الانسان في عالم يتحول الى متحف مهجور... كيف سيكون تفكير هذا الكائن الهش وماذا عن نظرته للأشياء وجملة همومه الاجتماعية والثقافية التي تتضمن في ما تتضمن : الكتابة عموما والنص الشعري تحديدا."
أما عبد الكريم بدر خان ف "يكتب لنفسه عن نفسه شعرا".. كتب في حوار (مفترض؟) مع صديقه (صديقي) الكاتب السوري العملاق مصطفى تاج الدين الموسى:=
"قلت (يقصد صديقه مصطفى) أرض القصيدة محروثة من ألف نبي،
...و أما الرواية بكر
ستنجب سبع ورود... كسبع نساء
قلت (الشاعر/ الأنا): في الشعرأكتب نفسي لنفسي
و ما همني أن تموت البلاغة
...أو يسقط الشعراء؟"
الأمر لا يتعلق هنا بتفاخر بين الأجناس الأدبية (رواية/ شعر)، بقدر ما هو الدفاع عن اختيار: ماذا تكتب؟ ـ أكتب شعرا.. و بما أن الشعر أكثر توظيفا للانزياحات من النثر، و لأنه (الشعر الحر) ليس مجرد محاكاة لأساليب لغوية و بلاغية سرمدية.. و لأنه حداثي في أشكاله و مضامينه.. و لأنه متمرد عن "حرس اللغة".. فلا يهم كاتبه أو قائله نيل رضا أصحاب العمائم يلكون شاعرا و ما يبدعه شعرا.
و حتى لما يصرح "أكتب نفسي لنفسي"، فالأنا هنا لا تعود بالضروري لذات الشاعر الشخص المفرد.. هي "أنا" جماعية حاملة لهم وطن، و وجود، و كنه، و ماهية، و مصير
وفي هذا المقام يقول "العقاد" بأن
"التأليف بين القيود والحرية" يمكن أن يتخذ ميزانا صحيحا لوزن الأمم والأفراد أو الحضارات والآراء والفنون فكلما اقتربت الأمة أو الفرد أو الحضارة أو الرأي أو الفن إلى حسن التأليف بين أفراح الحياة وأوزانها بين خيالها وعروضها بين معناها وصورتها كانت أقرب إلى السمو والنبالة والصدق لأنها أقرب إلى القصد الإلهي ووجهة الكون البادية في جميع أجزائه" (مطالعات في الكتب والحياة ص7)
ـ لماذا نكتب إذن؟ (سؤال نعيده للمرة الألف)
:2 ـ 3 ـ الكتابة سؤال وجودي
:نقرأ
"قلت: مادية الجدلية تحكمنا
و المثالية انتحرت
و الجنون يطيرننا شررا في الهواء
:قلت
نبني الوجود من العدم المتناثر في روحنا
...و من العتم نسحب سيف الضياء"
هي فلسفة عبد الكريم بدرخان الشاعر و المثقف و المناضل الملتزم مع قضايا الانسان و المجتمع... هو التفاؤل بعينه لما يقول
"نبني الوجود من العدم المتناثر في روحنا"... و هو الشاعر الذي ما رضى على نفسه تقديم استقالته كما فعل الكثير من الشعراء الجبناء: " و من العتم نسحب سيف الضياء"..
و ما اختيار الماء كعنوان لهذا الديوان "لون الماء" إلا استشراف لدلالات كتابات عبد الكريم بدر خان كسؤال وجودي... أليس الماء سر، و وضامن الوجود (وجعلنا من الماء كل شيء حي: كلام الله)... فالدراسات السيميائية للشعر العربي قد أثارت دلالات هذه "العلامة" (Signe) العنصر الحيوي (الماء) في الشعر الجاهلي عند عبيد بن الأبرص، و في الشعر الاسلامي عند الحطيئة، و الشعر الأموي عند جميل بثينة، و الشعر العباسي عند بشار بن برد، و الشعر الأندلسي عند المعتمد بن عباد، و الشعر الصوفي عند محيي الدين بن عربي، و في الشعر الحديث عند محمود درويش.
:كتب الباحث في السيميائيات عزيز العرباوي في هذا السياق
"لقد استعمل الماء في الكثير من الأشعار العربية على مر العصور استعمالا مخالفا للمعهود عليه و المألوف في الثقافة الانسانية، فقد تم استحضاره في التشبيه، و في المقارنة، و في المدح، و الرثاء، و الهجاء، و الغزل، و الحزن، و المعاناة، و الغرق، و الضياع، و التشرذم، و التقدم، و التخلف، و المأساة و السخرية...".
لا لون للماء و لا شكل له، رغم ما جاء في عنوان الديوان (لون الماء)... و قد يكون له لون في نظر الشاعر عبد الكريم بدر خان، لأنه يتجلى في تمظهرات عدة... فهو
ـ ما يغسل عرق الكادحين المغفلين
:نقرأ
" بينما كنت أسكب الماء فوق العرق
و أنسج من الكلمات حمالة لنهود النساء
...كنتك
تدمرون البلاد"
:ـ هو المطر في وطن تمطر سماؤه رصاصا
:نقرأ
"أسقي الحمام جراحاتي و أغسله
إلى تراب... دموع الله تغسله"
(...)
.." و لحمص
أرفع كأسي العطشى
و أحلم بالمطر"
:ـ هو الدمع أسفا على مصير بلد
:نقرأ
" أراك عارية... كالدمع يا بلدي
أخشى على النهد من حبي و من حسدي"
:ـ هو البحر المرأة الحبيبة/ الأرض
نقرأ
" ما عدت أذكر
كان بحرا... ربما
أو كنت أنت البحر
أحمله و يحملني إلى غرق جميل"
:ـ هو الخمر دون كحول كشاعر بلا دموع
نقرأ
"فاض نهر المدينة
و لم أبك
رجل بلا دموع
مثل البيرة بلا كحول و الزهور الاصطناعية
وكغيري من منتجات الحداثة
...أبتسم لكم من واجهات المحلات"
ـ هو الشاعر يبدع الوجود من عدم
نقرأ
"أنت حلم
تولد من عدم
و تجلى بآلاته في مرايا الوجود
(...)
و إنني الماء... لو رجلاك تغسلني
لصرت كأني من الفيروز في اللهب"
قراءة ممتعة للديوان أتمناها لكم... و لنا لقاءات أخرى مع المبدع الشاعر الرائع عبد الكريم بدرخان
بوزيان موساوي... كاتب من المغرب
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire
Remarque : Seul un membre de ce blog est autorisé à enregistrer un commentaire.