vendredi 19 avril 2019

أحتاج سوادا حالكا ..// حبيب القاضي // تونس


صرخ بأعلى صوته.." لتلقوا بي في قبوٍ، أحتاج سواد حالكا".. العادة السيئة التي اكتسبها من بداوة طفولته، عادة استقبال أول أشعة الشمس، نسائم النهار الأولى كأنها شاحن كهربائي ليكمل يومه، يخرج مسرعا على عجل كمن يحاول أن يدرك صلاته في كعبة الرحمان، تحسّس هاتفه في جيبه، ليلقي على صورتها تحيّته الأولى و يقبّلها رغم الأميال الفاصلة بينهما، منذ عرفها دأب على القيام بذلك تيمّننا بابتسامتها، هي لذّةٌ لبنِّ القهوة بين شفتيه، ضياءُ عينيه..يسحب تلك الهديّة التي تركتها في آخر لقاء، يملأ رئتيه برائحة عطرها، حين سلّمتها له قالت " هذه أدق تفاصيل أنوثتي، هذه عصارة رائحتي.. لن أمّحي منكَ مهما حاولت". المسافة إلى المقهى قصيرة تكاد لا تقاس بالزمن، جلس بمكانه المعتاد منتظرا أول الأشعّة، استغرب النّادل بشاشة وجهه و هو يضع فنجان الاكسبريس، " وجهكَ ينير اليوم.. يا صاحبي". غرق في خيوط ذاكرته و هو يعيد قراءة حوارهما البارحة، حدّثته عن اشتياقها، عن ظلم المسافات، عن تأرجحِ قلبها كناقوس كنيسة مشرقية، حدثّته عن الخوف من القادم، قالت له " أخاف أن يحترق حلمي.. أخاف فقدانك". دموع تخلّلها الحوار، الشّوق يجعل المآقي كسماء ماطرة، و الدّمع غيث الروح إذا حنّتْ، ضحكات مطوّلة، اعتادت مزاحه و كان يقهقه عاليا غير مبال بمن حوله حين تشتُمُ الدنيا في غنج. يأخذ الحديث مجراه الحميمي، كجدول ماء يكبر و يصبح نهرا، ليبلغ بحر اللّذة، يغيب كلاهما في الآخر، و يلتهب جسديهما، فيتعرّقا في نفس اللحظة و في مكانين بعيدين..إبتسم و هو يذيب قطعة السكّر، صورتها على شاشة الهاتف بكلّ ألقها و ألفتها، أدمن كل شيء فيها. حين رفع عينيه، كانت سيدة تعبر الشّارع، كانت بنفس ملامحها، نسخة منها، نسخة طبقا للأصل، فرك عينيه، لم يتذوّق قهوته بعد، حين اقتربت غمرته ريحها التي احتوته ذات لقاء، ارتمى على الكرسي حين تجاوزته غير عابئة به، كاد يحتضن المرأة و يعتصرها بين ذراعيه، الشّمس اعتلت المباني، تبدو كزمرّدة، تقذف في داخله دفءا، تدب الحركة في الشارع.. امرأة قادمة بنفس ملامحها، الجسد، لون الشعر الفاحم، الحاجبان الهلالان، العينان تحملان جينة صينية، النهدان المنتصبان تحت الثياب في خجل وتحدّ..يا للهول، كل النّساء اللواتي يتجهن إلى شؤونهن أصبحن شبيهاتها، لعلّها هي أصبحت جميع النّساء، لمَ لا تلقي التحية عليه، تحتضنه، تبتسم له، تعاتبه أو حتى تشتمه.. حاول فهم الأمر، نفس المباني و نفس الشارع و نفس المقهى.. أطفال المدارس على حالهم، أمر وحيد فقط جميع النساء تقمصن جسدها، هو الآن ليس بإمكانه أن يميّز بينهن، اعتبر الأمر مجرّد هلوسة، دفن رأسه في الفنحان، سحب نفسا عميقا من سيجارته، تعمّد أن تصيب دوائر الدخان عينيه، لكن لم يتغيّر الحال.. هي سكنتْ كل امرأة و كل امرأة تلبّست بها، ليس بمقدوره أن يفعل شيئا، عن أي عمل تتحدث أيها المعتوه، أجاب نفسه، عن أي حياة، كيف سيتحرر من هذا الكابوس، من وجهها العابر في كل لحظة، من رائحتها، كيف يمكنه أن يميز، ليس بمقدوره أن يخبر أحدا، لمَ لم تحضنه إحداهن كما تفعل هي، كيف سيتحرر منها، كرهها، تمنى لو أنه يستطيع تمييزها، لقطع جذعها إلى نصفين، لشوّه جسدها، لأحرقها، فكر أن يفقأ عينيه حين استلقى على فراشه، الشفتان مطبقتان، لم يتعرف على زوجته كانت بنفس ملامحها، صوتها ملابسها، كانت حبيبته.. "أنا لا أحبّك" صرخ بأعلى صوته و سال دمع بلون الدم من عينيه، سال على خدّيه و رسم زهرات على الوسادة.. " أكره الوجوه، أكره الفوانيس و الشمس و القمر.. أحتاج قبوا و  سوادا حالكا.. أحتاج موتا مريحا

********

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire

Remarque : Seul un membre de ce blog est autorisé à enregistrer un commentaire.