mardi 23 juillet 2019

قصة المهاجر المحظوظ // محمد أوكنا // المغرب


كانت بداية الرحلة من صميم تلك القرية النائية.ففيها ترعرعت وبين سواقيها وحقولها المترامية الاطرف ركضت.فابدعت الطبيعة في الحنو تارة والقساوة أخرى.
كنت بمعية إخوتي نتنقل بين المسالك الوعرة للذهاب إلى المدرسة إرضاء لامي التي كانت لا تبخل علينا بحنانها وعطفها.وما اكثر ما كانت تترقب عودتنا،فلا تحلو لها الحياة إلا ونحن بجانبها نشاركها هموم الأشغال اليومية.فكانت ترتب لنا ما نقوم به وفق برنامجها اليومي بين من يسعى لجمع حطب التدفئة وآخر يجلب الماء من البئر وهكذا دواليك.اما انا فقد كان دوري يقتصر على إحضار البهائم إلى الحظيرة،بعد الإنتهاء من الرعي الذي كان الاب يتكفل به.
هكذا شاءت الاقدار ان تختطفني من جو الدراسة لتلقي بي في عالم آخر ستاتي تفاصيله لتحكي ما تحكيه من روايات.ففي الحقيقة،ما كنت لاذهب إلى المدرسة لولا تلك المسؤولية الملقاة على عاتقي ،مسؤولية مرافقة الإخوة وتأمين مسارهم الدراسي. فكيف لي ان أعي الكتابة والقراءة في وقت لا احسن فيه حتى إمساك القلم بينما اجيد إمساك عصا الرعي،وتلك القصبة التي تفننت في جعلها نايا مزركشا يرافقني أينما حللت وارتحلت.حتى ان استاذي ذات يوم،وفي حملته المعتادة لتفقد الأدوات المدرسية،وجد ما لم يكن في الحسبان.ما هذا؟ فكان ان اجبته بانه آلتي الموسيقية التي اعزف عليها.ماذا ؟اتظن نفسك انك في المعهد الموسيقى.لم يتبق لنا سوى هذا.لطالما نبهتك للإهتمام بالدراسة ولكن دون جدوى.وتيقنت الآن بأنك تريد ان تغير مسارك الدراسي إلى الفن والغناء.واعتقد انك ستبدع في هذا المضمار اكثر من غيره.اتمنى لك مشوارا طيبا يا بني.
لازالت كلمات الاستاذ ترن في اذني.وكان ادرى مني بواقعي المدرسي،فلم يرد ان يثنيني عما كان يهيمن على مخيلتي،ويحبطني.وقد انخرطت في مسار الفن والطرب والغناء.كونا مجموعة غنائية داخل قريتنا نحن الاصدقاء.وبدأنا نتدرب في الخلاء. وحين تمكنا من تجهيز انفسنا.احيينا حفلات بسيطة ما لبثت ان تطورت إلى المشاركة في الاعراس والمناسبات،وصات لنا سمعة طيبة قادتنا إلى الإنتقال بين الدواوير والمداشر .بل إن القدر قادنا للإحتفال في المدرسة التي درست بها تكريما لبعض الاساتذة الأجلاء الذين احيلوا على التقاعد.وكانت فرحتي كبيرة للعودة للمدرسة من جديد،لكن هذه المرة كبطل من ابطال الطرب والغناء.وما اجمل ان نلتقي بالوجوه الطيبة التي كانت لا تبخل علينا بالنصيحة والعطف والحنان.هؤلاء هم الاساتذة الذين شاءت الأقدار ان تكتمل مسيرة إخوتي معهم ليتسلقوا الدرجات العليا.بيد اني لم اكن محظوظا بما يكفي فللناس في ما يعشقون مذاهب.
تتوالى الأيام وتمر مر السحاب ونحن بين الحال والتجوال، وجاء اليوم الموعود كما شاء رب الوجود.بين تلك الفجاج وعلى مقربة من منزلنا تراءى لي من بعيد منظر سيارة متوقفة وتناهى إلى مسامعي صوت غير مألوف.لا هو عربي ولا امازيغي.إنه اجنبي وبالضبط فرنسي.هذا ما استوعبته لانني مازلت اتذكر كلمات كنا نرددها صباح مساء.(موسيو...موسيو.monsieur ..monsieur )هكذا كان ينادي احدهم من تلك السيارة.قصدته مسرع الخطوات. بما اوتيت من علم حاولت ان اتحاور معه.وفهمت في آخر المطاف انه كان يريد بعض الماء لسيارته المعطلة.كان رفقة زوجته وولده وابنته.وبعد ان قدم لي افراد اسرته عرضت عليه الضيافة ريثما يتم إصلاح السيارة.قبل طلبي ثم قصدنا المنزل.تعرفوا على الاسرة وهم يحتسون كؤوس الشاي وما جاد به ذاك المساء.واقترحت عليهم قضاء جزء من عطلتهم معنا في قريتنا التي كانت تعج بالسياح نظرا لموقعها الجغرافي الطبيعي.فقوبل الإقتراح بالإيجاب.قضينا الليلة تحت خيمة كبيرة اقمتها خصيصا على شرفهم.أقمنا خلالها مأدبة عشاء ونحن نتجاذب اطراف الحديث من هنا وهناك.فكانت هذه الأسرة تنحدر من مدينة مارسيليا الفرنسية.اخذنا الكلام إلى ساعة متاخرة من الليل.بعدها خلدنا للنوم.
في الصباح الباكر وكالمعتاد هيأت والدتي وجبة الفطور بما يليق بالضيوف.وحالما انتهوا من النوم.اجتمعنا حول المائدة كي نهيء البرنامج اليومي.فبدا ان الرحلة ستبدأ بزيارة المغارة اولا انتهاء بالشلالات كمرحلة اخيرة.وفور الفراغ من الفطور حملنا الزاد والمؤونة،وشددنا الرحال صوب المغارة مشيا على الأقدام.استحسن الزوار المناظر الطبيعية التي كانت تصادفهم وتسلب عقولهم.وكانت دهشتهم اكبر لما عاينوا الشلالات بمياهها المتدفقة وما حباها الله من جمال يتغنى به الشعراء.وما كادت الشمس تعلن رحلة العودة حتى قفلنا راجعين إلى الخيمة التي ودعناها صباحا.ما كان يحز في نفسي هو انني لم اكن على إلمام واسع بحال اللغة الفرنسية التي جعلت مني حالة غيبوبة استفيق بين الفينة والاخرى لابتسم واتواصل مع الضيوف بما اوتيت من خبرة وحنكة جراء معرفتي الواسعة لتضاريس المنطقة.وما كان يشفع لي هو اختي التي كانت تتواصل معهم بطلاقة نظرا لتضلعها في الفرنسية وسرعة بديهتها.فكانت المنقذ من الضلال والتيه في لغة لم اعرف لها سبيلا بيد اني عرفت كل السبل التي قادتني خلال زيارتنا للمنطقة وجعلت مني مرشدا سياحيا بامتياز.
انتهت فترة إقامة الضيوف بين ظهرانينا وتم إصلاح الاعطاب التي لحقت بالسيارة، فشكرونا وودعتهم وكلي امل في اللقاء بهم مرات ومرات.وكاننا عشنا معهم لفترة تزيد عن عشرات السنين،وهذا يرجع بطبيعة الحال إلى الإنسجام والتآلف الذي طبعه اللقاء.
وتدور الايام مرة اخرى بسرعة البرق.ففي يوم من الايام بينما كنت منهمكا كالمعتاد في عزف الناي رفقة القطيع.لاحظت اختي تركض نحوي وهي تصيح باعلى صوتها:تعال...تعال .ماذا هناك؟اسمع يا اخي.هذه رسالة اتى بها شيخ القبيلة صباح هذا اليوم.وما شأني والرسالة؟.إنها تخصك انت بالذات.لم استسغ كلام اختي وانتابتني حالات لافهم ما تنبس به اختي.امسكت الظرف لاطلع على فحوى الرسالة فتبين لي انها خطت بلغة اجنبية.لم اعرف منها سوى رسم اسمي الذي كنت اتفنن في كتابته. ما كان لي إلا ان انتظر حتى افهم اللغز من اوله لآخره.عدت بالقطيع إلى الحظيرة وكلي امل علني ادرك ما ستكشف عنه الرسالة.خاطبت اختي في الطريق غن مصدر الرسالة فكان جوابها ان ضيوفنا الذين استضفناهم ذات مرة هم اصحابها.اطمأن قلبي اخيرا وحمدت الله حين عرفت المصدر وإذا عرف السبب بطل العجب.
اجتمعت الاسرة لتسمع تفاصيل الرسالة وكاني بها تستمتع بلحظات تواجد الضيوف الذين زارونا واكرمنا وفادتهم.فتحت الظرف ومكنت اختي من الرسالة،ثم شرعت في قراءتها على مسامعنا بما اوتيت من حنكة في اللغة الفرنسية.وشيئا فشيئا بدانا نفك الغازها ورموزها.بطبيعة الحال انها كانت تخصني ،وقد ارتأيت ان تكون القراءة موسعة لتعم الفائدة.فلا شيء يمر دون علم الجميع.ومما كانت تتضمنه الرسالة عبارات الشكر والإمتنان العظيم على حفاوة الإستقبال والترحيب والكرم .وقد اغفلت اختي بعض الجمل التي كانت تخصني بها كاتبة الرسالة وتغافلتها امام الجميع لتخبرني في ما بعد على انفراد ان جولييت تود ان تتراسل معك وتتعرف عليك جيدا .وقد اعجبتها تصرفاتك وترغب ان تجعل منك صديقا مقربا لها.تملكتني الدهشة وانا اسمع هذه الكلمات،وبدات اطرح علامات استفهام .فما كان مني إلا ان اقبل بما املاه القدر وما كتب علي.فهذه هدية السماء.وانخرطت بشكل مفاجىء في نسج علاقة صداقة لا اعرف نوعها ولا اهدافها.فمن حين لآخر اعكف على تتبع المسلسلات الفرنسية واقرا بعض القصص لاطور اساليبي ولا انكر الجهود التي كانت تبذلها اختي لشرح مضامين الرسائل الواردة تباعا.استمرت علاقتنا واخذت تتطور.فاقترحت جولييت علي فكرة الزواج.للحد من الرسائل والقرب من بعضنا البعض .حين فكرت مليا وجدت ان القدر رماني بين احضان فرنسية لا اجيد لغتها ولا اعرف اهلها.وتأتى لنا ما ابدعنا في التخطيط له،فاقمنا حفلة الزفاف وسط الاهل والأحباب بحضور اهلها وعائلتها،وبعض من اهل القرية .وفور الإنتهاء من إعداد الوثاق اللازمة لمغادرة الوطن.امتطيت الطائرة لأول مرة وشددت الرحال نحو عالم اجهله كل الجهل إلا من فتاة عرفت كيف تغير مسار انسان لا يجيد الفرنسية لتجعل منه نموذجا ومثالا يحتذى به.إنه المهاجر المحظوظ.

*******

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire

Remarque : Seul un membre de ce blog est autorisé à enregistrer un commentaire.