lundi 16 septembre 2019

قراءة في " ظلال " للأديب أحمد بندريس // أمينة نزار // المغرب



ظلال : قصة قصيرة/ أحمد بندريس / المغرب
********
النص :
****
فجأة تحول النقاش الصباحي إلى سجال، فتحنا فيه الملفات الحديثة والقديمة. رجوت شيطاني أن يتركني في حالي، فسكتُ حتى ييأس لينصرف. غير أن شيطانها ظل رابضا، أراه يضحك مني في عينيها مستفزا إياي ، كلمّا آذنت الأزمة بالبَلَج، نفخ في رمادها لتشتعل. اتكأت على ركبتي ورحلت، أبدل ساعة بأخرى. أليس هكذا يقولون ويفعلون اتقاء شر الفتنة ؟
وأنا أغادر جررت ورائي باب المنزل، ودون قصد مني كان ارتطامها عنيفا حتى كادت دفافها أن تقلع من مكانها، لكني شكرت الله أن لا أحد من الجيران انتبه إلى ذلك. ألم يقولوا إن المرء يغدو أكثر حكمة مع التقدم في السن؟
في الطريق، وردت عليّ أفكار مهلهلة. أسرعت إلى حَجَرة كبيرة، فأخرجت ورقة وقلما لتدوينها، حتى لا تضيع مني، في انتظار تشذيبها ...ألم يقولوا أيضا : إن الألم يساعد على مغازلة الحرف؟
كتبت ما كتبت، وحين رفعت رأسي، لاحت لي امرأة تقف غير بعيد مني؛ سمراء، رشيقة القوام. شعرها مسدل خلف ظهرها، قد مدت يمناها تعبث به، وفي اليسرى عصا طويلة ورقيقة من قصب، ترسم بها على التراب. كانت تبدو شاردة، وحين أحست بوجودي، أو ربما أيقنت أني رأيتها، رمتني برمشة عين أولى ثم ثانية، أتْبَعَتهما بابتسامة أصابت الشغاف، ثم رمت بالقصبة وغادرتْ في غنج، وأنا أنظر إليها كأنني في حال سهو.
كم كنت أود أن أسرع الخطو للحاق بها، لكن الخوف من عيون الناس وألسنتهم فوت علي الفرصة، فمشيت ببطء إلى أن أشرفتُ على المكان من عل، غير أني لم أجد لها أثرا، كأنما هي ملح ذاب في الماء، أو ماء غار في الرمل. مسحت عيني ثم فركتهما عساي أراها، لكن بلا طائل، فجلست القرفصاء أريد أن أضيف على ما دونت شيئا، لكن من دون فلاح ، فواصلت السير شاردا أكثر مما كنت.. لا أخفيكم اختطفني طيف المرأة، وسلبتني ابتسامتها، بكل ما بقي لي من طاقة للحياة. أليس الناس هكذا مثلي، أو على الأقل بعضهم، تلمع في طريقهم أمور عارضة فيتفاعلون معها ولو كانت من سراب؟
عدت إلى البيت، تغذيت وحدي ، وتناولنا العشاء كأننا غرباء. وفي الفراش اقتربت منها كأني أريد أن أصالحها. ألم نتواطأ مرات ومرات على الحميمية حتى نتصالح؟
لكن هذه المرة وجدتني كالمفلوج لا أستطيع تحريك عضو من أعضائي، فبقيت مستلقيا على ظهري كالميت لا أقوى على الحركة، كلما حاولت أن أهدأ شعرت بوخز في عقلي الباطن كالمسامير حادة، تجردني من الهدوء. وكلما تحسست قلبي ألفيته باردا كقطعة خشب عتيقة. بل لا أجد شيئا يحرك ذاكرتي لأنسى ما يقظ مضجعي.
تسمرت عند حافة السرير، فتوارد قبالتي شريط خساراتي في حياة أكل الهم أطرافها بشراسة فما شبع، حتى شاخت مبكرا. بدأت أتلو آيات الرحمن علني أغفو، وأنا أعرف أن النوم لم يعد بالنسبة لي، من وقت ليس قصيرا، سوى هروب إلى الكوابيس.
أخذتني شبه سنة، فرأيتني كأني أبحث عن شيء ما تاه مني، وأنا في مقام ولي صالح، أنظر إلى السقف الخشبي، وتلك المرأة التي التقيت، أو قل طيفها، يبتسم لي. قال لي خاطري : هل ترى ؟ هذه السكينة حلت بك، وتلك كرامة من صاحب المقام ودليل على تصرفه حتى بعد مماته، فقل وداعا للوقت الذي ضيعته غباء، قل وداعا لكل الأحزان التي أدمت قلبك وأنت صامت تقاومها صبرا وتواطؤا ...
حككت عيني لأتبين الأمر، و يا ليتني ما فعلت، لأني لم أر شيئا سوى ظلمة الليل. أغلقتهما، واسترجعت الشريط مرات ومرات، فلم يزدني الأمر إلا توترا.
صباح الغد، ركبت هواي، ورجعت إلى المكان، أبحث عن المرأة ، لكني لم أجد حتى للقصبة أثرا ، فجلست القرفصاء، أبحث عن الرسوم بيْد أني لم أعثر على شيء. كذلك كان الحال في اليومين التاليين، يزورني طيفها ليلا ، ولا أجد ما يدلني على طريقها صبحا. سترت أمري يومين أخريين. وحينما سألت بعضهم عنها، قالوا : إنهم لا يعرفون امرأة بتلك الأوصاف في البلدة كلها، فلما سألتهم عن ضريح بقبة عالية، قالوا: إن عمارته ستكون يوم الخميس.
في اليوم الموعود، رافقت ركْبا يريد الزيارة ، كنا ثلاثة منعزلين، فلما أشرفنا على المقام، قال واحد منا على سبيل الجد : تعالوا ... ليذكر كل واحد منا حاجته التي يريدها من أمور الدنيا. ثم أردف: أنا أريد مالا وزوجة وأولادا. وأما الثاني فقال: إني أريد وظيفة. وأما أنا، فقلت لهما : أريدها. لا أريد غيرها ...
نظرا إليَّ معا باندهاش ، وقالا في ذات الوقت : ماهي ؟ ما هي يا استاذ أحمد ؟
قلت : لا يهم اسمها ... اعلما فقط أن بعض الناس مهما ملكوا من مال وجاه وولد يظلون فقراء معوزين.


القراءة :
*****
أول مايثير انتباه القارئ عند بداية كل نص هو العنوان أو "العتبة" كما هي متعارف عليها ، وكل من يمارس الكتابة سيتفق معي في أهمية العنوان بالنسبة للنص، لأنه يشكل المفتاح والمدخل ، وبقدر ماكان غامضا بقدر مايثير فضول القارئ ويحفزه على قراءة النص حتى النهاية ، كما يتفق معي في صعوبة إيجاد بعض العناوين لنصوص نكتبها  ، لأنها لاتخدم الهدف الأساسي من النص، أولا تلخص أفكاره بشكل مركز وواضح في نفس الآن ،فيضطر البعض إلى تأجيل وضع العنوان إلى مابعد الانتهاء من كتابة النص 

لماذاهذه المقدمة ؟ لأن العنوان الذي اختاره الأستاذ أحمد بندريس يثيرأكثرمن ملاحظة :
-       " ظلال "عبارة عن كلمة من أربعة حروف ، نكرة بصيغة الجمع...توحي بالكثير وتضمر أكثر مما تظهر ..
-      جاءت جامعة مانعة ، إذ اختزلت ماجاء في النص من أفكار بكل دقة وموضوعية..
-    فتحت النص على قراءات أخرى وتأويلات متعددة ، وكما يقال "الأدب حمال أوجه " ..
لكن القراءة المتأنية تفرض ضرورة التوقف عند المصطلح وتحديد مفهومه أولا، ثم استقراء مستويات وأشكال تجلياته من خلال النص .
·       الظلال لغويا - وكما جاء في المعجم - جمع " ظلة" وهي كل ما يحجب الشمس أو الضوء أوحتى المطر أو البرد أحيانا ...ومجازيا نقول " أفكار مظللة " أي غير واضحة ، وظلال رحمة أوظلال  محبة أو حنان ... وبذلك فالمفهوم لايقتصر على ما هو مادي بل يستوعب ماهو معنوي أيضا 
·       تجليات "الظلال " من خلال النص :
-     ظلال غيمة داكنة في أفق علاقة حميمية ، تحجب النور ولاتشيع إلا الكآبة ، فيتحول القريب إلى بعيد ، والنقاش العادي يصير سجالا ،وملفات تفتح، قديمها وجديدها ..و"هروب" اتقاء شر الفتنة... ورغم تحميل "الشيطان" مسؤولية النفخ فيها إلا أن ما يوقظ الفتنة هو ذلك الصمت الذي يسود حين يمكن الكلام ، ذلك الفتور، بل الركود الذي يصيب علاقات حميمية تلتقي فيها الأجساد لكن الأرواح بعيدة عن بعضها كل البعد ، تستنسخ نفسها كل يوم  ، فتفقد كل إثارتها وحيويتها، ولايتبقى منها سوى الاجترار وتصيد الأخطاء - على بساطتها – وتضخيمها حتى تتجاوز مستوى الحل أحيانا .
-      ظلال أفكار: " وردت علي أفكار مهلهلة . أسرعت إلى حَجَرة كبيرة، فأخرجت ورقة وقلما لتدوينها، حتى لا تضيع مني، في انتظار تشذيبها ".. وهنا يكشف الكاتب عن بعض كواليس الكتابة إذ بعد أن أرخى الألم بظلاله على القلم حرضه على ممارسة غوايته، وكان من الضروري توثيق اللحظة في حينها وإلا تلاشت وضاعت .
-     ظلال طيف تراءى للكاتب وهو في حالة شرود ونفسية متردية: "، لاحت لي امرأة تقف غير بعيد مني؛ سمراء، رشيقة القوام. شعرها مسدل خلف ظهرها، قد مدت يمناها تعبث به، وفي اليسرى عصا طويلة ورقيقة من قصب، ترسم بها على التراب. كانت تبدو شاردة، وحين أحست بوجودي، أو ربما أيقنت أني رأيتها، رمتني برمشة عين أولى ثم ثانية، أتْبَعَتهما بابتسامة أصابت الشغاف، ثم رمت بالقصبة وغادرتْ في غنج، وأنا أنظر إليها كأنني في حال سهو........الخ" فكانت النظرة الأولى له والثانية عليه ..
لن أكرر أحداث القصة  كاملة ولكن سأكتفي بالتساؤل : ماهي تداعيات هذه الظلال على الواقع المعيش للمتحدث حتى لاأقول الكاتب ،لأن النص ليس بالضرورة سيرة ذاتية ،إذ يمكن أن يكون من وحي خيال الكاتب فقط لكنه يجسد سيرة الكثيرين ، وحتى وإن ورد اسم الكاتب في النص " أستاذ أحمد " فهذا لايعني أنه المقصود .

·       التداعيات :
-      تداعيات  اجتماعية انعكست على حياة المتحدث وأنهت مرحلة من حياته كان يحل فيها المشاكل المتكررة في إطار حميمي وينتهي الأمر وتعود الحياة إلى روتينها ...هنا استفاق وعي شقي بدأ يعبر عن رفضه لهذا الواقع، ولم يعد لا الجسد ولا الحواس يشاركان في لعبة الهدنة والتواطؤ...وهنا يحضر الخطاب الديني مرة أخرى ، فكما تم تحميل الشيطان مسؤولية إيقاظ الفتنة من قبل ،يتم الاستنجاد ب"سورة الرحمن" للتخفيف من حدة الضغط النفسي بعد استنفاذ كل الوسائل والحلول .
-        تداعيات نفسية : الأرق ، الكوابيس المتكررة ، التوتر ، الجري وراء وهم كاذب ..وهنا سيبدأ السقوط والتدني إلى مستوى يتنافى مع الحمولة الفكرية للمتحدث..
-       تداعيات فكرية وسلوكية : إلغاء العقل واللجوء إلى الاستعانة بالأولياء و"ذوي الكرامات " لتحقيق المبتغى .." في اليوم الموعود، رافقت ركْبا يريد الزيارة ، كنا ثلاثة منعزلين، فلما أشرفنا على المقام، قال واحد منا على سبيل الجد : تعالوا ... ليذكر كل واحد منا حاجته التي يريدها من أمور الدنيا. ثم أردف: أنا أريد مالا وزوجة وأولادا. وأما الثاني فقال: إني أريد وظيفة. وأما أنا، فقلت لهما : أريدها. لا أريد غيرها"

 هذه الظلال تبقى ظلالا ، هي مجرد أوهام خلقها خيال المتحدث في النص ليهرب بها من واقع لم يعد يجد فيه ذاته ، ولا يملأ فراغاته ،فتكبر الهوة وتتسع يوما بعد يوم ... فالذات بطبيعتها تحتاج إلى من يحتويها ، من ينصت لصمتها قبل كلامها ، من يستوعبها ومن يتماهى معها روحيا وفكريا فيتحقق التلاقي قبل اللقاء... وهي إشارات ذكية من الكاتب إلى وضعية الكثير من العلاقات الي أفرغت من محتواها ،وصارت تعيش روتينا قاتلا حفاظا على المظهر الاجتماعي فقط ،أو حماية لمصالح أطراف أخرى.. في إطار نكران تام للذات .. فصارت أحوج لتلك الظلال لتتفيأ بها ، تحتمي بها من قر الصقيع وحر الهجير، وتجد فيها بديلا يعوضها عما ضاع وماهو في طريق الضياع ...حتى وإن كانت مجرد وهم أو خيال .

دمت مبدعنا وسردك الممتع المفيد ، ونظرتك الثاقبة التي تقتنص اللقطات الحساسة جدا وتعيد صياغتها بأسلوب جميل وهادف ..تحيتي وتقديري.

أمينة نزار / المغرب





Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire

Remarque : Seul un membre de ce blog est autorisé à enregistrer un commentaire.