jeudi 19 septembre 2019

المشكل فالبلاد : قصة قصيرة // عز الدين بوروى // المغرب


الساعة تشير إلى السادسة صباحاً بتوقيت الخذلان،بتوقيت عبث الحياة بالإنسان،وعبث أهل القرار بأصحاب اللاقرار،يستيقظ "حماد" مذعورا من فراشه على صوت نهيق حماره المربوط في الحظيرة،ينظر يمينا وشمالا،تكفيه فقط خمس دقائق ليدقق النظر في أناه،لازال يمعن النظر في كل الأشياء من أمامه،عيناه منتفختان بعد ليلة قضاها في إحدى الحانات،آه تذكرت!! اووه اللعنة! لن أنسى تلك المومس اللعينة التي أخذت مني ثلاثمائة درهم،كيف يعقل أنني وهبتها ثلاثمائة درهم من أجل قبلة على جبين قبله زمرة من السكارى قبلي،جبين قبله جل أولئك الأوغاد الذين وجدتهم البارحة داخل ذلك الماخور..يا للعبث!! قبلة وخمسة عشر دقيقة من النوم فوق السرير بثلاثمائة درهم،إنه بالفعل لأمر يستدعي البكاء لمدة تشبه المدة التي بكاها نوح النبي ندما على خطيئته.ترى هل أبكي على الثلاثمئة درهم،أم على خطيئة النوم مع بائعة الهوى تلك؟
هز كتفيه كدليل على عدم اكتراثه،لا ضير،إنه أمر جد عادي،ولم الندم!! لم يجدر بي أن أندم مع العلم أنني لم أفعل أمرا يستحق هذا القدر من التفكير ،هل سأندم لأنني قضيت نصف ليلة داخل حانة،والنصف الآخر داخل ماخور!!
هل الله سيعذب هذا الجسد النحيل فقط لأنه شرب كأس نبيذ،وقضى هنيهات مع مومس ثلاثينية داخل ماخور!! لا أظن.
عاد للنوم،واستلقى على بطنه وهو يقول "الله يلعن بو العالاااام"،وفي رحلة نومه رأى حلما رائعا،لقد كان حلما باريسيا،فتاة شقراء في العشرينيات تسقيه خمرا في حانة المونشاينر   Moonshiner الباريسية،وفي لحظة من أمره طلب منها قبلة ربما قد تنسيه هم الغربة،لم تتردد،وفي اللحظة التي اقتربت منه لتقبله ويقبلها،ركله أبوه  على مؤخرته،وأيقظه من حلمه،لينهض مسرعا إلى فناء المنزل،ليتبعه أبوه والكلام النابي لا يفارق فم أبيه ،هيا أيها القواد،كم الساعة الآن!! لقد قلت لك مسبقا أنك لا تصلح لشيء ولا يعول عليك في شيء ،لكنني أنا المخطئ، كنت أظن أن أموالي التي خسرتها عليك في سنوات دراستك الجامعية ستبعد وجهك المتوحش عني،لكنها راحت بالمرة.كنت أعرف جيدا أن الجامعة لن تنفعك بشيء،ها هم أبناء الجيران أخذوا إجازاتهم وماجستيراتهم ،ولم يفعلوا بهم شيئاً،سوى الجلوس ليل نهار في مقهى "با مجيد" يدخنون ما استطاعت إليه جيوبهم سبيلا..
قاطع حماد أباه :"ومن المسؤول عن كل هذا؟" ،أجاب الأب بسخرية "أنا ،أنا هو المسؤول" ،أحسنكم لا يعرف سياقة حتى الجرار،فكيف بالأحرى أن يعرف الأمور المتعلقة بالقانون والاقتصاد...كان علي أن أفكر قبل أن أرسلك لتلك الجامعة،كان علي أن أشتري لك قطيعا من النعاج لترعاهم بدل أن تكمل دراستك وتأتيني بإجازة لا تسمن ولا تغني من جوع،أومأ حماد برأسه كدليل على أنه يتفق مع أبيه،لكن دواخله لا يعلم بها إلا ربه.
نفس مهزومة من الداخل،أفكاره تبعثرت جراء طول الإنتظار،انتظار بطعم الخسارة،ضاعت أيامه في انتظار بزوغ شمس ذاك اليوم الذي سيجد نفس الوطن الذي قرأ عنه في المقررات الدراسية،وذلك الوطن الجميل الذي شاهد في الأفلام. الحقيقة أمر آخر وواقع آخر مختلف تماماً عما نقرأ ونشاهد.
حماد شاب يبلغ ربع  قرن،يدخن مخدر الكيف بشراهة،حاصل على إجازة في شعبة الأدب العربي،عاطل عن العمل،بل الأشد من كل هذا أنه عاطل عن الحياة.بعد وفاة والدته منذ أربع سنوات ،انطفأت أنوار الحياة في وجهه،لم يستطع قط المضي قدماً رغم حصوله على شهادة الدراسات الجامعية العامة،لقد أثر فيه موت والدته كثيرا،حتى فقد طعم الحياة ولم يعد يشعر بأي شيء . أصبح يرى نفسه غريبا عن رفاقه،عن أبيه،عن سكان الدوار،عن العالم ككل..وزاد من تعميق هذا الإكتئاب عدم قبوله في أي وظيفة عمومية،لكن بصيصا من الأمل لازال يشجعه على الإنتظار،وما أصعب الإنتظار!.في وطني كل شيء قائم على الإنتظار،وكل ما هو قائم على الإنتظار بعيد المنال: انتظار الحصول على عمل طبعاً يتطلب مدة طويلة تشبه تلك المدة التي انتظرا فيها إستراغون وفلاديمير "غودو"،انتظار الحافلات،والحافلات بدورها تنتظر السائق الذي وعد صاحب الشركة بأنه سيأتي في تمام الساعة السابعة،ولم يأت  إلا بعد مضي نصف ساعة من الوقت المحدد.انتظار وراء انتظار.طفل صغير في الحافلة يخبر أحدهم أنه سيصبح طبيبا في المستقبل،أخبر ذلك الشخص أب الطفل قائلاً:"عليه أن ينتظر طويلا ليحقق حلمه،وإن تحقق في هذا الوطن"،بجانبهم امرأة حامل تنظر إلى ذلك الطفل الذي قال أنه سيصبح طبيبا وكلها أمل في أن تلد طفلا كهذا ،لكن ذلك يتطلب منها  انتظارا طويلا إن هي أنجبت ولدا.."،على جانب المرأة الحامل تقف فتاة جميلة في مقتبل العمر تهاتف عشيقها وهي تنتظر بفارغ الصبر متى يتزوجها. سائق الحافلة الذي أتى متأخرا ينتظر هو الآخر قدوم أواخر الشهر ليحصل على راتبه بغية شراء  الأدوية لأمه المريضة التي تنتظر بدورها قدوم ملك الموت ليأخذها ويخلصها من عذاب ذلك المرض العضال الذي ينخر جسدها النحيل،بجوار هذه السيدة يجلس زوجها الذي يحمل سبحة في يده وينتظر موت زوجته لكي يتزوج جارته الأربعينية الأرملة،هذه الأخيرة تطلب الله ليل نهار بأن يعجل لها الزواج من ذلك العجوز حتى تأخذ كل ممتلكاته.
أما حماد المسكين فلا يزال ينتظر قدوم الليل لكي يسهر في الماخور مع مومس أخرى،لكي ينسى قليلا عبثية الأيام به. لقد ظل على هذا الحال مدة طويلة حتى كره هذا الروتين،يوم بأكمله مع أبناء الدوار يتبادلون أطراف الحديث عن مؤشر البطالة وسبب ارتفاعه وعن قلة فرص الشغل بهذا الوطن،وليل طويل يعيشه بين أحضان إحداهن في مواخير المدينة،وكان دائم الصراع مع أبيه الذي ما فتئ يستهزئ به أمام الجيران،دائما ما كان يناديه بالكسول والسكير ،وذات يوم جمع أمتعته ورحل قبل أن تطلق الشمس أشعتها،رحل إلى مدينة طنجة وبدأ العمل هناك حتى جمع مبلغا  من المال وهاجر إلى الخارج بقارب من قوارب الموت،أبوه لم يكلف نفسه حتى عناء البحث عنه،بل العكس،لقد ارتاح بعدما أخبره الجيران أنه غادر الدوار في اتجاه غير معلوم،لقد كانت فرحة منقطعة النظير ،فرحة لم تطل محياه منذ زمن بعيد. قام أب حماد الذي يطلق عليه في الدوار "با العياشي" بالزواج من امرأة خمسينية عقيم تدعى فتيحة، توفي زوجها منذ زمن بعيد.أما حماد فقد غادر البلاد بحثا عن وطن،بحثا عن بلد يقدره كمواطن،بل كإنسان. عاش هناك عشر سنوات كاملة بعدما تزوج بفتاة إسبانية أكمل معها حياته،وأعادته إلى الوجود مرة أخرى،لقد أحبته وأحبها حتى تزوجا وأنجبا طفلين يشبهانهما. إن الحب والجمال أيها السادة ليبعثان في المرء حياة جديدة،إنهما يملكان القدرة على إخراجه من العدم إلى الوجود،ويصححان له مسار الحياة الحقيقي.إنني في بعض الأحيان أقول أن إميل سيوران لو وجد من يعطيه الحب ويظهر له معالم الجمال في الحياة لما كلف نفسه عناء كتابة "مثالب الولادة".
بعد كل هذه السنين في الغربة-رغم أنني أتحفظ من ذكر كلمة "غربة" بموطن آخر لأن مفهوم "الإغتراب" مرتبط بوطننا لا بأوطان الآخرين،والإحساس بالغربة داخل أوطاننا لهو أمر فظيع جدا- عاد حماد إلى بلده بسيارة فاخرة مع زوجته كاثرين والسعادة على محياهما،دخل إلى الدوار فلا شيء تغير،لازال رفاقه ينتظرون قدوم  شمس الأمل لتمدهم بخبر قبولهم بإحدى الوظائف العمومية،أمام المسجد عجزة يلعبون "الضامة" ينتظرون أذان صلاة المغرب ليتسابقوا على الصفوف الأمامية.حول السيارة يجتمع أطفال حفاة عراة يهتفون " لقد عاد حماد ،لقد عاد" والزغاريد من هنا ومن هناك.نزل حماد من سيارته بعدما عانق أهل الدوار فردا فردا ،وقدم بعض الحلويات للأطفال،دخل إلى منزل أبيه العياشي فوجده متكئا يشرب كأس شاي كانت قد أعدته له زوجته ،نزل على ركبتيه وعانق أباه عناقا حارا ،ووهبه مبلغاً مهما من المال لكي يشتري به ما اشتهت إليه نفسه،وقبل رأس زوجة أبيه التي كانت هي الأخرى جالسة هناك،نهض السي العياشي مسرعا من مكانه،وخرج إلى أهل الدوار يصرخ بكل ما أوتي من قوة : "وا الشباب وراه المشكل فالبلاد ماشي فحماد".



2 commentaires:

  1. أحسنت أخي عزالدين و بالتوفيق في قادم الأعمال

    RépondreSupprimer
  2. بالتوفيق اخي عزالدين ننتضر المزيد

    RépondreSupprimer

Remarque : Seul un membre de ce blog est autorisé à enregistrer un commentaire.