jeudi 9 janvier 2020

قراءة في قصيدة رحيمة بلقاس " إلى غائب لم يعد " // رحال مبارك خديد // المغرب


:النص 
********
على شرفة الصباح
..جلست وهو
وثالثنا نبض دفين
تسارع إليه يضمه بحنين
..سافر إليه
هناك بالضفة الأخرى
وكان الرد رجع صدى
رسالة منه تخبرني
..بشوقه إلى الوطن العزيز
*****
:القراءة 
*******
من البدء، تمارس رحيمة بلقاس مهارتها الإبداعية في سبر أغوار اللغة واستيضاح معاني لا تتاح للجميع.." إلى غائب لم يعد" ليس استفتاحا عاديا .. بل مفتاحا لحالة متعددة الأبعاد تحكم إحساسات الشاعرة وفي نفس الوقت تمثل بيانا للقارئ يفيد أنه أمام حالة "حنين شاعري متعدد الأبعاد" .. وليس أمام تقرير واقعي..
وبالفعل فلا سبيل لقراءة هذه القصيدة الغنية بالصور الشعرية الكثيفة رغم قصرها إلا من خلال هذا المفتاح .. غائب لم يعد.. والغياب وحده صورة شعرية في حد ذاته .. يدرك منه الجميع مدى المعاناة التي تنتج عنه .. غير أن المعاناة تصبح وجعا عميقا حين نعرف أن ذلك "الغائب" "لم يعد"..
وما أكثر هذا "الغائب الذي لم يعد"..طفولتنا الجميلة ..شبابنا .. أهلنا الذين رحلوا.. ذكرياتنا.. آمالنا.. أفراحنا.. أحزاننا ....
واستطاعت الشاعرة أن تخلق عالما يكاد يكون سحريا حول ذلك الغائب الذي يصبح متعدد الحالات والصفات والمضامين، متى ما أتممنا القراءة.. فاحتمال الغائب الروحي أو الفكري أو الزمني يواجهنا هنا كما احتمال الغائب الشخصي...
وقد يكون الاحتمال الأول أقسى على الروح الشاعرة من الاحتمال الثاني .. وقد يكون الثاني حاملا للمضامين الأولى التي قد تكون ارتبطت به ..
ولأن الروح الشاعرة ترتبط بعوالمه أكثر من عالم الواقع في حين تخبرنا أنها "جلست وهو" (الغائب الذي لم يعد).. ووحدهم الشعراء يستطيعون أن يفعلوا هذه المتناقضات ماديا .. الممكنة روحيا وشاعريا ..
وأين "جلست وهو" .. على شرفة الصباح .. وما أوسع وأبهى شرفة الصباح.. وعلى شرفة خيال يلفها ضوء الصباح وكل حركة الكون فيه استطاعت الشاعرة أن تخلق حياة تفيض بمشاعر إنسانية سامية (نبض دفين.. تَسارع إليه يضمه بحنين.. سافر إليه) ..
ومن قدرات الشاعرة التي لا يخطئها القارئ المميز استعمال فعل مضارع بين فعلين ماضيين .. لتعطي صورة حية لذلك النبض الذي تَسارع إليه (ف "الغائب الذي لم يعد" كان جالسا مع الشاعرة (على شرفة الصباح.. طبعا جلوسا روحيا.. فكريا.. شاعريا) .. والنبض الدفين الذي تسارع إليه يضمه بحنين ..ولكن الجالس غائب .. ولتضم الغائب عليك أن تسافر إليه.. ولتتم حركة النبض .. ولأن الضم حالا لم يكن ممكنا فإن الحركة أصبحت : تَسارع إليه ثم سافر إليه (وفي هذا التكرار قوة البلاغة البيانية للشاعرة ..ف "إليه" الأولى غير "إليه" الثانية.. هاء الضمير الأولى تعود للغائب الجالس مع الشاعرة على شرفة الصباح .. و هاء الضمير الثانية تعود للغائب الذي لم يعد .. لذلك وضعت الشاعرة مضارعا وسط ماضيين
ومما يدل على قدرة الشاعرة المتميزة أيضا قوله "تسارع إليه يضمه .." ولم تقل "تسارع إليه ليضمه .." .. فالفرق بين الصورتين شاسع.. فالأولي تفيد حركة عفوية بلا تفكير ولا تخطيط.. وهي أقرب إلى الفطرة الإنسانية حين تخالطها مشاعر سامية.. والثانية تفيد التخطيط وتحديد هدف سابق..
بل إن خبرة الشاعرة باللغة يبدو واضحا من خلال اختيارها لفعل على وزن "تفاعل" ... ففِعل "تَسارع" يحتوي على ثلاث معاني مندمجة : بادر وعجّل وازدادت سرعته..وذلك كل بضغط جليس ثالث : النبض الدفين...
سافر إليه .. أين؟ .. هناك (يا لَبُعْـدٍ تُصوّره ال هناك).. بالضفة الأخرى .. عنوان واسع عريض .. لكنه ذو بعد شاعري لا حدود له .. ومشاعر الشعراء في الغالب لا عناوين لها 
....."وكان الرد رَجع الصدى" 
..ونعود لاحقا للغوص في هذه اللوحة الشاعرية العجيبة
*******
رحـال مبـارك خــديــد - الرباط



Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire

Remarque : Seul un membre de ce blog est autorisé à enregistrer un commentaire.