نص قراءتي النقدية في ديوان "مزامير القلوب" للشاعر المغربي محمد نوحي
تحت عنوان: تيمة "المزامير" بوصفها استعارة كبرى ل "السّماع" و "الوجد"
*********
ستقارب هذه القراءة النقدية التطبيقية ديوان "مزامير القلوب" للشاعر المغربي محمد نوحي من حيث علائقية تشابك الدالات الإيقاعية لترديد صدى أغوار الوجدان بلغة الشعر.
يقع الديوان في(120) صفحة من الحجم المتوسط، ويضم (25) قصيدة، تتراوح بين الطول والقصر، تشتمل "ورقته الخارجية" على إهداء طويل نوعاً ما، شمل كلاً من: الأب والأم، والزوجة..."ورقة خارجية" بمثابة "عتبة نصية" تشي بما تصطبغ به قصائد الديوان من روح إنسانية وأسرية، مفعمة بصدق العاطفة وتوهجها. الغلاف من تصميم الشاعرة و الفنانة المغربية صديقتي مديرة المجلة الإلكترونية الأدبية الغراء الأستاذة أمينة نزار.
1 ـ "عتبة النص":
للتذكير، العتبات أو النص الموازي (كما لخصت ذلك الناقدة المغربية الزهرة حمودان)، "هي نصوص مرافقة للديوان ومتونه الشعرية، قد لا ينتظر منها، أن تشرح أو تفسر أو توضح، بقدر ما تشير وتلمح، وتضيء الطريق نحو استخلاص الدلالة الابداعية والفنية، شكلا ومضمونا. نترجل عندها طامحين الى تحقيق مقاربة الإشارات الجمالية انطلاقا من الغلاف ورموزه، مرورا بالعنوان وشعريته..." و "سيميائه"، و باقي "الأوراق الخارجية" من "إهداء"، و "تقديم/ "تصدير"، و "فهرس" إلخ... كعتبات إضافية أو هامشية..
و مباشرة بعد قراءتي لعنوان الديوان، خالجني شعور استباقي عن سؤال محتمل لقارئ متابع لكتاباتي النقدية، قد يسألني: ما حكايتكَ مع "المزامير"؟.. قبل أسابيع، نشرت قراءتي النقدية في رواية "مزامير المدينة" للأديب العراقي علي لفته سعيد، و اليوم، بعد أقل من شهر، أعود ل "المزامير" مع جنس أدبي غير الرواية، هو ديوان شعري تحت عنوان "مزامير القلوب" للشاعر المغربي محمد نوحي. من المؤكد أن تشابه العنوانين نتاج صدفة ليس إلا... فكل مبدع منهما كتب في جنس مختلف عن الثاني... و الظرفية التاريخية الراهنة للعراق التي ألهمتْ رواية "مزامير المدينة" ليست ذاتها وضعية المغربي المغترب بالديار الاسبانية... و بعيدا عن أي مقاربة للمقارنة (ليست من الأهداف المرجوة من هذا المقال)، نشير أن وجه الشبه قد يكمن ربما في رمزية "المزامير" في أبعادها الروحية الوجدانية/ المناجاتية كما عند بعض المتصوفة، و حتى في الفلسفية الوجودية...
2 ـ تيمة "المزامير" بوصفها استعارة كبرى ل "السّماع" و "الوجد"
و رغم أن محمد نوحي لم يخصص عبر ربوع ديوانه عنوانا لنص، هو نفسه العنوان الرئيس لكل المجموعة كما يفعل العديد من الشعراء و كتاب المجموعات القصصية، إلّا أنه حقلا معجميا و دلاليا و حتى سيميائيا، ل "المزامير" فيها تمظهرات و إيحاءات و دلالات و إطارات مرجعية مختلفة و متعددة، منها:
ـ استعمال مفردة "مزمار" بمعناها اللفظي كأداة موسيقية شعبية جد منتشرة في بلده المغرب، نقرأ:
"ضعي هذا القلب في دلاء النواعير
علّه يهجر ظلي
إلى أي مكان
دعي أوراقي و كتبي و مزماري
و معولي و حماري
و حقائبي
سأسافر الآن..." (من قصيدة "سفر")
مضمون جد معبّر يحيلنا على تيمة الهجرة، لكن ليست أي هجرة، لأن المرغوب فيه هو السفر "إلى أي مكان"، الشيء الذي يعني الهروب إلى المنافي كلها... إلى أرض الله الواسعة... غير أن هذا المسافر يشبه الرحالة المحكوم عليه بالتجوال الأبدي، مسلّح بأوراقه و كتبه (الشاعر والمثقف)، و معوله (عامل يكسب قوته بعرق جبينه) و مزماره (فنان شعبي يعرض مشاهد فرجة)... و يشبه إلى حدّ بعيد شعراء الغجر، و الشطّار ، و "التروبادور"...
ـ استبدال مفردة "مزمار"/ مزامير" ب "الطائر"؛ نقرأ:
"الآن طار طائر الوحدة
و حطمت أقفاصي
فأصبحت روح الحبيب
بروحي قرينة..." (من نص قصيدة "حرب الحب")
لهذا المقطع أكثر من إحالة: من بينها حضور تيمة الهجرة من جديد، لكنها هجرة غير التي وردت في المقطع السابق؛ المقصود منها الارتماء في أحضان الحبيبة كما طائر مهاجر؛ و من ثمّ إحالة أخرى على أسطورة "طائر المزامير" (قصة "طائر المزمار" مع النبي عيسى عليه السلام حسب بعض الرواة..)، و على العلاقة السرمدية بين الشعر و أصوات طيور المزامير... ورد في ذات السياق في الأدبيات القديمة (كتاب "آداب السّماع و الوجد/ الباب الأول" لأبي حامد الغزالي): "إن الوزن وراء الحسن، فكم من صوت موزون غير مستطاب، و الأصوات الموزونة باعتبار مخارجها ثلاثة: فإنها إما أن تخرج من جماد كصوت المزامير و الأوتار و ضرب القضيب و الطبل و غيره، و إما ان تخرج من حنجرة حيوان، و ذلك الحيوان إما إنسان أو غيره كصوت العنادل و القماري و ذوات السجع من الطيور..."
ـ استبدال مفردة "المزامير"بثلاثة حقول معجمية/ دلالية مختلفة و متكاملة على شكل "تراتيل":
أ ـ "تراتيل المناجاة"
ـ مخاطبة الحبيبة كما طيف ظهيرة تحت شمس محرقة:
"أراك الآن قادمة
تحرس الفراشات
قناديل وجنتيك
يغار لهيب الشمس
من ظل خطواتك..." (من نص قصيدة "عطر الرمان").
ـ مخاطبة الحبيبة كملهمة شاعر ضاقت به السبل بسبب الفقد و الهجران فيشكو الحنين:
"نسج فستانك
من شفق الغروب
من دفء العناق
من نسمة الأشواق (...)
تمهلي سيدتي
على رجل يحمل
أقلاما و قلوبا
و بعض الأوراق
و كتبا للعشاق
غطاها الشحوب..." (من نص قصيدة "صاحبة الفستان الأحمر").
ـ مناجاة النفس ("الأنا") المتخبطة بين تحكّم عقل، تشنّج وجدان:
"أنا أحمقك أنتَ و بلا أنتَ أنا عاقل
أنا المجنون في حماقتي و للمسّ أنتمي
أنا القلب المملوك التائه و العقل الغافل..." (من نص قصيدة "أحمقك أنت")...
ب ـ تراتيل الوجد حيث تتحول "المزامير" إلى "أجراس":
ـ معادلة الصمت و الصراخ:
"صمتي هدنة معلقة
بين الكنائس و الأجراس
صمتي قصيدة و ورقة
و قلم يبس جوفه و شاخ
لكن عيوني صراخ..." (من نص قصيدة "صراخ العيون").
ـ معادلة الحرب و الهدنة:
"وهبت رياح الحب ما تشتهي السفينة
أعلنتُ أنني مغرم
و دق الحب أجراسي
فعانقت روحي أحضان السكينة..." (من نص قصيدة "حرب الحب").
ـ معادلة التشخيص/ التجسيد و التوحّد:
"أراك في عواصف الشتاء
في العيون الكحلاء
في كلّ الأشياء
في أجراس الكنائس
في المساجد و الصوامع
أراك في كلّ المواضع..." (من نص قصيدة "أراك في كل مكان").
ج ـ تراتيل الاحتفال:
ـ إيقاعات انتشاء بالحب مع عناصر الطبيعة؛ و يتحول "المزمار" إلى "كمان":
"على عتبة الخريف
تتهامس الفراشات
في محراب الكمان
تغني السماء
لبائع الورد على الرصيف..." (...)
"على ضفاف عينيك
تزهر أشجار الصفصاف رمان
ترقص المناجل و السنابل
في أعراس الصيف..." (من نص قصيدة "ضفاف عينيك")
ـ إيقاعات تُخلّد لحظة عشق تتوقف معها عجلة الزمن:
"في كل مساء تغازل كلماتي
تبتسمُ لي
ترقص لقهوتي
تغنّي للمكان
ترتشف شفتيها حافة الفنجان
فيتوقّف الزمن..." (من نص قصيدة "قهوتي").
تبين لنا أنّ الشاعر محمد نوحي أنه، باستثناء بعض النصوص التي لم يذيّلها بتاريخ كتابتها، قد كتب معظم قصائده في فترات زمنية متقاربة تمتد من 13 اكتوبر 2018 إلى 30 غشت 2019... و كونها حسب تموقعها داخل الديوان لا تحترم التسلسل الكرونولوجي (كما الرسائل)، لا يعني في شيء عبثية بنية الديوان. اختيار الشاعر لهدنسة ديوانه تسبيق هذا النص عن غيره، أو تأخيره، له ربما وظيفة إيقاعية اخرى: تحترم الأجواء الوجدانية للشاعر و إيقاعات "مزامير" قلبه من مناجاة، و تراتيل، و إيقاعات تتراوح بين الوجدانية و التأملية...
و تبين لنا أيضا أن كل نصوص الديوان كتبت بمدينة "خيرونا" الاسبانية، حيث يقيم الشاعر محمد نوحي حاليا... مما يصنف كتاباته من خلال هذا الديوان ضمن "أدب الهجرة"؛ أدب الغربة و الحنين... لذا يستعصى على القارئ العادي تحديد مواصفات الحبيبة على طول نصوص هذا الديوان، خلافا لما ألفناه في دواوين شعر الغزل التقليدية... من هي الحبيبة في الديوان؟ ما هي مواصفاتها؟ هل هي الأم؟ هل هي الزوجة؟ هل هي الصبية الظاهرة على لوحة الغلاف؟ هل هي الأرض/ الوطن ـ المغرب؟ هل هي الضفة الأخرى/ بلد المهجر ـ إسبانيا؟ أم هي ملهمة "العبور الكبير" للبحث عن الزمن المفقود عبر الكتابة الشعرية الوجدانية التأملية كما جاء في روايات الروائي العالمي مارسيل بروست... و يبقى السؤال مفتوحا أمام القراء...
مع تحيات نافذة النقد، و الأستاذ بوزيان موساوي. وجدة. المغرب.
و تبين لنا أيضا أن كل نصوص الديوان كتبت بمدينة "خيرونا" الاسبانية، حيث يقيم الشاعر محمد نوحي حاليا... مما يصنف كتاباته من خلال هذا الديوان ضمن "أدب الهجرة"؛ أدب الغربة و الحنين... لذا يستعصى على القارئ العادي تحديد مواصفات الحبيبة على طول نصوص هذا الديوان، خلافا لما ألفناه في دواوين شعر الغزل التقليدية... من هي الحبيبة في الديوان؟ ما هي مواصفاتها؟ هل هي الأم؟ هل هي الزوجة؟ هل هي الصبية الظاهرة على لوحة الغلاف؟ هل هي الأرض/ الوطن ـ المغرب؟ هل هي الضفة الأخرى/ بلد المهجر ـ إسبانيا؟ أم هي ملهمة "العبور الكبير" للبحث عن الزمن المفقود عبر الكتابة الشعرية الوجدانية التأملية كما جاء في روايات الروائي العالمي مارسيل بروست... و يبقى السؤال مفتوحا أمام القراء...
مع تحيات نافذة النقد، و الأستاذ بوزيان موساوي. وجدة. المغرب.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire
Remarque : Seul un membre de ce blog est autorisé à enregistrer un commentaire.