lundi 30 novembre 2020

قراءة في رواية " حب عتيق" للأديب العراقي علي لفتة سعيد // بوزيان موساوي // المغرب


 من كتابي النقدي الثاني "أدب الحروب و الثورات العربي الراهن" نص قراءتي النقدية في

رواية "حب عتيق" للأديب العراقي علي لفته سعيد
تحت عنوان: ثبات بنية الرواية و متغيراتها؛ رواية "حب عتيق" نموذجا
ذ. بوزيان موساوي/ المغرب.
ـ تبويب: على طول 266 صفحة، لم يتم تبويب رواية "حب عتيق" (إصدار 2019) كما في بعض الأعراف التقليدية على شكل فصول، أو أبواب، أو أجزاء بهذه التسميات، اكتفى الكاتب بالأرقام من 1 إلى 33 في تجزيئ روايته دون حتى اختيار عناوين فرعية؛ و القارئ تحت كل رقم يكتشف ما يشبه تقنية "الاستطراد" لا من حيث الأحداث، و لا المواضيع، و لا الأزمنة، و لا الأمكنة، و لا نوع الشخصيات المتدخلة أو المعنية، و كأننا نقرأ كل مرة نصا مستقلا بذاته كما في مجموعة قصصية. و هذه تقنية قد تجعلنا نقرأ الرواية هذه دون احترام ضروري لتراتبية أرقام صفحاتها. و كأن الكاتب علي لفته مدرك لميول القارئ الراهن نحو النصوص القصيرة؛ إذ يمكنه قراءة كل الرواية رغم طولها، أو الاكتفاء كل مرة بجزء منها.
تصنيف: ذهب بعض من تناولوا "حب عتيق" بالدراسة إلى تصنيفها في خانة "الرواية التاريخية" باعتبار فعل السرد فيها يهم حقبة زمنية تمتد بين 1900 و 1958 من تاريخ العراق. و هي الحقبة التي صادفت جلاء العثمانيين من العراق التي تلاها الانتداب البريطاني، و الاستفتاء على نظام ملكي محلي، حتى قيام ثورة يوليو (تموز) 1958. و هو تصنيف ربما قد يضر بقيمة هذه الرواية: لقد وجهت انتقادات لاذعة لكبار رواد هذا النوع من الكتابة الروائية أمثال الانجليزي والتر سكوت، و الفرنسي ألكسندر دوما (الأب)، و الروسي تولستوي، و العربي جرجي زيدان، كوْن رواياتهم التاريخية لم تنل رضى المؤرخين لضعف الدقة في التوثيق للأحداث، و لا استحسان النقد الأدبي لغياب عناصر "الشعرية" (بمنظور ياكوبسون) أو "الأدبية" (كما سماها ريفاتير). و يبدو أن مؤلف "حب عتيق" علي لفته سعيد قد انتبه لإشكالية هذا التصنيف و تداعياتها المثيرة للجدل؛ فكان منه أن عبر عن منظوره الخاص إزاء حضور البعد التاريخي في روايته إما بشكل مباشر و صريح في ورقة خارجية تتصدر كتابه (ص. 7) تحت عنوان "تبرير"، من بين ما جاء فيها: " لستُ هنا معنيّا بالتاريخ كأرشفة و أرخنة، أو معنيّا بالحقيقة المطلقة، بل بالحقيقة المتخيلة التي تصنع عالما آخر، يحمل قصيدته معه من مدينة وجدت نفسها في وسط صناعة التاريخ الذي أهملها"، و إمّا على لسان الذات الساردة في الرواية‘ إذ نقرأ قي صفحة 37: "كان عْبيّس يستمع و ينتظر ما فعله أبوه الحمال الذي يدفع عربة مثل العربة التي يقودها الحمار الآن، و كان يمني نفسه بأن يتابع تاغي الحديث عن والده و ليس سرد الأحداث التاريخية التي لن تغنيه بشيء (...) هزّ عْبيّس رأسه فاستمع إلى أن أباه كان ينقل المؤونة بعربته إلى المقاتلين من العشائر، و أنه صادف في اليوم الأخير من المعركة جنديا عثمانيا فربطه بالعربة من الخلف، و راح يجره مثل كلب...". نستشف من الفقرتين نظرة نقدية إبستمولوجية للتاريخ كما يُكتَب و كما يُوَظّف؛ فهذا التاريخ كما جاء في الفقرة الأولى أهمل في طياته الحديث عن جنوب العراق، و مدينة "سوق الشيوخ" خاصة التي كان أهلها من أوائل الثوار ضد حكومة بغداد؛ نقرأ صفحة 48: "كانت بدرية تسمع من زوجها أن المدينة هي أول من ثارت على حكومة بغداد التي يرأس وزارتها ياسين الهاشمي."؛ الأمر الذي حدا بالكاتب علي لفته إلى التعبير عن غضبه من التعتيم التاريخي لما كتب في "تبرير": "يحمل قصيدته معه من مدينة وجدت نفسها في وسط صناعة التاريخ الذي أهملها". و في الفقرة الثانية بلسان السارد، كانت إفادة الشخصية (عْبيّس) جد معبرة؛ فهو لا يرغب في قراءة تاريخ جامد، بل تاريخ قريب نتعلم منه العبر لنقتاد منه لأجل تغيير الواقع الحاضر: تاريخ في دينامية و حركية مستمرة، يكتب نفسه كل يوم.
ـ تجليات: و لأنّه لا يمكن اختزال "حب عتيق" في كونه كتابا تاريخيا، أو مجرد وثيقة مرجعية حول فترة زمنية من تاريخ العراق كما يؤكد الكاتب ذلك بنفسه، رغم عدم خلو العمل من انتقادات لاذعة لما كتبه بعض المؤرخين، كما أسلفنا الذكر، فلابد من مقاربة المتن بصفته خطابا أدبيا فنيا ينتمي لجنس الرواية. و حتى إن اختلفنا بسبب مرجعياتنا المختلفة و المتعددة بخصوص تعريف الرواية، لا يختلف اثنان أنها كما جاء على لسان الكاتب علي لفته (ص. 7) "حقيقة متخيلة تصنع عالما آخر". و الثابت في هذا العمل كونه مَتْنا سرديا فنيا دراميا يخضع للوحدات الأرسطية الثلاث مع سعة الفضاء، و تقلب الأزمنة، و تعدد النماذج البشرية الفاعلة و المفعول بها كصانعة أو مستهلكة للأحداث.
1 ـ الفضاء الروائي في سياقه الزمني/ التاريخي: اختار علي لفته سعيد لروايته فضاء على شكل مدينة بجنوب العراق تحت اسم "سوق الشيوخ" جعل منها مركزا تجاريا، و وجهة لأطماع الاستعمار تحت مسميات "التتريك" أو "التغريب"، و قبلة لشيوخ العشائر و صراعاتهم ، و ملاذا للفقراء، و المعدومين، و المهاجرين. نقرأ:
"... و زاد من نشاط المدينة التجاري حيث التوريد من السعودية و إيران و بغداد و حتى الكويت و إسطنبول، و تصدير الحنطة و الشعير و التمر و صوف الأغنام و شعر المعز و حليب الجاموس و الأبقار. و أصبحت أبواب المدينة مفتوحة لهجرة الناس إليها من كل البقاع. و صارت للمدينة أحياء بأسماء المهاجرين أو دولهم و مناطقهم. فحي النجادة يعني سكانه جاؤوا من نجد و الحجاز، و الحويزة للإيرانيين أو العجم، و البغادة من جاؤوا من بغداد و شمال الناصرية...".
قد يبدو هذا الفضاء ملتقى للثقافات و الأجناس و الأديان و الحضارات، و بالتالي رمزا للتثاقف و التلاقح و الوعي و التمدن و الحداثة، لكن رغم هذا الانفتاح في الظاهر، تعشش على الفضاء عقليات متحجرة و متخلفة من صنع نمط عيش تتحكم فيه تقاليد العشيرة، و كرّسَهُ الاستعماران العثماني و الغربي. نقرأ في صفحة 19: "شرح لها (رسول لزوجته بدرية) أن قوة العشيرة احتاجها العثمانيون ليبسطوا السيطرة على كل العراق وباقي مناطق الخليج، و الشيخ قوة لأنه يسيطر على أبناء عمومته و هو مطاع، فحصل أغلب الشيوخ على أملاك و أطيان لم يحلم بها أحد. و ستبقى بأسمائهم مدى الدهر. و يؤكد لها (رسول لبدرية) أن البريطانيين فعلوا ذات الأمر في إعلاء شأن شيخ العشيرة، لأنها الوسيلة الوحيدة للسيطرة على عواطف الناس و اندفاعهم أمام أي ثورة ضدهم".
2 ـ شخصيات الرواية:
الأمكنة المكونة للفضاء الروائي في "حب عتيق" لها وظيفتها التاريخية و الأنتروبولوجية كما رأينا، لكنها في سياق هذا العمل الروائي الأدبي لها وظيفة جمالية بالأساس. جاء في كتاب "جماليات المكان" لغاستون باشلار، (ترجمة غالب هلسا/ الأردن) في هذا السياق: " إن "المكان الذي ينجذب نحوه الخيال لا يمكن أن يبقى مكانا لا مباليا، ذا أبعاد هندسية و حسب. فهو مكان قد عاش فيه بشر ليس بشكل موضوعي فقط، بل بكل ما في الخيال من تميز. إننا ننجذب نحوه لأنه يكثف الوجود في حدود تتسم بالحماية في مجال الصور، لا تكون العلاقة بين الخارج و الألفة متوازية...".
هو ذا واقع نماذج من الشخصيات الرئيسة في هذه الرواية ("عْبيّس" (عباس)، و "ستّار"، و "نعيّم". نماذج تتقارب بورتريهاتها السيكولوجية بأكثر من وجه شبه؛ في المكابدة اليومية لأجل لقمة العيش ، و في كونها ضحية الحب بسبب صراعات قبلية / عشائرية، و لأنها عايشت فترة الانتداب البريطاني و ما بعدها من حكم نظام ملكي مستبد. إضافة إلى معاناتها من التهميش و الإقصاء اجتماعيا و حتى وجوديا. و تتدخل شخصيات أخرى ليست أقل أهمية منها لتعزيز تقنية تعدد الأصوات الساردة لبناء موقف إيجابي من تناقضات الواقع و الظرفية التاريخية مثل شخصية "بدرية" التي لا تظهر في الرواية فقط كعاشقة لأغاني "ستّار" و حبيبة ل "نعيّم"، بل كأذن صاغية لزوجها "رسول" الذي كان ينوب على السارد الأصلي و الرئيس للرواية و هو يتحدث ل"بدرية" عن نظام العشائر و علاقته بالاستعمارين العثماني والبريطاني؛ و هو الدور ذاته الذي قام به "تاغي" و هو يحكي ل "عْبيّس" تاريخ الاستعمار على العراق، و قصة أبيه مع الجندرمة العثماني.
ولأن "الشخصيات لا تكتسب أهميتها الاستثنائية من حيث فعلها بالحدث فحسب ، وإنما بوصفها مكونـاً أساسياً لا يقوم الحـدث إلا به ، ولا يرسـم الزمان والمـكان إلا ليحتويا حركته أو ليجسدا انطباعاته عليهما ." (د. يوسف حطيني/ فلسطين)، فلقد وظف علي لفته سعيد شخصيات روايته هذه ليس فقط كنماذج بشرية تكتفي بالتدمر و الحسرة على واقعها المزري؛ فإن كانت أحلام "ستّار" الممنوع من العودة إلى قريته خوفا من ثأر دم عشائري بسبب قصة حب، تتوقف عند أمل تحقيق طموحه في أن يصبح مطربا في الإذاعة الوطنية، و إن كانت حياة "نعيّم" (الإبن الوحيد الذكر لشيخ عشيرة الذي انتهى مجنونا و متسولا بسبب قصة حب أيضا) هي الاختباء وراء لقب "مجنون" رفقة "عْبيّس" و "ستّار"، فمسار "عْبيّس" (عباس) رغم أنه الآخر كان ضحية الحب، و كاد يُقتَل بسببه، جاء في الرواية مختلفا؛ "عْبيّس" يتصرف و كأنه حامل لجينات أبيه الحمّال الثائرة ضد الاستعمار و الاستبداد و التسلط؛ و حتى إن كان يشارك "ستّار" في الغناء (و الغناء هنا استعارة لموقف يرفض الصمت و الانصياع و الخنوع)، و رغم تعاطيه لشرب الخمر، و مستواه الثقافي المتدني، فهو صاحب موقف ("مثقف بلباس حمّال" كما كان يراه "نعيّم" (ص. 170)، و عنوان المواطن البسيط الثائر؛ نقرأ صفحة 169: "أنا (القول ل "عْبيّس) عشت و عاشرت و شفت زمن العصمليّة و شفت الاحتلال الانجليزي... و شفت ثورة العشرين و اشتركت في ثورة الخمسة و ثلاثين، و يمكن أشترك بإسقاط هذه الحكومة." و كأنه اختزل 58 سنة من تاريخ العراق الحديث في جملتين. و كأن كل هذه التحولات في المشهد العراقي لم يكن لها أي تأثير إيجابي في حياة المواطن العراقي البسيط؛ إذ أضاف ("عْبيّس") بلغة غاضبة و جد ساخرة و هو مخمور: "المشروب أساس الملك (كناية على غياب العدل، تهكّما من عبارة "العدل أساس الملك") (...) و الفقر عنوان العراقيين" (ص. 170).
و لأن "حب عتيق" ليس رواية رومانسية تنتهي ب "قبلة تجمع حبيب بحبيبته" كما عودتنا شاشات السينما الكلاسيكية، بل كما وصفها المؤلف ب " بالحقيقة المتخيلة التي تصنع عالما آخر" (ص. 7)، أو غدا آخر، فهذا العالم الآخر المصنوع في آخر صفحة من الرواية جاء نسبيا و ناقصا و موضوع شك، لذا‘ فإن تم إسكات صوت "عْبيس"، و "ستّار" بفضائل ثورة تموز، أقحم الكاتب علي لفته سعيد موقف شخصية محمود الذي ظل "خائفا من القادم و هو يرى هذا الاندفاع في السيطرة بين الحزبين على المدينة و الشارع" (الصفحة الأخيرة 257). نهاية منطقية ربما في نظر الكاتب لأن القصة لم تنته، بل بداية لرواية أخرى على شكل جزء ثاني؛ و هو ما قام به الأديب علي لفته سعيد بإصداره الجزء الثاني فعلا تحت عنوان "قلق عتيق"، لنا فيه أكيد قراءة فيه بإذن الله في القادم من الأيام.
مع تحيات نافذة النقد و الأستاذ بوزيان موساوي. وجدة/ المغرب.





Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire

Remarque : Seul un membre de ce blog est autorisé à enregistrer un commentaire.