تحت عنوان: سؤال الكتابة الشعرية بنون النسوة بين جمالية الحرف، و استبداد الموقف.
صدر للشاعرة لبانة الجندي من بين إصدارات أخرى ديوان "جموح الخيل ـ هذيان أنثى و شاعر"، سوريا 2018. عن "دار بعل للنشر و التوزيع. سوريا. الكتاب من الحجم المتوسط (85 صفحة)، يضم، إضافة للأوراق الخارجية 55 نصا شعريا حديثا في تأرجح بين الشعر الحر، و القصيدة النثرية، و التراتيل الصوفية.
كتب مقدمته الأستاذ علي دلول، و ركز الإهداء على المرأة بصيغة الجمع.
سؤال رقم 1:
ـ كيف نكتب أدبا و ننغمس في ملكوت جمال يكون عنوانه الجموح؟... كيف نصنفه في جموحه شعرا، و لغته تعلن بصرختها في آذان القراء أنها هذيان؟... و كيف للجامحة / الهاذية / الأنثى أن تخاطب بجنون الشعر ذكرا هو في القصيدة شاعر؟...
"الجموح" لغة و بلاغة صفة مشبهة تدل على "الثبوت"؛ و يوصف ب "جموح العاطفة" (في القواميس) من "ينقاد وراء عاطفته و هواهً، و يصعب ردّه"، و الخيل أو الفرس الجموح، هو "الحرّون، المندفع المًستعصِي على راكبه..."
ـ جموح الشاعرة ثورة ضد القمع، و الانصياع لثوابت تلغي حرية التعبير، و الانطلاق، و العشق؛ كتبتْ الشاعرة تقول في نص تحت عنوان: "جموح الخيل":
" صهيل الخيل
يسرقني من غفوة كاذبة
حوافرها
تذرُ العيون
غباراً تشبث بالرؤى
فأعمى المقلتين.....
هيجانها
يرجّ الجمود المصطنع في ذاكرتي
علّي لا أرى ما أراه
ولو مطبقة الجفنين
جنّوا...
جنون العشق
مهرةً...
استوت على عرش الجمال
قد جاء فارسها
بلا لجام...
هدّت صهيلاً
واستراحت بين الراحتين
هدهدها...
هدهدها...
فأبت حوافرها الرحيلَ...
هو الحلم ("علّي لا أرى ما أراه مطبقة الجفنين"... )، و هو الصوت لدابة جامحة بعنوان الصهيل ("صهيل الخيل")، لكنه صهيل الحنان و الأمان و الاستقرار:
("هدّت صهيلاً
واستراحت بين الراحتين
هدهدها...
هدهدها... ")؛
هو جنون العشق و الجمال:
("جنون العشق
مهرةً...
استوت على عرش الجمال ")؛
هو الحرية ("بلا لجام").
سؤال رقم 2:
ـ و ما علاقة الجموح بالهذيان؟... الهذيان لغةً هو الكلام في مقامٍ بين منزلتين؛ بين الصّحْوِ و الإغفاء. هو إطلاق عنان اللسان كما لحظة تنويم مغناطيسي يعطي الكلمة لللاشعور... هو الكلام الذي يتمرد على العقل و التفكير... قد يكون نتاج سكرات الموت، أو في موقف انفلات يُساوي الجنون، أو لحظة انتشاء تحت تأثير مخدر، أو كحول، أو هوس عشق يُنصِتُ لمنطق قلب متمرّد على منطق الواقع و المعقول؛ كتبتْ الشاعرة تقول في نص "هذيان أنثى و شاعر":
"و ارتشف خمراً تعتّق...
لن يزيدكَ السُّكر هياماً
بل يفيض منك
ما يغني القصيدة
لك ركعتان بين شطريها
فَلْتًصَلِّ
عشراً من القُبَلْ
وتبتهل... لإله العشق
أن لا ثانٍ لنا
بل...
واحدٌ أحدْ".
الهذيان؛ هذيان الأنثى الشاعرة، كما جاء في النص، يفوق منطوق المُنتشي بخمرة مُعَتّقة؛ هو هذيان العشق، له محرابه كما في طقوس صلاة، و له إله ("إله العشق") هو واحد أحد ("لا ثانٍ لنا، بل... واحد أحد"). تناص واضح انزياحا و تلميحا يجد مرجعيته في اقتباس شبه واضح بشعر المتصوفة الذي كان يصبو كما عند "الخيام"، و "رابع العدوية"، و "الحلاج"... إلى سموّ عشق يتوحّد فيه اللاهوت بالناسوت... نقرأ في نص "هذيان أنثى":
1- " أرجواني الهوى
من كان جمره حالما باللهب...
2- هذيان العشق آياتٌ
يرتلها مجانين
وتنزل وحيا
على كل المحبين...
3- لن أغمض عيني حتى تحتويك
فأطلق جفوني
كي لا يراك العوازل
وأمتع قلبي
بهمسك في شغافه"
سؤال رقم 3:
و الأنثى؟ و الشاعر؟
كل هذا الجموح الثائر، و كل هذا الهذيان العاشق تارة باسم حرية غير مشروطة إلا بالعشق في مدن الأحلام و الأوهام، و تارة أخرى تحت قبة محراب صلاة تواق لملكوت مطلق و مقدس... كل هذا الهروب إلى حيث لا عقل و لا منطق، و لا نوم و لا صحْو، يسترجع وعيه فجأة، لمّا تستعيد الأنثى/ الشاعرة هويّتها كامرأة، فتشير بالأصبع اتهاما واضحا لعالم ذكوري لا يعترف بأحلام أنثى "حبلى بالمستقبل"؛ عالم يُحرِّمُ حتى الأحلام؛ نقرأ في نص "صرخة حبلى":
" وكانت صرخةُ حبلى
ظنّ البعضُ...
ولادة
دوّت جبلاً
لَطَمَتْ قعرَ الوادي
ياااااااااا ثائر...
بات الحلمُ الأحمرُ أسودَ
يااااااااأطرش...
إسمع موسيقا لم تعهدها
طقطقةٌ...
تضجّ بلقاءِ الفكرِ الصّارخِ
تسرعُ مقفلةً أبوابَ القولْ
وقرارٌ بالفصلِ
اتُّخذَ غيابياً...
" كوني وحدكِ"
والطفلُ الخارجُ من أحشائكِ
لا يَلزَمُنا... !!!!
هي الأنثى الحبلى/ كما بأرض موعودة، تحمل في أحشائها نبوءة، تبشر بمستقبل لا يشبه ما تحمله الفصول الأربعة، يُرى وراء آفاق حساب الشاعرة ربيعا آخر غير الذي ألفناه جافا عاتيا عقيما، أطلقت عليه الشاعر لبانة الجندي اسم "الفصل الخامس"؛ نقرأ هذا المقطع من نص: "الفصل الخامس":
" قد غدت حبلى...
بعد عرس زينته الزغاريدُ
احتفاءً ببهائه
وأكفّ حنّاءٍ
لونت أزاهيرك..
فكان الفصل...
خامساً...
هو ذا ... ما ننتظر
نترقب الفصل الذي لم يكتمل
لم يسمَّ....!!
هو معنى من معاني
الحب...
والخير... والعطاء
حينها نحيا بذاتك
قيدَ بشر ... "
ـ و لأن الأحلام ممكنة، و لأن الشاعرة المثقفة الواعدة تنزل من برجها العاجي، و كأن بعد "المعراج" في ملكوت سماء، "إسراء" إلى حيث الأرض واقع و حياة و مصير، أطلقت العنان ليراعها حتى يعترف الرجل/ الذكر بكيانها وجودا و ماهية، فاستعارت لسان ذات متكلمة تنتمي لعالم جنس ذكوري بهوية شرقية غارقة في المتناقضات؛ ذكر يعترف بحضن المرأة أرضا و أمّا و ملاذا و مرجعا و هوية؛ فنقرأ في نص "المرأة" بلسان رجل:
" أيا امرأة
كوني أرضاً
واحتضني كياني
فأنا المرميُّ
على قارعةَ الذكورةِ
أتوحّدُ بالغاباتِ
أدورُ في فلكَ الرّغبة
أتوهُ في عمقِ أحاسيسي
أتشظى متناثراً
على نيرانِ الشّرقِ
التي امتثلتْ لعشتاركِ
ولم تعطِ إنكيدو
حقّ الأبوّة
لولا حنانكِ
كنت أنا الأحمقَ
والتنينَ الضاربَ...
أبتلعُ ذيلي...
وأظنّ أنّ بقايا اجتراري
هي إنسانيتي
ألوذُ بهمسكِ ...
أدركُ من أنا..."
السؤال رقم 4:
و الموقف؟
هنا مربط الخيل الجامحة في ديوان الشاعرة لبانة الجندي؛ إنّ الذكر في القصيدة شاعر؛ بل شاعر عاشق، و متى عشق الشاعر بصدق، و اكتوى بنار الصدّ، و الفقد، و احترق بلظى الحنين و الشوق، إلا و أعطى معنى لدموع الرجال. و لأن الرجل الشرقي في مخيال الشاعرة لا يبكي إلا لماما، فلقد جعلته في "هذيانها" يبوح و يبكي، لذا كتبت بلسانه نص "بوح الرجولة" تقول فيه:
"و بوحُ النهرِ ماء
وبوحي شقاءْ
دمعُ السّحابِ...
عناءٌ
ودمعُ الطفولة...
غناءْ
لا تعيبُ الرجولةَ ...
دمعةٌ
بل... تزيدها نقاء
من لا تفي عيناه بوعدِ روحهْ
فلم يذقْ طعمَ الهوى
ولا كانَ
العناقْ".
الجموح في هذا الديوان ثورة على قيم بالية عتيقة... و الهذيان بلسان الشاعرة قصائد شعرية سلطتها بلاغة تستنفر الذائقة التقليدية لتنخرط في عوالم حداثية من صرخة أنثى... و الشاعر في النصوص كائن ورقي من صنع جموح و هذيان يُطلِّق ميراثه الشرقي المجحف في حق المرأة ليبوح أسفا و اعتذارا و ندما، شعرا، و حتى بكاء بكيان أنثى جعل منها أرضه، و مركز كونه، و سرّ وجوده حاضرا و مستقبلا؛ يؤمن بدين العشق و يذوب في وحدانيته..
عزيزاتي أعزائي قراء نافذة النقد، قراءة ممتعة أتمناها لكم لديوان " "جموح الخيل -هذيان أنثى وشاعر" للشاعرة السورية صديقتي الأستاذة لبانة الجندي.
مع تحيات نافذة النقد و الأستاذ بوزيان موساوي. وجدة. المغرب.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire
Remarque : Seul un membre de ce blog est autorisé à enregistrer un commentaire.