"تجرعت كأسي" مجموعة قصصية قصيرة جدا، للكاتبة و الشاعرة المغربية فاطمة الشيري
تحت عنوان: القصة القصيرة جدا بين منطق المفارقة و التعبير الانفعالي.
ذ. بوزيان موساوي . وجدة / المغرب
الكتاب من الحجم المتوسط... 100 صفحة.. 92 نص قصصي.. صدر عن مطبعة الكرامة الرباط / المغرب، الطبعة الأولى 2018... الغلاف: مصطفى فريقش.. تقديم ذة. نزهة الغماري.
تمهيد:
صراحة، لا أخفي على القارئ الكريم كوني أتعامل مع هذا الجنس الأدبي الحديث النشأة (القصة القصيرة جدا) بكثير من التحفظ و التردد... هو جنس أدبي لم يدقق بعد نظريا في تعريفه، و شروط كتابته، و بنيته، و معالمه... هناك من يعتبره لشدة قصر طول كل قصة وليد أزمة قراءة، فعلى حد تعبير بعض النقاد: ما عاد الوقت يسمح للقراء ـ مع استثناءات تعد على رؤوس الأصابع ـ قراءة الروايات و المسرحيات و بعض القصص بسبب طولها، و بسبب إكراهات العولمة و الأنترنت و الالتزامات اليومية... و أصبحت القراءة شبيهة باستهلاك الوجبات السريعة...
إجابة عن سؤال بهذا الخصوص، قال الباحث مصطفى لغتيري (حسب حوار له مع منتديات وانا الحضارية 29/10/2006):
"حين أفكر في القصة القصيرة، يمثل أمامي حيوان الزرافة.. فالمتأمل في هذا الحيوان، سيلاحظ أنه استعار كثيرا من أعضائه من حيوانات أخرى، ومع ذلك فهو حيوان جميل، لا يعيبه في شيء هذا الاقتباس، و لا يحط من شأنه.. فالقصة القصيرة أشبه ما تكون بالزرافة، فهي جنس هحين أخذ من الأجناس الأخرى أكثر صفاته و خصائصه.. فمن الرواية استعار النفس السردي و الاهتمام بالتفاصيل و الوصف.. ومن القصيدة الشعرية اقتبس التكثيف و التوتر و الإيجاز.. ومن المسرحية النفس الدرامي و تجسيد الأحداث و الحوار.. ومن المقالة الدقة، و التحليل المنطقي و القصر.. ومن الموسيقى الإيقاع الداخلي الذي يتميز به النثر الفني عامة."...
و إن كان هذا هو تعريفه للقصة القصيرة، فالقصة القصيرة جدا حسب نفس التشبيه، ستكون "زرافة قزمة"...
و إن استمعنا إلى انطباعاتنا و نحن نقرأ نماذج منها، ينتابنا شعور أنها وليدة لحظة انفعال كاتبها أمام حدث معين، أو هي إفراز لحالة نفسية مكبوتة... تحتاج لطقوس كتابة توفق بين منطق المفارقة (Logique de l’absurde) و التعبير الانفعالي (expression émotive)..
ـ تمظهرات منطق المفارقة و التعبير الانفعالي في مجموعة 'تجرعت كأسي":
قبل مقاربة هذا المبحث، لا يجب أن يغيب عن أذهاننا أننا نتعامل مع جنس أدبي، و بالتالي أمام متن قصصي ذو قيمة جمالية بالأساس.. الشيء الذي يجعلنا نذكر بأهم مرتكزاته..
و في هذا السياق ارتأينا الإحالة على رأي نتبناه جملة و تفصيلا ورد على لسان الباحث حسين المناصرة في حوار له نشر بمجلة دنيا الوطن بتاريخ 16/06/2005 يقول فيه:
"يحدد مصطلح "قصيرة جدا " جماليات جنس أدبي سردي هو " القصة القصيرة جدا " في مواجهة الجماليات السردية الأخرى التي من ببينها على وجه التحديد : الرواية، والقصة، والقصة القصيرة ، فتقع بنية القصة القصيرة جدا – ضمن هذا التحديد- في المستوى الرابع من جهة نوعية الحجم التنازلية من الأوسع إلى الأضيق ؛ وبذلك تغدو القصة القصيرة جدا أصغر حجم يمكن تصوره في مجال سياق القص بمفهومه العام داخل دائرة السرد المتعددة الأجناس(...)
في ضوء ما سبق يعني لنا تحديد هذا المصطلح أن نفرض جماليات خاصة تعنى بهذا النوع من السرد ، ربما من أبرزها: تحقيق درجة عالية من التكثيف اللغوي والاختزال في المضامين ، بحيث تكون القصة القصيرة جداً في حدود مئة كلمة ؛ و تحقيق درجة عالية من الشعرية في اللغة والدلالات عن طريق تشكيل الإيقاع اللغوي الحاد في موسيقاه الخارجية والداخلية؛ وتحقيق درجة عالية من الكسر والتجاوز لتقليدية الزمكانية والحدث والشخصية و اللغة التقريرية المباشرة .. ؛ وتحقيق درجة عالية من الانفتاح على مفهوم التجريب في سياق ما يعرف بجماليات الحداثة الأدبية ؛ وتحقيق درجة عالية من الانفتاح - إلى حدود الحيرة - في تجنيس هذا النوع من القص ، لأنه يتكئ على تداخل الأجناس الأدبية وغير الأدبية مما يشكل مفهوم "النص المفتوح " في حقل حساسية الكتابة الجديدة "...
و حتى نقترب أكثر من عوالم هذه الجمالية، لنقرأ معا بعض النماذج من مجموعة "تجرعت كأسي":
ـ قصة "لوم" (ص. 39 ):
"استفسرته بسؤال استفزه.
جوابه أخرسها
ابتلعت لسانها
اختنق."
حالة الانفعال الأولى (سؤال استفزه)... انفعال بلغة الصمت: أي سؤال؟ لا نعرف.
حالة الانفعال الثانية (جوابه أخرسها)... انفعال آخر بلغة الصمت: أي جواب؟ لا نعرف.
حالة الانفعال الثالثة (ابتلعت لسانها)... ردة فعل أولى بلغة الصمت، استحالة الكلام.
حالة الانفعال الرابعة (اختنق) ... ردة فعل ثانية بلغة الصمت: الاختناق.
هو تكثيف بإسكات الأسئلة و الأجوبة و ردود الافعال...و يصاحب هذا الموقف الانفعالي ـ بمنطق الصمت / المفارقة ـ إيقاع داخلي شعري بسطر أول طويل، و سطر ثاني و سطر ثالث بنفس الطول و الايقاع مع القافية، و سطر ثالث بمفردة واحدة (اختنق) لضرورة القفلة و التعبير عن حالة السكون / نهاية القصة.
و تكرار حرف صوت السين على طول القصة (استفسره، سؤال، استفزه، أخرسها، لسانها) تعبير عن صفير احتجاجي وسط الصمت، ينتهي بتكرار حرف آخر مرتين الخاء (أخرسها، اختنق)، و يدل هذا الحرف (كما ورد عن "تطبيقات نحوية و صرفية و إملائية" على الكراهية وكل ما هو مكروه من الإنسان
فكل كلمة تحوي حرف الخاء ضمن حروفها تدل على أنها اسم شيء مادي أو حسي مكروه لدى الإنسان ويعتبره بغيضا ً أو شيئاً ينفر منه...يســــــــــــــتثنى من ذلك بضع كلمات لا تتجاوز عدد أصابع اليد مثل (خير / خبز / خلق / خبر .. ).. و يبقى هذا التأويل نسبيا، يفتقد للمصداقية العلمية...
قصة "تباه" (ص. 25 ):
"في صالون أنيق اجتمعوا، أزياؤهم راقية،
حليهم ثمينة، عطورهم باريسية.. وجوه أعيد
ترميمها.. تضاريس اختفت، بطون شفطت
كل شيئ كان باذخا.
إلا ألسنتهم تلوك لحما".
لهذه القصة القصيرة جدا خصوصية بالغة من حيث البناء، و توظيف عناصر السرد، و استعمال الرمز، و اختيار المعجم:
فيما يخص ركائز السرد، نلاحظ حضور المكان / فضاء القصة (في الصالون) على حساب عنصر الزمن الذي غيب تسمية و تدقيقا وحضر عبر صرف الأفعال بين الماضي و المضارع ("كل شيء كان باذخا" (الماضي بفعل ناقص) و "تلوك لحما" (مضارع يدل على حاضر الظرف)... و كأن المكان هو المحور / البيئة التي تتحرك فيها الشخصيات و تتطبع بها... شخصيات بدون أسماء بصيغة "هم"، نتعرف إليهم من خلال مكان تواجدهم (في الصالون)، من أزيائهم (أزاؤهم راقية) و حليهم (حليهم ثمينة)ن و عطورهم (عطورهم باريسية)... شخصيات تعيش في بحبوحة عيش (كل شيء كان باذخا) لكنها مغيبة بغياب الحدث: قمة السخرية من طبقة اجتماعية ليست تملك سوى ألسنتها، و ألسنة تلوك لحما...
قصة "مر العمر" (ص. 40):
خلاف القصة السابقة، يحضر عنصر الزمن في "مر العمر" بكل كثافته و سمكه و ثقله تعبيرا عن حتمية مصير... حضرت شخصية القصة حفل تكريم موظف، نفهم من السياق أنه أحيل على المعاش... حضور يخبئ مصيره، لأنه هو الآخر سيتم تكريمه.. و المسافة الزمنية في القصة بين التكريم الأول و التكريم الثاني زمن غفوة ("غفا مع صخب الأجواء")... العمر في القصة رحلة قصيرة جدا...
و كأن بهذه القصة تحيلنا الكاتبة فاطمة الشيري على سيرتها الذاتية هي: إحالتها بعد عمر من التفاني و الإخلاص لرسالتها كعلم من أعلام التربية و التكوين على التقاعد.. و كأن حياتها المهنية هي الأخرى دامت زمن غفوة...
و من خلال هذه النماذج (على سبيل المثال لا الحصر)، نستنتج أن الكاتبة و بفنية عالية استطاعت اللعب على المفارقة بين الواقع المعيش كما هو كائن و الواقع كما تفاجئنا أحداثه و تقلباته... و هذا ما أشار إليه الباحث جاسم خلف إياس في مقال له تحت عنوان "المفارقة في القصة القصيرة جدا" نشر بتاريخ 30/11/2008 ، هذا مقطع منه:
" تعد المفارقة تقانة مهمة من تقانات العمل القصصي ، إذ تحول التداولي الحياتي إلى معطى لغوي ذي حمولات متزاحمة، يقترح اقتفاء حساسية الفعل الإنساني في ((واقع متخم بالمفارقات اليومية الساخرة ومجالات الحياة المختلفة, فهي توفر لنا فرصة التقاط المفارقات ورسم صورة كاريكاتيرية سريعة نافذة لحالة ما..)) وتعد المفارقة لعبة عقلية ذكية من أرقى أنواع النشاط العقلي, إذ هي على الرغم من أنها استراتيجية في الإحباط واللامبالاة وخيبة الأمل؛ إلا إنها في الوقت نفسه تنطوي على جانب ايجابي، فهي سلاح هجومي فعّال، وهذا السلاح هو الضحك الذي يتولد عن التوتر الحاد وليس عن الكوميديا. وإذا كانت المفارقة تعني في ابسط صورها القصصية جريان حدث بصورة عفوية على حساب حدث آخر هو المقصود في النهاية، أو هي تصرف الشخصية تصرف الجاهل بحقيقة ما يدور حوله من أمور متناقضة لوضعها الحقيقي، فهي تقانة قصصية يهدف القاص من وجودها النصي الخروج على السرد المباشر وهو خروج يبعث على الإثارة والتشويق في أربعة عناصر) "...
و لنا عزيزاتي أعزائي القراء مواعد أخرى مع مبدعتنا الكاتبة فاطمة الشيري... قراءة ممتعة أتمناها لكم لمجموعتها القصصية الجميلة "تجرعت كأسي".
*******
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire
Remarque : Seul un membre de ce blog est autorisé à enregistrer un commentaire.