mardi 14 mai 2019

فرحة موت // حبيب القاضي // تونس


بكل ذلك الصّفاء، لم تصب ذرة غبار الصورة في ذاكرتها، كان الفصل صيفا في تلك المنطقة الجبلية- عين الذهب..تسمى-، ليلة مقمرة لا نسائم فيها، أوراق شجرة الكالتوس الكبيرة تبدو كأنها معلقة بخيوط غير شفافة في السماء، هدوء و سكينة تامة، أصوات الصراصير و نقيق الضفادع يصل إلى الأذن جوقة طبيعية، تحت نور القمر الفضي ترسم الظلال وسط الفناء لوحة رائعة كأنها بقلم الرصاص، كان ممدّدا على فراشه، منعدم الحركة، لم يعرف الأطباء سبب مرضه، منذ تزوجته لم يُصب بغير نزلات البرد الخفيفة، الآن بدأ جسده يتهاوى قطعة، قطعة.. قيل لها بعد الفحوصات أن هذا المرض نادرٌ، تبدأ أطراف الجسد بالتيبس، تفقد الحركة و الإحساس، ترتخي العضلات و تجفّ الشرايين، فيتحول المرء إلى مومياء، آخر ما ينتهي تكلسا من الجسد هو المخّ، يظل المريض مدركا و قادرا على الكلام و لو همسا إلى ان يجف و يموت..ليلتها أشار بعينيه إلى " النوالة" و همس بصوت خافت:" أعرف أنني سأموت بعد مدة قصيرة، سأعلمك بأمر، حين تدخلين إليها،على يمينك هناك حجارة أسفل الحائط فيها عروة منقوشة، احفري تحتها مباشرة مقدار نصف متر، ستجدين ما تركته لنا رحمها الله" تنهد بقوة و صمت قليلا ثم أضاف مشيحا ببصره إلى الأفق.." ليلتها كنت معهم، أنا من حملها لهم، لم أكن أعلم أنها ستموت و ستكون فدية الكنز، كنا بحاجة إلى قليل من دمها، ثقب إبرةوراء أذنها اليمنى.. لكن الله غالب كان قدرها أن تموت هكذا.. رحمها الله "لم يضف شيئا بعد ذلك، لم تظهر أي انفعالات على ملامح وجهه، كان كتمثال و هو يتكلم بهدوء..هي الآن ليست نادمة عمّا حدث ليلتها، تشعر بارتياح كبير رغم فضاعة ذلك المشهد..تزوجته و هو يكبرها باثني عشرة سنة و خمسة أشهر و أحد عشر يوما، تذكر جيدا فارق السن، كانت الدور قليلة و متباعدة على سفح ذلك الجبل، الفقر نمت مخالبه بين الناس، أنجبت منذ بداية الزواج ابنها البكر يوسف، بعد سنة و ثمانية أشهر جاءت فضة، بنت تشع حيوية و نورا، محمرة الخدين منذ ولادتها، " حرجها في الاكحل" كانت تقول حين تذكرها. كبرت البنت إلى أن بلغت ست سنوات، تتأهب للالتحاق بالمدرسة في السنة القادمة، كانت مساء تلتحق بوالدها حين يكون يوسف بدوام المدرسة، تعود معه و هي تطوف بالقطيع كجرو الحراسة.. لم تعد معه في ذلك المساء، أعلم والدتها انها لم تلتحق به، حين علا صراخها أمرها بالصمت.."لن أعود حتى أجدها، لا تخبري أحدا.. إياك أن تفتحي فمك" ثم غادر.. لم يعد إلا مع شروق شمس الغد، مرّت ساعات الليل و هي بين هول الفقد و كثرة الاحتمالات، بين الفاجعة و أمل الإنتظار، حرقة في القلب و انكسار في الروح، صواعق يأس تتالى في تلك الساعات يشقها وميض الرجاء.. عاد وحيدا، محمرّ العينين، شاحب الوجه.. " ما لقيتهاش، درت الجبل حجرة حجرة.. ما لقيتهاش".. شاع خبر ضياع الطفلة، بحث جميع المتساكنين، الحرس الوطني، اختفت الفتاة و حملت معها السرّ.. أيام و ليال، بل عمرا كاملا و ذكراها كقبس منارة على شاطئ بحر، تشع صورتها في عيني أمها، تسقط على خديها مع الدم الحارق.. اختفت و سُجلتْ مفقودة في ظروف غامضة.. من هول الفاجعة انقطع الحيض على الأم، فقدت مبكرا ابنتها و أمل الإنجاب مرة أخرى..
 ازداد بطشه و جبروته، نمت ثروته بعد أن استثمر مع شريك له في تربية الأغنام، أصبح متلهفا لشراء مزيد من الأراضي، كان عدائيا مع أقاربه و جيرانه، ينفق بلا هوادة في قضايا الخصام و رشوة الحرس و المحامين و القضاة، أصبح الكل يخافه، أرعبهم بكيده حتى أصبح كثيرون يتزلفون إليه خوفا لا طمعا.. اقام منزلا كبيرا بفناء حوشه و تعدد غرفه، حافظ على "النوالة" فقط، جعلها مخزنا للوازمه العتيقة، المحراث الخشبي، الشاقور، السرج و ركاب الفرس و أشياء أخرى.. أما هي، فلقد حولها إلى كتلة لحم، كان يضربها متى شاء و لأتفه الأسباب، قطعت تواصلها مع أهلها، طبقت أوامره كعبد مطيع، لا شهوة لها إلا شهوته، لا رغبة لها إلا تلبية رغبته، حطم كل ما لديها، كبرياءها، أنوثتها، إحساسها بآدميتها.. كانت تعد الأيام في رضوخ و صمت، اعتادت كل توحشه حتى أصبح عقابه أمرا عاديا.. تذكر كيف أنها كانت تنزف من أنفها حين وقف ابنه أمامه في تحدّ و صرخ " ماعادش تمسها.. وإلا نقتلك"، جنّ جنون الأب و أحرق كل كتب يوسف و ثيابه و أطرده " أخرج من داري.. ماكش ولدي، ترجع أنا نقتلك".. غادر الولد و هو يقول لأمه "سأكون بخير.. سيذهب و نبقى".. الآن لقد صدق ابنها، ها قد غادرهم جيفة، و هاهي تشعر براحة كبيرة، روح يافعة نمت لديها، إشراقة شمس تعلو وجهها حين تنظر في عيني ابنها بعد أن رحلوا من ذلك السفح اللعين.. لقد أنهت مهمتها ليلتها، بعد أن أكمل حديثه، تناولت من فوق الخزانة إبرة كبيرة يسمونها "مَخْيَطْ"، نظرت في عينيه و وجه فضة يبتسم لها، غرست الإبرة في قفا رأسه بكل قوتها، كتمت صراخه، كانت تردد فقط " سأقتلك كما قتلتها ولكن بفرح كبير يغمرني" راقبته حتى تأكدت من موته، لم ينزف كثيرا في قطعة القماش، مات بكل بساطة، دون أن يتمكن من إطلاق صرخة وجع.. بدا موته طبيعيا بين المتساكنين، بعد أقل من أسبوعين، غادرت مع يوسف الجبل و استقرت بالعاصمة، تعيش حياة رخاء و هدوء، استعادت جمالها فبدت كأنها شمعة منيرة في كنائس 
المدن الكبيرة.




Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire

Remarque : Seul un membre de ce blog est autorisé à enregistrer un commentaire.