سمحت الكرة النحاسية الغاربة على مهل، فوق رؤوس اشجار النخيل السامقة،بخروج الاهل امام عتبات البيوت الواطئة،بغية استنشاق نسمات باردة نقية وتبادل الحديث ومستجدات أخبار الحي الذي لا يعدم جديدا ،يوازيه خروج الأطفال واللعب بالقرب تحت أعين الاهل
خرست الألسن وحملقت المحاجر،بعد أن تكلمت سيدة قصيرة،ممددة القدمين ،واشارة من يديها تقول : إلى الجحيم ،،،
لقد اختفى زوجها مع ضرتها،تاركا إياها وصغارها دون معين أو معيل،لولا تضامن الأحباب والجيران الذين التفوا حول المرأة وصغارها الثلاثة،تخفيفا للجرح العميق.
لم تركن المرأة القوية المجدة إلى الانزواء والبكاء والنحيب الذي اراده لها المختفي تحت جنح الليل،بل جردت على ساعدها،وشقت طريقها بعد ان لمت فراخها،فأدفأتهم بعطفها وحنانها ورقتها،زارعة فيهم القوة والطموح،فكانت لهم الأب الزاجر،والأم الرؤوف.
تابع الأولاد دراستهم كغيرهم من الأولاد،نجح من نجح،ورسب من رسب،وانقطعت من انقطعت كغيرها من المرغمات على القليل من العلم الذي تجرفه الأيام.
عرفت هذه الأم القوية،احترام الجميع،فالكل كبارا وصغارا يعتبرونها أمهم،ولهذا فهم ينادونها : أما عيشة،خذي اما عيشة،على مهلك اما عيشة،مساء الخير /صباح الخير اما عيشة.مرحة،بشوشة تستجيب وابتسامة خفيفة على محياها المشرق دوما،ذلك انها لا تثقل على ذاتها رغم قلة ذات اليد،والتي عرفت بتدبيرها المحكم كيف تستكثرها حتى تلبي حاجة الأفواه الصغيرة.
أما عيشة،شهامة كبرى،امرأة ذات إرادة تتحدى الجبال،لا تتأخر ابدا،تعرف مرادها واليه كالسهم تنطلق في همة لا تعرف الخذلان،الى جانب هذا الوجه الذي لا يعدو أن يكون احد تحديات وجوه الزمان القاسية،تسكن الرقة واللين والرحمة قلبها وعيونها ويديها اللتين لا تبخلان عن المساعدة لمن يقف امام باب بيتها.
على رأسها ويديها حملت اما عيشة اطباق الخبز الى الفرن،أيام كان هذا الأخير مزار كل رغيف ذهبي يغري بتناوله دون مرق،فقط مع الشاي إن وجد،ولإلا اكتفى برائحة حطب الفرن المعطرة،فهي المرق،وهي الشاي،أوفي عوض ذلك،لزمن ما فتئ يتصادى إزاء كثرة المستهلكات،التي لا شك لها ما لها،وعليها ما عليها.
تعود اما عيشة وقد جمعت الأطباق الثلاثة،في طبق واحد يسهل عليها المهمة،حتى اذا بلغت صاحب الطبق،نال طبقه ومنديله الملفوف على أرغفته،وطورا ٱخر تعود والأطباق على رأسها ويديها حتى ٱخر طبق، وهي في همة وحيوية وابتسامة،يباركها الجميع لتضحيتها واستقامتها ونبل أخلاقها،مما أكسبها حضورا متميزا من لدن الجيران،أو غيرهم الذين تبادلت وإياهم المصلحة الكثير من الود والصداقة والتعاون.
جابهت اما عيشة ظروفها بعزيمة لا تعرف التردد،فتحدت الزمان الذي لم يأخذ منها شعلتها وإقبالها على اعتناق الحياة البسيطة عبر عملها الذي قوى عضلاتها.لم يستطع الزمن أن يترك أثره على نفسها إلا مختلسا،وهي الدؤوبة على الحركة على مدار الساعة.
ترتب عن مجهودها الشاق،عش جنب الأسرة الكراء والانتقال المتكرر والمباغث أحيانا كثيرة.ساير هذا كبر الأولاد وزواجهم اولا بأول،ثم هدم البيت الطيني ،فأغدقت اما عيشة الكثير من الصواني وتبعاتها على السواعد الشابة،وهي فرحة لا تعدلها الا فرحة اما عيشة، وهي ترنو الى جدران بيتها تتسامق يوما بعد يوم، تتخللها دعواتها لهم باليمن والصحة والرزق الموفور.تفرح الايادي لرؤية اما عيشة،وهي تطوف وتعاين البناء تحت نظر البناء الذي تتبادل معه الحديث،متسائلة عن مرفق كذا وكذا.
خف الضغط على اما عيشة،وعرفت بعض الارتياح،غير انها لم تتخل عن تمديد رجليها الى السوق،وهي تحرك يدها الممسكة بجنحة ازارها ،كل هذا حفظ لها النشاط والحركة التي قل ما تعرفها مجايلاتها.تقدمت في خطوات التيه،فدب الوهن والمرض،والتف حولها صغار الأمس،لتنتقل إلى متواها الاخير،وخلفها مسكنها تزوره الشمس كل يوم إحياء لذكراها،وسلاما لروحها التي لا ترضى إلا بمرتبة النجوم المشعة نورا بعيدا في أرجاء القبة الرمادية.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire
Remarque : Seul un membre de ce blog est autorisé à enregistrer un commentaire.