قد أختفي في أيّ لحظة و لا أعرف متى أعود.. لا تقلقْ فلا شيء أقرب لي من الصمت الآن.."
حين
رفعتُ بصري عن شاشة الهاتف، كان الرّجل بجانبي يمسح قطرات البيرة الذهبية العالقة
في شاربه الأبيض. سمعته يتمتم " ما أطيبها رغم أنها تستفزّ ارتخاء مفاصلي
بالذهاب إلى الحمّام"..،جعلتني جملته التي استرقت سمعها أبتسم، كبار السنّ لا
يتخلّون عن شغفهم مهما أرهقهم ذلك.. أومأتْ لي سيدة بأن أعيرها ولاّعة سجائر،
خمّنتُ أنها كانت تراقبني، لم تنتظر إجابتي و جلست بجانبي، نفثت الدخان عالياً..
"إيّاك أن تستدرجك الكتب و الروايات".. أمسكت الرواية التي كنت
اقتنيتها.. " لم نسْلم من نيرودا حتى بعد أن استنفذنا العمر" و أردفت
"كل شيء يبدأ بالكلمات، قد لا تسمع ما يثرثر هؤلاء لكنهم في نهاية المطاف
سيعجزون عن الصّمت.. الكلمة ورطتنا، أنشوطة صيد، إنها الشِباك التي يتجمّع الناس
فيها و أفواههم فاغرة ينصتون إلى خطابات السياسيين، الكلمة هي الجمرة التي يلقيها
العاشق على صدر حبيبته فيتحفز الدم في أوردتها، ترتفع حرارة جسمها و تصبح ليّنة و
ملتهبة كمهل بركاني.. الكلمة يا صديقي هي الخنجر المغروس في القلب، هي سوط الله
على ظهور خلقه حين يشتاق جلدهم.. إيّاك أن تتوّرط في الكلام فإن أسوأ حالات
الإنسان حين ينشغل بالتفكير ليجد ما يقول.."
أشعلتْ
السيجارة الثانية و غادرت إلى طاولتها، لم أقل كلمة واحدة.. هكذا هي بعض اللّحظات
تفرض عليك مقاسات الأفق و تجعلك تختزل الأشياء..
أعدت قراءة الرسالة المقتضبة.. بدا الماضي الذي كابدت كي أراكمه و أبنيه
ضئيلا.. كذلك كان القادم شاحباً دون ملامح.. دوّنت على الصفحة الأولى من الرواية
" إنّ شعوراً يداهمني الآن.. شعور مباغت كأنّ من أقرضني باقي أيام عمري يريد
استرداد دينه.. أرجو ألاّ يطول غيابك و تشهدي رحيلي."
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire
Remarque : Seul un membre de ce blog est autorisé à enregistrer un commentaire.